الاثنين، 24 فبراير 2014

المعاونة والمظاهرة والمؤازرة الحبيب عبد الله بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي


رسالة
المعاونة والمظاهرة والمؤازرة
للراغبين من المؤمنين في سلوك طريق الآخرة



للإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد
الحبيب عبد الله بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم

ربِّ يسر وأعن يا كريم، وافتح بالحق وأنت الفتاح العليم. (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم).
الحمد لله الواحد الجواد الوهاب الرزاق الحنان المنان، الذي بعث محمداً خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم برسالته إلى جميع الإنس والجان، وأنزل عليه القرآن، فيه هُدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وشرع له ولأمته ما وصّى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى، وفضّل دينه على سائر الأديان، وجعله أكرم خلقه عليه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتعاونون على البر والتقوى ولا يتعاونون على الإثم والعدوان، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويتواصَون بالحق والصبر، ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لَومة لائم من أهل الزيغ والخِذلان، فما يصد عن سبيل الله، ويلوم على القيام بواجب حق الله، إلا الذين حقّت عليهم الكلمة من الله بالشقاوة والخسران، والخزيِ والهوان، ولا تجرد لنصح عباد الله ودعوتهم إلى باب الله إلا الذين سبقت لهم من الله الحسنى بالسعادة والأمان، والفوز والرضوان، أولئك ورثة النبيين، وأئمة المتقين وخيرة رب العالمين من المؤمنين الراسخين في العلم، المتحققون بحقائق الإيمان والإيقان والإحسان، الواقفون على أسرار الله في ملكه وملكوته من طريق الكشف والعيان، وما فازوا بهذه المناقب، ولا وصلوا إلى هذه المراتب، إلا بحسن اقتفائهم، وكمال اتباعهم، لإمام الأئمة الذي أرسله الله للعالمين رحمةً، عبدِ الله ورسوله وحبيبه وخليله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم في كل حين وأوان، صلاة وسلاماً دائمين بدوام الله الملك الديان.
أما بعد، فيقول العبد الفقير، المعترف بالقصور والتقصير، الراجي عفو ربه القدير، الشريف عبد الله بن علوي الحداد باعلوي الحسيني عفا الله عنه وعن أسلافه آمين: هذه رسالة بحول الله وقوته جامعة، ووصية بفضل الله ورحمته نافعه، حملني على وضعها الامتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله، والرغبة في الوعد الصادق الوارد في الدلالة على الهدى والدعوة إلى الخير والنشر للعلم.
قال الله تعالى: (ولْتَكنْ منكم أمةٌ يدْعونَ إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينْهَون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، وقال الله تعالى: (ادْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، وقال تعالى لنبيه: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وربَّ حامل فقه ليس بفقيه". وقال عليه الصلاة والسلام "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"، وقال عليه الصلاة والسلام: "من دلّ على خير كان له من الأجر مثل فاعله".
وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وقال عليه الصلاة والسلام: "أجودكم بَعدي رجل علِم علماً فنشره يبعث يوم القيامة أمةً وحده".
وقال عليه الصلاة والسلام: "الخلق كلهم يصلون على معلمي الناس الخير حتى حيتان الماء".
وقال عليه السلام: "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله تعالى أنفعهم لعياله".
ولا يستطيع أحد أن ينفع خلق الله بمثل دعوتهم إلى الله تعالى، بتعريفهم ما يجب له من التوحيد والطاعة، وتذكيرهم بآياته وآلائه وتبشيرهم برحمته، وتحذيرهم من سخطه الواقع بالمتعرضين له من الكافرين والفاسقين.

وقد حثني على امتثال هذا الأمر العظيم، وأكد رغبتي في السعي إلى تحصيل هذا الوعد الكريم الواقعين في الآيات والأخبار التي ذكرتها وما في معناها مما لم أذكره سؤال أخ من السادة، صادق في الإرادة، سالك لسبيل السعادة، التمس مني أن أكتب له وصيةً ينتفع بها، فأجبته إلى ذلك راغباً فيما تقدم من الامتثال للأوامر والفوز بالثواب وفي معونة الله تعالى، وأن يكون سبحانه في حاجتي على وفق ما أخبر به رسوله عنه في قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" وأنا أستغفر الله، ولا أقول: أن نيتي في وضع هذه الرسالة مقصورة على هذه المقاصد الحسنة الدينية، كيف وأنا أعلم ما عندي من الشهوات الخفية، والحظوظ النفسية، والإرادات الدنيوية، (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) والنفس عدوٌّ، والعدو لا يؤمن. بل هي أعدى الأعداء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". ولله در القائل حيث يقول:
توق نفسك لا تأمن غوائلها            فالنفس أخبث من سبعين شيطاناً
اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي.
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم.
وقد صدّرتُ فصول هذه الرسالة بقولي في أول كل فصل منها: "وعليك" بكذا قاصداً بذلك مخاطبة نفسي وأخي الذي كان سبباً في وضعها خصوصاً، وسائر من وقف عليها من المسلمين عموماً.
وهذه الكلمة لها وقع في قلب المخاطب. وأنجو بها -إن شاء الله تعالى- من التوبيخ والوعيد الواردين في حق من يقول ولا يفعل، ويعلم ولا يعمل؛ لأني إذا خاطبت نفسي بقولي "وعليك" دل ذلك على أنها لم تتحقق بالعمل بما علمت، وعلى أني لم أزل أحثها على استعمال ما تدعو إليه، وبذلك يزول التلبيس على المؤمنين، والنسيان للنفس الذي وصف الله تعالى به من لا يعقل في قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) ومن الوعيد الوارد في حق من يقول ولا يفعل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤمر بالعالم إلى النار فتندلق أقتابه[1]. فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحا فيجتمع عليه أهل النار فيقولون ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا فيقول: إن الأبعد كان يأمر بالخير ولا يأتيه وينهى عن الشر ويأتيه".
وقال عليه الصلاة والسلام: "العالم الذي يعلم ولا يعمل مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها".
وقال عليه السلام: "مررت ليلة أسري بي برجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ فقالوا كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه" وهذا الوعيد إنما يتحقق في حق من يدعو إلى الله على نية الدنيا، ويحث على الخير وهو مصر على تركه، ويحذر من الشر وهو مصر على فعله رياءً وسمعةً، فأما من يدعو إلى باب الله وهو مع ذلك يلوم نفسه وينهاها عن التقصير ويحثها على التشمير فالنجاة مرجوة له.
وعلى كل حال فالذي يعلم ويعلم ولا يعمل أحسن حالاً وأرشد طريقة وأحمد عاقبة من الذي لا يعمل ولا يعلم.
وربما قال قائل ممن لا يعقل: الكتب كثيرة وفيها غنية وكفاية فلا فائدة في تصنيف الكتب في هذا الزمان، فهذا القائل إن أصاب في قوله: إن في الكتب غنية وكفاية فقد أخطأ في قوله: لا فائدة للتصنيف في هذا الزمان، لأن للقلوب ميلاً بحكم الجبلة إلى كل جديد، وأيضاً فإن الله يُنطِق علماء كل زمان بما يوافق أهله، والتصانيف تبلغ الأماكن البعيدة وتبقى بعد موت العالم فيحصل له بذلك فضل نشر العلم ويكتب معلماً داعياً إلى الله في قبره، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنعش لسانه حقاً يعمل به من بعده أُجرِيَ عليه أجرُه إلى يوم القيامة" وقد سميت هذه الرسالة المشار إليها:
"رسالة المعاونة والمظاهرة والمؤازرة للراغبين من المؤمنين في سلوك طريق الآخرة"

أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وسائر المؤمنين، وأن يجعل جمعي لها واعتنائي بها وبتأليفها خالصاً لوجهه الكريم.
وهذا أوان الابتداء وبالله التوفيق فأقول مستعيناً بالله ومفوضاً إليه، وسائلاً منه أن يوفقني لإصابة الصواب في النيات والأعمال والأقوال، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل:

فصــل

(وعليك) أيها الأخ الحبيب بتقوية يقينك وتحسينه، فإن اليقين إذا تمكن من القلب واستولى عليه صار الغيب كأنه شهادة، وعند ذلك يقول الموقن كما قال علي كرم الله وجهه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
واليقين عبارة عن قوة الإيمان وثباته ورسوخه حتى يصير كالطود الشامخ، لا تزلزله الشكوك، ولا تزعزعه الأوهام، بل لا يبقى للشكوك والأوهام وجود البتة. فإن جاءت من خارج لم تصغ إليها الأذن ولم يلتفت إليها القلب.
والشيطان لا يستطيع الدنو من صاحب هذا اليقين بل يفر منه ويفرق من ظله ويقنع بالسلامة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليفرَق من ظل عمر وما سلك عمر فجّاً إلا سلك الشيطان فجّاً آخر".
ويقوى اليقين ويحسن بأسباب:
منها- وهو الأصل والذي عليه المدار- أن يصغي العبد بقلبه وأذنه إلى استماع الآيات والأخبار الدالة على جلال الله تعالى وكماله وعظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والأمر، والسلطان والقهر وعلى صدق الرسل وكمالهم وما أيدوا به من المعجزات وما حل بمعانديهم من أنواع العقوبات وما ورد في اليوم الآخر من إثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين.
وإلى كون هذا الأمر كافياً في إفادة اليقين الإشارةُ يقوله تعالى: (أَوَ لم يكفِهِم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلَى عليهم) الآية.
السبب الثاني أن ينظر بعين الاعتبار في ملكوت السماوات والأرض، وما بث الله فيهما من عجائب المصنوعات، وبدائع المكونات.
وإلى إفادته اليقين الإشارةُ بقوله تعالى: (سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق).
السبب الثالث أن يعمل على مقتضى ما آمن به ظاهراً وباطناً ويشمّر في ذلك ويبذل الاستطاعة فيما هنالك.
وإلى إفادته الإشارة بقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبلَنا).

ومن ثمرات اليقين السكون إلى وعد الله، والثقة بضمان الله، والإقبال بكنه الهمة على الله، وترك ما من شأنه أن يشغل عن الله تعالى، والرجوع في كل حال إلى الله واستفراغ الطاقة في ابتغاء مرضاة الله.
وعلى الجملة فاليقين أصل الإيمان وسائر المقامات الشريفة والأخلاق المحمودة والأعمال الصالحة من فروعه وثمراته، والأخلاق والأعمال تابعة لليقين قوة وضعفاً، وصحة وسقماً. قال لقمان عليه السلام لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل العبد إلا بقدر يقينه، ولا يُقصِّر عامل حتى ينقص يقينه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليقينُ الإيمان كله".
وأهل الإيمان في اليقين على ثلاث درجات:
الأولى _ وهي درجة أصحاب اليمين- التصديقُ الجازم مع إمكان التشكك والتزلزل لو جاء ما يقتضيه، ويعبر عنها بالإيمان.
الدرجة الثانية _ وهي درجة المقربين- استيلاء الإيمان على القلب، وثباته فيه حتى لا يجوز النقيض، بل لا يتصور وجوده فضلاً عن إمكانه، وفي هذه الدرجة يصير الغيب كأنه شهادة ويعبر عنها باليقين.
الدرجة الثالثة _ وهي درجة النبيين وكمل ورثتهم من الصديقين- أن يصير الغيب شهادة ويعبر عنها بالكشف والعيان.
وبين أهل كل درجة في درجتهم تفاوت بعيد، وكلٌّ فاضل والبعض أفضل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فصــل

(وعليك) يا أخي بإصلاح النية وإخلاصها وتفقدها والتفكر فيها قبل الدخول في العمل، فإنها أساس العمل، والأعمال تابعة لها حسناً وقبحاً وصحةً وفساداً. وقد قال صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فعليك أن لا تقول قولاً، ولا تعمل عملاً، ولا تعزم على أمر، إلا وتكون ناوياً بذلك التقربَ إلى الله، وابتغاء الثواب الذي رتبه سبحانه على الأمر المنويِّ من باب المِنَّة والفضل.
(واعلم) أنه لا يصح التقرب إلى الله إلا بما شرعه على لسان رسوله من الفرائض والنوافل، وقد تؤثر النية الصادقة في الأمر المباح فيصير قربة لله من حيث أن للوسائل حكم المقاصد، كمن ينوي بأكله التقوي على طاعة الله، وبإتيانه أهله التسبب في حصول ولد يعبد الله.
ويشترط لصدق النية أن لا يكذبها العمل، فمن يطلب العلم، مثلاً، ويزعم أن نيته في تحصيله أن يعلم ويعلِّم، فإن لم يفعل ذلك عند التمكين منه فنيته غير صادقة، وكمن يطلب الدنيا ويزعم أنه إنما يطلبها لأجل الاستغناء عن الناس، والتصدق على المحتاجين، وصلة الأقربين، فإن لم يفعل ذلك عند القدرة عليه فلا أثر لنيته.
والنية لا تؤثر في المعاصي شيئاً كما أن التطهير لا أثر له في نجس العين، فمن وافق إنساناً على غيبة مسلم وادعى أنه يقصد بذلك إدخال السرور على قلبه فهو أحد المغتابين، ومن سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وادعى أنه ينوي بسكوته التوقِّي عن كسر قلب المباشر فهو شريكه في الإثم، وإذا تعلقت النية الخبيثة بالعمل الطيب أفسدته وصار خبيثاً، كمن يعمل الصالحات وينوي بذلك تحصيل المال والجاه.
فاجتهد يا أخي أن تكون نيتك في طاعتك مقصورة على ابتغاء وجه الله تعالى، وانو بما تتعاطاه من المباحات الاستعانة على طاعة الله تعالى.
(واعلم) أنه يتصور أن يجتمع في العمل الواحد نيات كثيرة، ويكون للعامل بكل نية منها ثواب تام.
مثاله من الطاعات أن ينوي بقراءة القرآن مناجاة الله تعالى، فإن القارئ مناج ربه، وينوي استخراج العلوم من القرآن فإنه معدنها، وينوي نفع نفسه والسامعين، إلى غير ذلك من النيات الصالحة الحسنة.
ومثاله من المباحات أن تنوي بالأكل امتثال أمر ربك في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وتنوي به التقوي على طاعة الله تعالى، وتنوي به التسبب في استخراج الشكر منك لربك إذ يقول  سبحانه: (كلوا من رزق ربكم واشكروا له) فقس على هذين المثالين ما عداهما من الطاعات والمباحات واستكثر من صالح النيات جهدك.
ثم إن النية تطلق ويراد بها أحد معنيين: الأول أن النية عبارة عن غرضك الذي حملك على العزم والعمل والقول، وتكون النية بهذا الاعتبار في الأكثر خيراً من العمل إن كان خيراً، وشراً منه إن كان شراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "نية المؤمن خير من عمله" فانظر كيف خص المؤمن بالذكر!
والمعنى الثاني أن النية عبارة عن قصدك فعل الشيء وعزمك عليه. وهذه النية لا تكون خيراً من العمل ولكن لا يخلو الإنسان عند عزمه على فعل شيء من إحدى ثلاث حالات:
الأولى أن يعزم ويعمل.
والثانية أن يعزم ولا يعمل مع القدرة على العمل. وحكم هذه الحالة والتي قبلها قد أتى مبيناً فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات" ثم بيَّن ذلك بقوله: "فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة".
الحالة الثالثة أن يعزم على فعل أمر لا يستطيع فعله، فيصير يقول لو استطعت عملت، فله نية ما للعامل وعليه ما عليه. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "الناس أربعة رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يعمل في ماله بعلمه، فيقول آخر لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله بجهله فيقول آخر لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في الوزر سواء".

فصــل

(وعليك) يا أخي بمراقبة الله تعالى في حركاتك وسكناتك ولحظاتك وطرفاتك وخطراتك وإراداتك وسائر حالاتك، واستشعر قربه منك، واعلم أنه ناظر إليك ومطاع عليك، لا يخفى عليه منك خافية (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء)، (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) وهو معك أينما كنت، بالعلم والإحاطة والاقتدار ويدلُّك مع الهداية والإعانة والحفظ إن كنت من الأبرار، فاستحي من مولاك حق الحياء، واجتهد أن لا يراك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، واعبده كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ومتى رأيت من نفسك تكاسلاً عن طاعته أو ميلاً إلى معصيته فذكرها بأن الله يسمعك ويراك ويعلم سرك ونجواك، فإن لم يفدها هذا الذكر لقصور معرفتها بجلال الله تعالى فاذكر لها مكان الملكين الكريمين اللذين يكتبان الحسنات والسيئات واتل عليها (إذ يتلقَّى المتَلقيانِ عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفِظُ من قول إلا لديه رقيب عتيد) فإن لم تتأثر بهذا التذكير فذكرها قرب الموت وأنه أقرب غائب ينتظر، وخوِّفها بهجومه على غرة وأنه متى نزل بها وهي على حالة غير مرضية تنقلب بخسران لا آخر له، فإن لم ينفعها هذا التخويف فاذكر لها ما وعد الله به من أطاعه من الثواب العظيم وما توعَّد به من عصاه من العذاب الأليم، وقل لها يا نفس ما بعد الموت من مستعتَب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار فاختاري -لنفسك إن شئت- طاعة تكون عاقبتها الفوز والرضوان والخلود في فسيح الجنان، والنظر إلى وجه الله الكريم المنان، وإن شئت، معصية يكون آخرها الخزي والهوان والسخط والحرمان والحبس بين طبقات النيران، فعالج نفسك بهذه الأذكار عند تقاعدها عن الطاعة وركونها إلى المعصية فإنها من الأدوية النافعة لأمراض القلوب.
ثم إنه إن ثار من قلبك عند استشعارك أن الله يراك حياءٌ منه يمنعك عن مخالفته ويحملك على التشمير في طاعته فعندك شيء من حقائق المراقبة.
(واعلم) أن المراقبة من أشرف المقامات وأرفع المنازل وأعلى الدرجات وهي مقام الإحسان المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وكل واحد من المؤمنين يؤمن بأنه الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم أن الله معه أينما كان لا يخفى عليه شيء من حركاته وسكناته، ولكن الشأن في دوام هذا المشهد وحصول ثمراته التي أقلها أن لا يعمل فيما بينه وبين الله عملاً يستحي أن يراه عليه رجل من الصالحين، وهذا عزيز وما وراءه أعز منه إلى أن يصير العبد في آخر الأمر مستغرقاً بالله تعالى وفانياً عمل سواه قد غاب عن الخلق بشهود الحق والتحق بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

فصــل

(وعليك) يا أخي بإصلاح سريرتك حتى تصير خيراً من علانيتك الصالحة، وذلك لأن السريرة موضع نظر الحق، والعلانية مطمح نظر الخلق، وما ذكر الله تعالى السر والعلن في كتابه إلا وبدأ بذكر السر. وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: "اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي واجعل علانيتي صالحة" ومتى صلحت السريرة صلحت العلانية لا محالة، فإن الظاهر أبداً يكون تبعاً للباطن صلاحاً وفساداً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب".
(واعلم) أن من ادعى أن له سريرة عامرة وكان قد خَرَّبَ علانيته بترك الطاعات الظاهرة فهو مدَّع كذاب، ومن اجتهد في إصلاح علانيته بتحسين زيه وهيئته وتقويم لسانه ووزن حركاته وسكناته في قعوده وقيامه ومشيه وترك باطنه مشحوناً بخبائث الأخلاق ورذائل الطباع، فهو من أهل التصنع والرياء المعرضين عن المولى.
فإياك يا أخي أن تستر شيئاً لو ظهر للناس كنت تستحي من ظهوره حياء ينشأ من خوف الاستقباح. قال بعض العارفين: لا يكون الصوفي صوفياً حتى يكون بحيث لو طيف بجميع ما في باطنه على طبق في السوق ما استحيا من ظهور شيء منه؛ فإن لم تقدر أن تجعل سريرتك خيراً من علانيتك فلا أقل من أن تسوي بينهما، فيكون امتثالك لأمر الله واجتنابك لنهيه وتعظيمك لحرماته ومسارعتك في مرضاته في الخلاء والملأ على حد سواء. وهذه أول قدم يضعها العبد في طريق المعرفة الخاصة فاعلم ذلك. وبالله التوفيق.

فصــل

(وعليك) بعمارة أوقاتك بوظائف العبادات حتى لا تمرّ ساعة من ليل أو نهار إلا وتكون لك فيها وظيفة من الخير تستغرقها بها فبذلك تظهر بركات الأوقات، وتحصل فائدة العمر، ويدوم الإقبال على الله تعالى، وينبغي أن تجعل لما تتعاطاه من العادات كالأكل والشرب والسعي للمعاش أوقاتاً تخصُّها.
(واعلم) أنه لا يستقيم مع الإهمال حال، ولا يصلح مع الإغفال بال. قال حجة الإسلام -نفع الله به-: ينبغي أن توزع أوقاتك وترتب أورادك وتعين لكل وقت شغلاً لا تتعداه ولا تؤثر فيه سواه، وأما من ترك نفسه مهملاً سدى إهمال البهائم يشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق فتمضي أكثر أوقاته ضائعة، وأوقاتك عمرك، وعمرك رأس مالك، وعليه أصل تجارتك، وبه وصولك إلى نعيم الأبد في جوار الله تعالى، فكل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة له، إذ لا عوض له وإذا فات فلا عود له. انتهى.
ولا ينبغي أن تستغرق جميع أوقاتك بورد واحد وإن كان أفضل الأوراد مثلاً فتفوتك بذلك بركات تعدد الأوراد والتنقل فيها فإن لكل ورد أثراً في القلب ونوراً ومدداً ومكانة من الله ليست لغيره.
وأيضاً إذا تنقلت من ورد إلى ورد أمنت بذلك من السآمة والكسل، ومن الضجر والملل، قال ابن عطاء الله الشاذلي رحمه الله تعالى: لما علم الحق منك وجود الملل لوَّن لك الطاعات.
(واعلم) أن للأوراد أثراً كبيراً في تنوير القلب وضبط الجوارح، ولكن لا يظهر ويتأكد إلا عند المواظبة والتكرار وفعل كل ورد منها في وقت يخصه.
فإن لم تكن ممن يستغرق جميع ساعات ليله ونهاره بوظائف الخيرات فاجعل لك أوراداً تواظب عليها في أوقات مخصوصة وتقضيها مهما فاتتك لتعتاد النفس المحافظة عليها، ومتى أيستْ منك النفس أنك لا تسمح بترك أورادك حتى تتداركها بالقضاء متى فاتت بادرت إلى فعلها في أوقاتها، وقال سيدي الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله عنه: من لم يكن له ورد فهو قرد، وقال بعض العارفين: الواردات من حيث الأوراد فمن لم يكن له ورد في ظاهره لم يكن له وارد في سرائره.
وعليك بالقصد ولزوم الوسط من كل أمر، وخذ من الأعمال ما تطيق المداومة عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" وقال عليه السلام: "خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" ومن شأن الشيطان -لعنه الله- أن يزين للمريد في مبدأ إرادته الاستكثار من الطاعات والإفراط فيها، وغرضه من ذلك أن يرده على عقبه بترك فعل الخير أصلاً، أو فعله على غير الوجه الذي ينبغي، ولا يبالي اللعين بأيهما دهاه. ثم إن الأوراد تكون في الأكثر صلاة نفل أو تلاوة قرآن أو قراءة علم أو ذكراً أو فكراً.
ونحن نذكر نبذة من الآداب التي يحتاج إليها العامل بهذه الوظائف الدينية فنقول:
ينبغي أن يكون لك ورد من صلاة النفل زائد على النوافل الواردة تعين له وقتاً وتضبطه بعدد تطيق المداومة عليه، وقد كان من السلف الصالح رحمهم الله تعالى من ورده في اليوم والليلة ألف ركعة مثل الإمام علي بن الحسين رضي الله عنهما، ومنهم من ورده خمسمائة ركعة، ومنهم من ورده ثلثمائة ركعة، إلى غير ذلك.
(واعلم) أن للصلاة صورة ظاهرة، وحقيقة باطنة، ولا يكون للصلاة عند الله تعالى قيمة حتى تقيم صورتها وحقيقتها كما ينبغي.
فأما صورتها فهي الأركان والآداب الظاهرة من القيام والقراءة والركوع والسجود والتسبيح ونحوها.
وأما حقيقتها فهي الحُضور مع الله، وإخلاص النية والقصد لله، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى، وجمعُ القلب عليه، وأن يكون فكرك مقصوراً على صلاتك فلا تحدِّث نفسك بغيرها، وتكون متأدباً بآداب المناجاة مع الله تعالى.
قال عليه الصلاة والسلام: "إنما المصلي مناجٍ ربه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا قام العبد إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه".
ولا ينبغي أن تشتغل بنفل مطلق في وقت نفل ورد في السنة المطهرة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله حتى تأتي على العدد الأكمل منه.
فمن ذلك عدد الركعات التي وردت قبل المكتوبات وشهرتها تغني عن ذكرها.
ومن ذلك صلاة الوتر وهي صلاة ثابتة مؤكدة، وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن"، وقال عليه الصلاة والسلام: "الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا، وأكثرها إحدى عشرة ركعة، وأقل ما ينبغي أن يقتصر عليه ثلاث ركعات".
وفعلها من آخر الليل لمن له عادة راسخة في القيام من آخره أفضل.
قال عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" ومن لم تكن له عادة في القيام ففعلها بعد صلاة العشاء أولى له.
ومن ذلك صلاة الضحى وهي صلاة مباركة كثيرة النفع، وأكرها ثمان ركعات، وقيل اثنتا عشرة وقد ورد وأقلها ركعتان، وأفضل أوقاتها أن تصلى إذا أضحى النهار ومضى قريب من ربعه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة ويجزيه من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى" فلو لم يرد في فضل هذه الصلاة إلا هذا الحديث الصحيح لكفى.
ومن ذلك الصلاة بين المغرب والعشاء وأكثرها عشرون ركعة وأوسطها ست ركعات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى بين العشائين ركعتين بنى الله له بيتاً في الجنة" وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى بعد المغرب ست ركعات لا يتكلم فيما بينهن بشيء عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنة".
ومن السنة إحياء ما بين العشائين، وقد ورد في فضله أخبار وآثار، وحسبك من ذلك أن أحمد بن أبي الحواري شاور شيخه أبا سليمان رحمهما الله تعالى في أن يصوم النهار أو يحيي ما بين العشائين فقال: اجمع بينهما. فقال: لا أستطيع لأني متى صمت أشتغل بالإفطار في هذا الوقت. فقال له إذا لم تستطع أن تجمع بينهما فدع صيام النهار وأحي ما بين العشائين.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي بعد العشاء الآخرة إلا صلى أربعاً أو ستاً، وقال عليه السلام: "أربع ركعات بعد العشاء، كمثلهن من ليلى القدر".
(وعليك) بصلاة الليل فقد قال عليه السلام: "أفضل الصدقة بعد المكتوبة صلاة الليل" وقد قال عليه الصلاة والسلام: "فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على العلانية". وقد ورد أن صدقة السر تضاعف على صدقة العلانية بسبعين ضعفاً، وقال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد.
(واعلم) أن من صلى بعد العشاء فقد قام من الليل وقد كان بعض السلف يصلي ورده من أول الليل ولكن في القيام بعد النوم إرغام للشيطان ومجاهدة للنفس وسر عجيب، وهو التهجد الذي أمر به الله ورسوله في قوله (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) وفي المأثور: إن الله يعجب من العبد إذا قام من على فراشه وبين أهله إلى صلاته ويباهي به ملائكته ويقبل عليه بوجهه الكريم.
(واعلم) أنه يَقْبُح بطالب الآخرة أن لا يكون له قيام بالليل. كيف والمريد لا يزال طالباً للمزيد متعرضاً للنفحات على دوام الأوقات.
وقد قال، صلى الله عليه وسلم: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة" أخرجه مسلم.
وفي بعض كتب الله المنزلة: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه.
وقال الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي رحمه الله جمع الخير كله في الليل وما عقدت لولي ولاية إلا بالليل.
وقال سيدي العيدروس عبد الله بن أبي بكر من أراد الصفاء الرباني فعليه بالانكسار في جوف الليل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من داع فأستجيبَ له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر". ولو لم يرد في الحث على قيام الليل غير هذا الحديث لكفى.
كيف والكتاب والسنة طافحان بالترغيب فيه والحث عليه، وللعارفين بالله في القيام بالليل منازلات شريفة، وأذواق لطيفة يجدونها في قلوبهم من نعيم القرب من الله، ولذة الأنس به وطيب المناجاة والمحادثة مع الله، حتى قال بعضهم: إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي عيش طيب، وقال آخر: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وقال آخر منذ أربعين سنة ما غمني شيء إلا طلوع الفجر، وهذا النعيم لا يكون إلا بعد تجرع المرارات، وتحمل المشقات في القيام، كما قال عتبة الغلام: كابدت قيام الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى.
(فإن قلت) ماذا أقرأ في صلاتي بالليل وكم ركعات ينبغي أن أصلي فاعلم أن سول الله صلى الله عليه وسلم لم يواظب في تهجده على قراءة شيء مخصوص، ومن الحسن أن تتبع القرآن فتقرأه شيئاً فشيئاً في قيامك حتى تختم في شهر أو أقل أو أكثر حسب نشاطك.
وأما عدد الركعات فأكثر ما روي من قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة وورد الاقتصار على تسع وسبع وأكثر ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم المواظبة عليه إحدى عشرة ركعة.
ويتلخص من مجموع الأحاديث أنه ينبغي لك ويستحب إذا قمت من النوم أن تمسح النوم عن وجهك بيدك وتقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، وتقرأ (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) إلى آخر السورة، ثم تستاك وتتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم تصلي ركعتين خفيفتين ثم تصلي بعدهما ثمان ركعات تطولهن تسلم من كل ركعتين إن شئت أو من كل أربع أو تجمعهن بتسليمة واحدة فكل ذلك قد ورد، ثم إن رأيت أنه بقي عندك نشاط فتنفل ما بدا لك، ثم صل ثلاث ركعات بنية الوتر بتسليمة أو تسليمتين وتقرأ في الأولى سبح اسم ربك الأعلى1 وفي الثانية قل يا أيها الكافرون2 وفي الثالثة الإخلاص والمعوذتين، ولا تحسب أن الوتر هو إحدى عشرة شيء وهذه الركعات المذكورة في هذا لسياق شيء آخر كلاً إنه لم يرو عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما قصصناه عليك فاعلم ذلك والله سميع عليم.

فصــل

وينبغي أن يكون لك ورد من تلاوة الكتاب العزيز تداوم على قراءته في كل يوم وليلة، وأدنى ذلك أن تقتصر على جزء فيكون لك في كل شهر ختمة وأعلى ذلك أن تختم في كل ثلاثة أيام.
(واعلم) أن لقراءة القرآن فضلاً عظيماً، وأثراً في تنوير القلب كبيراً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن" وقال علي كرم الله وجهه: من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأه وهو قاعد في الصلاة كان له بكل حرف خمسون حسنة، ومن قرأه وهو خارج الصلاة وهو على طهارة كان له بكل حرف خمس وعشرون حسنة، ومن قرأه وهو على غير طهارة كان له بكل حرف عشر حسنات.
(وإياك) أن يكون همك في تلاوتك مقصوراً على الإكثار منها دون تدبر وترتيل.
(وعليك) –إذا تلوت- بالتدبر والفهم، واستعن على ذلك بالترتيل والترسل وأحضر في قلبك عظمة المتكلم سبحانه، وأنك بين يديه تقرأ عليه كتابه الذي أمرك فيه ونهاك ووعظك ووصاك، وكن عند قراءة آيات التوحيد والتمجيد ممتلئاً بالإجلال والتعظيم، وعند قراءة آيات الوعد والوعيد ممتلئاً بالرغب والرهب، وعند قراءة آيات الأوامر والزواجر شاكراً معترفاً بالتقصير أو مستغفراً عازماً على التشمير.
(واعلم) أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه تستخرج جواهر العلوم ونفائس الفهوم، ومن فتح له طريق الفهم فيه من المؤمنين دام فتحه وتم نوره واتسع علمه وصار لا يمل من قراءته ليلاً ولا نهاراً، لأنه قد وجد فيه مقصوده وظفر منه بمطلوبه وهذه صفة المريد الصادق.
قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد.
(وعليك) بالمحافظة على قراءة السور والآيات التي ورد الحث عليها في السنة في بعض الأوقات.
فمن ذلك أن تقرأ كل ليلة قبل أن تنام الم السجدة، وتبارك الملك، وسورة الواقعة، وآمن الرسول إلى آخر السورة، وسورة الدخان ليلة الاثنين والجمعة، وسورة الكهف يوم الجمعة وليلتها، وإن أمكنك أن تقرأ المنجيات السبع كل ليلة فذلك من الفضائل العظيمة.
ومن ذلك أن تقرأ إذا أصبحت وإذا أمسيت أوائل الحديد، وخواتيم الحشر، والإخلاص والمعوذتين "ثلاثاً ثلاثاً" وكذلك تقرأ الإخلاص والمعوذتين عند النوم مع آية الكرسي، وقل يا أيها الكافرون واجعلها آخر ما تقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

فصــل

وينبغي أن يكون لك ورد من قراءة العلم النافع وهو الذي يزيد في معرفتك بذات الله وأقواله وصفاته وأفعاله وآلائه، وتعرف به ما أمرك به من طاعته ونهاك عنه من معصيته، ويورثك زهداً في الدنيا ورغبة في الآخرة، ويبصرك بعيوب نفسك وآفات عملك ومكائد عدوك.
وهذا العلم ثابت في الكتاب والسنة وكتب الأئمة وقد جمعه الإمام الغزالي في كتبه العظيمة القدر، الكبيرة الخطر، عند من له بصيرة في الدين ورسوخ في العلم وكمال في اليقين، فواظب على مطالعتها إن كانت لك همة في سلوك الطريق ورغبة في الوصول إلى مراتب التحقيق، وقد انفردت الكتب الغزالية من بين كتب المحققين من الصوفية بالجمع والتحرير وحصول التأثير الكثير في الزمن القصير.
(وعليك) بالإكثار من قراءة كتب الحديث والتفسير ومن مطالعة كتب القوم عامة فإن ذلك فتح عام وسلوك تام كما قال بعض العارفين.
ولكن ينبغي لك أن تحترز عما يشتمل من رسائلهم على الأمور الغامضة والحقائق المجردة وهذه الأشياء توجد في أكثر مؤلفات الشيخ ابن عربي وفي شيء من رسائل الإمام الغزالي كالمعراج والمضنون به. وقد ذكر الشيخ زروق1 في "تأسيس القواعد" قاعدة في التحذير من الكتب التي تجري هذا المجرى فراجعها إن شئت، ولم يذكر في جملتها مؤلفات الشيخ عبد الكريم الكيلاني، لأنه متأخر ومؤلفاته عن آخرها مما ينبغي الاحتراز عنها إيثاراً للسلامة.
(فإن) قال قائل لا بأس علي في مطالعة هذه الكتب،لأني آخذ ما أفهمه وأسلم لما لا أفهمه لقائله (قيل له) قد أنصفت، ونحن إنما نخشى عليك مما تفهمه أن تفهمه على غير وجهه فتضل عن سواء السبيل، كما وقع ذلك لأقوام عكفوا على مطالعة هذه الكتب فصاروا في زندقة وإلحاد، وقالوا بالحلول والاتحاد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


فصــل

وينبغي أن يكون لك ورد من ذكر الله تعالى تحده بوقت أو تحصره بعدد وحينئذ فلا بأس بالسبحة لضبط العدد.
(واعلم) أن الذكر ركن الطريق، ومفتاح التحقيق، وسلاح المريدين، ومنشور الولاية، كما قال بعض العارفين. وقد قال الله تعالى (فاذكروني أذكركم) وقال تعالى (فاذكروا الله قياماً وقعوداًً وعلى جنوبكم) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه". وقال عليه السلام: "يقول الله تعالى: "أنا جليس من ذكرني" وقال عليه السلام "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله".
وللذكر ثمرات ونتائج يجدها من واظب عليه بوصف الأدب والحضور، أقلها أن يجد فيه من الحلاوة واللذة ما يستحقر في جنبه كل ما يعرفه من اللذات الدنيوية والملاهي. وأعلاها أن يفنى بالمذكور عن الذاكر وعما سواه.
ومن قعد وهو على طهارة في خلوة مستقبل القبلة ساكن الأطراف مطرق الرأس ثم ذكر الله بقلب حاضر وأدب وافر ، رأى للذكر في قلبه أثراً ظاهراً. فإن دام على ذلك أشرقت عليه أنوار القرب وانكشفت له أسرار الغيب.
وأفضل الذكر ما كان بالقلب واللسان، وذكر القلب أن يكون حاضراً فيه معنى الذكر الذي يجري على اللسان كالتقديس والتوحيد عند التسبيح والتهليل.
والأفضل للذاكر من الإسرار والجهر بالذكر والقراءة الأصلح منهما لقلبه، والذكر هو الورد الدائم المستمر، فاجتهد أن لا يزال لسانك رطباً منه في كل حال إلا في وقت ورد لا يمكن الجمع بينه وبين الذكر كالقراءة والتفكر، ويكون في هذه العبادات وغيرها من القربات ذاكراً لله تعالى بالمعنى الأعم، ولا تقتصر على معنى واحد من الذكر بل ينبغي أن يكون لك من كل نوع ورد.
(وعليك) بالمحافظة على الأذكار والأدعية الواردة في أدبار الصلوات، وعند الصباح والمساء، والنوم واليقظة، إلى غير ذلك من الأوقات والأحوال المتعاقبة، فما سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته إلا أن تكون سبباً لهم إلى الفوز بالخير والنجاة من الشر الواقعين في ذلك الوقت والحال. فمن أهملها ثم بعد ذلك ناله مكروه أو حيل بينه وبين محبوبه فلا يلومنَّ إلا نفسه.
ومن أراد العمل بما ذكرناه فعليه بمطالعة كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيراً.
ومن آكد ما ورد في أدبار الصلوات وأفضله أن تقول بعد كل مكتوبة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتسبح ثلاثاً وثلاثين وتحمد كذلك وتكبر كذلك وتختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وقل هذه الكلمة بزيادة (يحيي ويميت) "عشر مرات" وأنت ثان رجلك وقبل أن تتكلم بعد صلاة الفجر والعصر والمغرب.
ومن ذلك أن تقول إذا أصبحت وأمسيت: سبحان الله وبحمده "مائة" وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "كذلك" ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم "مائة مرة".
واجعل لك ورداً من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها وصلة بينك وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم، وباب يفيض عليك منه المدد بواسطته من حضرته عليه الصلاة والسلام، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً" وقال عليه الصلاة والسلام: "أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أكثركم علي صلاة" وقد أمر الله بها في كتابه العزيز بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) فامتثل واستكثر منها ولا تستقلل، واجمع بينها وبين السلام وصل على آله معه.
وأكثر منها في ليلة الجمعة ويومها خصوصاً، لقوله عليه السلام: "أكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر" صلى الله عليه وعلى آله وسلم والحمد لله رب العالمين.


فصــل

(وينبغي) أن يكون لك ورد من التفكر في كل يوم وليلة تعين له ساعة أو ساعات، وأحسن الأوقات للتفكر أفرغها وأصفاها وأجدرها في حضور القلب جوف الليل.
(واعلم) أن صلاح الدنيا والدين موقوف على صحة التفكر، ومن أعطى حظه منه أخذ بحظ وافر من كل خير، وقد ورد "تفكر ساعة خير من عبادة من عبادة سنة".
وقال علي كرم الله وجهه: لا عبادة كالتفكر، وقال بعض العارفين رحمهم الله: الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له.
ومجاري الفكر كثيرة، فمنها –وهو أشرفها- أن تتفكر في عجائب مصنوعات الله الباهرة، وآثار قدرته الظاهرة والباطنة، وما بث من الآيات في ملكوت الأرض والسماوات.
وهذا التفكر يزيد في معرفتك بذات الله وصفاته وأسمائه، وقد حث عليه بقوله (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) ومابث من عجائب المصنوعات في نفسك. قال الله تعالى (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
واعـلم أنه ينبغي لك أن تتفكر في آلاء الله وأياديه التي أوصلها إليك، ونعمه التي أسبغها عليك قال الله تعالى: (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) وقال الله تعالى: (وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها) وقال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله).
وثمرة هذا التفكر امتلاء القلب بمحبة الله، والاشتغال بشكره باطناً وظاهراً كما يحبه ويرضاه.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في إحاطة علم الله بك، ونظره إليك، واطلاعه عليك، قال الله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان و ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقال تعالى: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) وقال تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية.
وهذا التفكر ثمرته أن تستحي من الله أن يراك حيث نهاك أو يفتقدك حيث أمرك.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في تقصيرك في عبادة مولاك، وتعرضك لسخطه بإتيانك ما عنه نهاك. قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) وقال تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) وقال تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه).

وهذا التفكر يزيد في خوفك من الله، ويحملك على لوم نفسك وتوبيخها، ومجانبة التقصير وملازمة التشمير.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في هذه الحياة الدنيا، وكثرة أشغالها ووبالها، وسرعة زوالها، وفي الآخرة ونعيمها ودوامها. قال الله تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) وقال تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) وقال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).
وهذا التفكر يثمر لك الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في قرب نزول الموت، وحصول الحسرة والندامة بعد الفوت. قال الله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).
وقال تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً في ما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها).
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) إلى قوله تعالى: (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها).
وفائدة هذا التفكر قصر الأمل وإصلاح العمل وإعداد الزاد ليوم المعاد.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تتفكر في الأخلاق والأعمال التي وصف الله بها أولياءه وأعداءه، وفيما أعد للفريقين في العاجل والآجل. قال الله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) وقال تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) وقال تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) إلى آخر السورة، وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى قوله تعالى: (لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) الآية، وقال تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وقال تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) إلى قوله تعالى: (ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) إلى قوله: (ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) وقال تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) إلى قوله: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
وثمرة هذا التفكر محبة السعداء، وحمل النفس على اتباعهم والعمل بأعمالهم والتخلق بأخلاقهم، وبغض الأشقياء، وحمل النفس على اجتناب أعمالهم وأخلاقهم.
وإن ذهبنا نتتبع مجاري الفكر خرجنا عن مقصودنا من الإيجاز وفيما أشرنا إليه كفاية للعاقل.
(وينبغي) أن تستحضر عند كل نوع من التفكر ما يناسبه من الآيات والأخبار والآثار، وقد أشرنا إلى ذلك عند كل نوع بذكر شيء من الآيات المناسبة له.
(وإياك) والتفكر في ذات الله تعالى وصفاته من حيث تطلب الماهية وتعقل الكيفية، فقلما ولع بذلك أحد إلا وهوى في مهاوي التعطيل أو تورط في تورطات التشبيه، وقد روي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في آيات الله ولا تتفكروا في ذات الله، فإن لن تقدروه حق قدره".
فهذا ما قصدنا ذكره من آداب هذه الوظائف. ومقصود الأوراد وروحها إنما هو الحضور مع الله فيها فعليك به، ولن تصل إليه ما لم تسلك طريقه، وهي فعل الأعمال الظاهرة مع تكلف الحضور مع الله فيها، فإن واظبت على هذا غشيتك أنوار القرب وفاضت عليك علوم المعرفة فعند ذلك يقبل قلبك على الله تعالى بكليته ويصير الحضور مع الله سبحانه سجيّة لك وخلقاً راسخاً فتصير تتكلف الحضور مع الخلق عند الحاجة إليه. وربما لم تقدر عليه، وعن هذه الحالة تنشأ الغَيبة والاستغراق والفناء عما سوى الله تعالى إلى غير ذلك من مواجيد أهل الله، وأصل ذلك كله المواظبة على الأعمال الظاهرة والمحافظة عليها مع تكلف الحضور مع الله فيها.
واحذر أن تترك العمل بورد مخافة أن لا تدوم عليه، فإن ذلك من الحماقة.
(وينبغي) أن لا تعمل في كل وقت بحسب النشاط والفراغ، بل ينبغي أن تسمي شيئاً تزيد عليه عند النشاط ولا تنقص منه عند الكسل.
(واعلم) أن المسارعة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات، والمداومة على الطاعات، دأب الأنبياء والأولياء في بداياتهم ونهاياتهم، لأنهم أعرف الخلق بالله، فلا جرم كانوا أعبدهم وأطوعهم وأخشاهم له عز وجل فإن إقبال العبد على ربه وعبادته له على قدر محبته له، والمحبة تابعة للمعرفة، فكلما كان العبد أعرف بالله كان أشد حباً له وأكثر عبادة. فإن شغلك جمعك للدنيا واتباعك للهوى عن اتخاذ الأوراد وملازمة العبادات فاجتهد أن تجعل لربك ساعة من أول نهارك وساعة من آخره تشتغل فيهما بالتسبيح والاستغفار وغير ذلك من أنواع الطاعات فقد روي عن الله تعالى أنه قال: "ابن آدم اجعل لي ساعة من أول نهارك وساعة من آخره أكفك ما بين ذلك".
وورد أن صحيفة العبد إذا عرضت على الله عز وجل من آخر كل يوم فإن كان في أولها وفي آخرها خير يقول الله تعالى للملك أمح ما بين ذلك، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

فصــل

(وعليك) بالتمسك بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، فإنهما دين الله القويم وصراطه المستقيم، من أخذ بهما سلم وغنم ورشد وعصم، ومن حاد عنهما ضل وندم وحاد وقصم، فاجعلهما حاكمين عليك ومتصرفين فيك وارجع إليهما في كل أمرك ممتثلاً لوصية الله ووصية رسوله. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) ومعنى قوله: فردوه إلى الله والرسول أي إلى الكتاب والسنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أوصيكم بما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي".
فإن سرك أن تكون على الهدى سالكاً للمحجة البيضاء التي لا عِوج فيها ولا أمتاً فاعرض جميع نياتك وأخلاقك وأعمالك وأقوالك على الكتاب والسنة، فخذ ما وافق ودع ما خالف، واعمل على الاحتياط، واتبع الأحسن أبداً، ولا تبتدع في الدين، ولا تتبع غير سبيل المؤمنين فتخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
(وإياك) ومحدثات الأمور ومختلفات الآراء فقد قال عليه الصلاة والسلام: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وقال عليه السلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
والبدع ثلاث: "بدعة حسنة" وهي ما رآه أئمة الهدى مما يوافق الكتاب والسنة من حيث إيثار الأصلح والأنفع والأحسن،و ذلك كجمع القرآن في مصحف لأبي بكر، ونصب الديوان وصلاة التراويح لعمر، وترتيب المصحف والأذان الأول يوم الجمعة لعثمان، وأحكام قتال البغاة لعلي رضي الله عنه وعن الخلفاء الأربعة.
والثانية: "بدعة مذمومة" على لسان الزهد والورع والقناعة فقط وذلك كالتوسع في المالابس والمآكل والمساكن المباحة.
والثالثة: "بدعة مذمومة مطلقاً" وهي ما خالف نصوص الكتاب والسنة أو خرق إجماع الأمة، وقد وقع من هذا النوع للمبتدعة كثير في الأصول وقل وقوعه في الفروع، وكل من لم يبالغ في التمسك بالكتاب والسنة، ولم يبذل وسعه في متابعة الرسول، وهو مع ذلك يدعي أن له مكانة من الله تعالى، فلا تلتفت إليه ولا تعرِّج عليه، وإن طار في الهواء ومشى على الماء وطويت له المسافات وخرقت له العادات، فإن ذلك يقع كثيراً للشياطين والسحرة والكهان والرافين والمنجمين وغيرهم من الضُّلال، ولا يُخرِج مثلَ ذلك عن كونه استدراجاً وتلبيساً إلى كونه كرامة وتأييداً إلا وجود الاستقامة فيمن ظهر عليه، وهذا المغرور وأمثاله إنما يلبسون على الغوغاء والسفلة الذين يعبدون الله على شك، وأما أولو العقول والألباب فقد علموا أن تفاوت المؤمنين في القرب من الله على حسب تفاوتهم في متابعة الرسول، وأنه كلما كانت المتابعة أكمل كانا لقرب من الله أتم وكانت المعرفة به أجل.
وقد قصد أبو يزيد البسطامي إلى زيارة رجل يوصف بالولاية فقعد له في المسجد فلما خرج حضرته نُخامة فرمى بها في حائط المسجد فرجع أبو يزيد ولم يجتمع به وقال كيف يؤمن على أسرار الله من لم يحسن المحافظة على آداب الشريعة.
وقال الجنيد رحمه الله كل الطرق مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله لا معين إلا الله ولا دليل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زاد إلا التقوى ولا عمل إلا الصبر عليها.
(واعلم) أنه لا يستقل بعرض جميع أموره التي تقع له في ظاهره وباطنه على الكتاب والسنة كل أحد، فإن ذلك مخصوص بالعلماء الراسخين فإن عجزت عن شيء من ذلك، فعليك بالرجوع إلى من أمرك الله بالرجوع إليه في قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وأهل الذكر هم العلماء بالله وبدينه العاملون بعلمهم ابتغاء وجه الله تعالى الزاهدون في الدنيا الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى الداعون إلى الله على بصيرة المكاشفون بأسرار الله.

وقد عز على بسيط الأرض وجود واحد من هؤلاء حتى لقد زعم جماعة من الأكابر أنهم مفقودون، والحق أنهم موجودون ولكن قد سترهم الله برداء الغيرة وضرب عليهم سرادقات الإخفاء، لغفلة الخاصة وإعراض العامة، فمن طلبهم بصدق وجد في ذلك لم يعوزه –إن شاء الله تعالى- وجود واحد منهم، فالصدق سيف لا يوضع على شيء إلا قطعه، والأرض لا تخلو من قائم لله بحجة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله".
أولئك نجوم الأرض وحمال الأمانة ونواب المصطفى وورثة الأنبياء، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.


فصــل

(وعليك) بتحسين معتقدك وإصلاحه وتقويمه على منهاج "الفرقة الناجية" وهي المعروفة بين سائر الفرق الإسلامية بأهل السنة والجماعة وهم المتمسكون بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت إذا نظرت بفهم مستقيم عن قلب سليم في نصوص الكتاب والسنة المتضمنة لعلوم الإيمان، وطالعت سير السلف الصالح من الصحابة والتابعين، علمت وتحققت أن الحق مع الفرقة الموسومة بالأشعرية نسبة إلى الشيخ "أبي الحسن الأشعري" رحمه الله فقد رتب قواعد عقيدة أهل الحق وحرر أدلتها، وهي العقيدة التي إجتمعت عليها الصحابة ومن بعدهم من خيار التابعين، وهي عقيدة أهل الحق من أهل كل زمان و مكان وهي عقيدة جملة أهل التصوف كما حكى ذلك أبو القاسم القشيري في أول رسالته.
وهي بحمد الله عقيدتنا، وعقيدة إخواننا من السادة الحسينيين المعروفين بآل أبي علوي، وعقيدة أسلافنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وكان الإمام المهاجر إلى الله جد السادة المذكورين سيدي "أحمد بن عيسى بن محمد بن علي ابن الإمام جعفر الصادق" رضي الله عنهم لما رأى ظهور البدع وكثرة الأهواء واختلاف الآراء بالعراق هاجر منها ولم يزل –نفع الله تعالى به- يتنقل في الأرض، حتى أتي أرض "حضرموت" فأقام بها إلى أن توفي، فبارك الله في عقبه، حتى اشتهر منهم الجم الغفير العلم والعبادة والولاية والمعرفة ولم يعرض لهم ما عرض لجماعات من أهل البيت النبوي من انتحال البدع واتباع الأهواء المضلة ببركات نية هذا الإمام المؤتمن وفراره بدينه من مواضع الفتن، فالله تعالى يجزيه عنا أفضل ما جزى والداً عن ولده ويرفع درجته مع آبائه الكرام في عليين ويلحقنا بهم في خير وعافية غير مبدلين ولا مفتونين إنه أرحم الراحمين. والماتريدية كالأشعرية في جميع ما تقدم.
وينبغي لكل مؤمن أن يحصن معتقده بحفظ عقيدة من عقائد الأئمة المجمع على جلالتهم ورسوخهم في العلم. ولا أحسب مبتغي ذلك يصادف عقيدة جامعة واضحة بعيدة عن الشُّبَه مثل عقيدة الإمام الغزالي رضي الله عنه التي أوردها في الفصل الأول من كتاب قواعد العقائد من الإحياء، فعليك بها فإن تشوفت إلى مزيد فانظر في الرسالة القدسية التي أوردها في الفصل الثالث من الكتاب المذكور.
ولا تتوغل في علم الكلام ولا تكثر من الخوض فيه لمجرد طلب التحقيق في المعرفة فإنك لا تظفر بهذا المطلوب من هذا العلم. ولكن إن أردت التحقق في المعرفة فعليك بسلوك طريقه وهي التزام التقوى ظاهراً وباطناً، وتدبر الآيات والأخبار، والنظر في ملكوت السماوات والأرض على قصد الاعتبار، وتهذيب أخلاق النفس وتلطيف كثافاتها بحسن الرياضة، وتصقيل مرآة القلب بملازمة الذكر والفكر، والإعراض عما يشغل عن التجرد لهذا الأمر. فهذا سبيل التحصيل إن سلكته عثرت -إن شاء الله تعالى- على المطلوب، وظفرت بالأمر المرغوب، والصوفية إنما جاهدوا نفوسهم وبالغوا في رياضتها وقطعوها عن عاداتها ومألوفاتها لعلمهم بتوقف حصول كمال المعرفة على ذلك، وعلى كمال المعرفة يتوقف التحقق بمقام العبودية الذي هو بغية العارفين وأمنية المحققين رضي الله عنهم أجمعين.


فصــل

(وعليك) بأداء الفرائض واجتناب المحرمات ، والإكثار من النوافل. فإنك إن فعلت ذلك مخلصاً لوجه الله الكريم حصلت على غاية القرب من الله وخلعت عليك خلعة المحبة التي تصير عندها جميع حركاتك وسكناتك لله وبالله، وهي خلعة الولاية بل خلعة الخلافة، وقد أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما يرويه عن ربه تعالى قال: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من الموت".
فانظر –رحمك الله- إلى ما انطوى عليه هذا الحديث القدسي من الأسرار والمعارف وتأمل ما أومأ إليه من الدقائق واللطائف وما وصل هذا العبد الموفق إلى هذه المرتبة العظيمة التي صار فيها ما يحبه محبوباً لله وما يكرهه مكروهاً عند الله إلا بأداء ما فرضه عليه والإكثار من النوافل ابتغاء الزلفى لديه فالسباق السباق إن كانت لك همة في الوصول إلى مراتب الكمال ورغبة في بلوغ درجات الرجال فقد وضح لك الطريق وبد لك شعاع التحقيق.
(واعلم) أن الله قد جعل فضله ورحمته في النوافل جبراً لما يقع من الخلل في الفرائض. ولكن لا يجبر خلل الفريضة إلا بنفل من نوعها كالصلاة بالصلاة، والصيام بالصيام، والفرض هو الأصل والنفل تابع له، والذي يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم ولا يتنفل أحسن حالاً ممن يتعاطى النوافل ويقع في إهمال بعض الفرائض، فإياك أن تعرض عن شيء من الفرائض اشتغالاً بشيء من النوافل فتأثم بترك الفريضة ولا يتقبل الله منك النافلة وتقع في ذلك مثل من يشتغل بتحصيل العلم الذي هو في حقه فضيله ويترك الاشتغال بتحصيل ما هو عليه من العلم فريضة في ظاهره وباطنه، ومن يقعد عن الكسب مع القدرة عليه اشتغالاً بنوافل العبادات ويترك عياله يتكففون الناس فقس على هاتين الصورتين ما عداهما مما في معناهما.
(واعلم) أنك لا تصل إلى القيام بامتثال ما فرض الله عليك من طاعته واجتناب ما حرم الله عليك من معصيته وإلى العمل بما شرع لك من النوافل التي تقربك إليه زلفى إلا بالعلم، فعليك بطلبه فقد قال عليه الصلاة والسلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".

وبالعلم تعرف كون الواجب واجباً والمندوب مندوباً، والمحرم محرماً، وتعرف كيف تؤدي الواجب وتفعل المندوب وتترك المحرم فإذن لا بد لك من العلم ولا غنى لك عنه، وعليه وعلى اعمل به مدار سعادتك في الدنيا والآخرة.
(واعلم) أن من عبد الله بغير علم كان الضرر العائد عليه بسبب عبادته أكثر من النفع الحاصل له بها، وكم من عابد قد أتعب نفسه في العبادة وهو مع ذلك مصر على معصية يرى أنها طاعة أو أنها غير معصية. وقد حكى الشيخ العارف بالله محمد بن عربي في باب الوصايا من الفتوحات عن رجل من أهل المغرب أنه كان كثير الاجتهاد في العبادة وأنه اشترى أتاناً1 ولم يستعملها في شيء، فسأله إنسان عن سبب إمساكها، قال: ما أمسكتها إلا لأحصن بها فرجي! وكان لا يعلم تحريم إتيان البهائم، فلما عرفه بتحريمه أشفق وبكى بكاءً شديداً. انتهت الحكاية بمعناها.
والعلم الواجب على كل مسلم هو أن يعلم وجوب جميع الفرائض التي فرضهن الله عليه وتحريم جميع المحرمات التي حرمهن الله عليه. وأما العلم بكيفية فعل الشيء الواجب فلا يجب إلا عند إرادة مباشرته فمن بلغ أو أسلم في شهر المحرم مثلاً كان الواجب عليه فوراً أن يتعلم معنى الشهادتين وينطق بهما، ويتعلم وجوب الصلوات الخمس وما يجب من معرفة أركانها وأحكامها، ومن الواجب عليه أن يعرف وجوب الصوم والزكاة والحج وغيرها من الواجبات العينية ويعرف تحريم الزنى وشرب الخمر وأخذ أموال الناس بالباطل وغيرها من المحرمات الشريعة ولكن لا يجب عليه أن يتعلم كيفية الصيام والحج إلا عند مجيء رمضان وإرادة الحج، ولا كيفية الزكاة إلا حتى يملك مالاً يزكى ويجيء وقت إخراج الزكاة والله أعلم.
والمحرمات والواجبات العينية معروفة بين المسلمين لا تكاد تخفى وإنما المهم معرفة الأحكام. نعم ول يكفه إلا أن يتلقى جميع ذلك من عالم يخشى الله ويدين بالحق. والعامة تخطئ وتصيب فإياك أن تفعل ما يفعلونه وتترك ما يتركونه اقتداء بهم، فإن الاقتداء لا يصح إلا بالعلماء العاملين، وقد عز اليوم عالم يعمل بعلمه. فإذا رأيت العالم في هذا الزمان يفعل شيئاً أو يتركه مما يجهل كونه حقاً أو باطلاً فلا تكتفي بمجرد رؤيته في الفعل أو الترك حتى تسأله عن وجه ذلك في الشرع وحكمه من الدين، ولا يحتاج المسلم في تحصيل ما هو فرض عليه من العلم إلى طول مدة، ولا يكاد تلحقه مشقة في ذلك لسهولته، ويكفي الطالب الفطن في تعلم ذلك أن يجلس مع العالم المتقن ساعة أو ساعتين من زمان وقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على منبره فسأله أن يعلمه مما علمه الله فنزل عن منبره فعلمه ثم صعد المنبر فأتم خطبته.
وعلى الجملة فمن أراد أن يسلم ويغنم فعليه أن لا يدخل في شيء ولا يقيم على فعل شيء قد دخل فيه حتى يعلم ما حكم الله في ذلك الشيء من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو التحريم فجميع الأشياء لا تخلو عن أحد هذه الأمور الأربعة، والأشبه أن هذا الأمر واجب على كل مسلم.
ثم إن المؤمنين ينقسمون إلى عموم وخصوص، فالعموم قد يقعون في ترك الواجبات وفعل المحرمات، وأحسنهم من يبادر بالتوبة والاستغفار، ولا يحرصون على فعل النوافل وينهمكون في المباحات، وأما الخصوص فيؤدون الواجبات ويتركون المحرمات بكل حال ويحافظون على فعل المندوبات ويقتصرون من المباحات على ما يكون وسيلة إلى القيام بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وبالله التوفيق.


فصــل

(وعليك) بلزوم النظافة ظاهراً وباطناً، فإن من كملت نظافته صار بروحه وسريرته ملَكاً روحانياً، وإن كان بجسمه وصورته بشراً جسمانيّاً. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الدين على النظافة" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله نظيف يحب النظافة".
وتحصل النظافة الباطنة بتزكية النفس عن رذائل الأخلاق، كالكبر والرياء والحسد وحب الدنيا وأخواتها، وتحليتها بمكارم الأخلاق، كالتواضع والحياء والإخلاص والسخاء وأخواتها.
وحقائق هذا الأخلاق وطريقة الخلاص من رذائلها وسبيل التحصيل لفضائلها قد جمعه الإمام الغزالي في الشطر الثاني من الإحياء فعليك بمعرفة ذلك واستعماله.
وأما النظافة الظاهرة فتحصل بترك المخالفات وفعل الموافقات.
فمن زين ظاهره بملازمة الأعمال الصالحة، وعمر باطنه بالتخلق بالأخلاق المحمودة، فقد كملت نظافته وإلا فله نصيب منها بقدر بعده عن منكرات الأخلاق والأعمال وقربه من محاسنها.
ومن أقسام النظافة الظاهرة ما أرشد إليه الشرع من أخذ الفضلات وإزالة الأدناس، والتطهر من الأحداث والأنجاس.
فمن ذلك: إزالة شعر العانة، ونتف الإبط أو حلقه، وقص الشارب، وتقليم الظفر، ويستحب أن يبتدئ من سبابة اليمنى إلى خنصرها ومن خنصر اليسرى إلى إبهامها ويختم بإبهام اليمنى، وأما الرجلان فيبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر اليسرى كالتخليل في الوضوء، ويكره تأخير فعل هذه الأشياء عن كل أربعين يوماً.
ومن ذلك إزالة الأوساخ التي تجتمع في معاطف البدن وأغواره بالماء، وما يجتمع من الرمص على العينين، ومن القذر في المنخرين، ومن الطعام بين الأسنان بالخلال.
(وعليك) تنظيف فمك بالسواك، وكونه من الأراك أولى، ويتأكد عند إرادة الدخول في العبادات، وتنظيف ثيابك بالماء كلما تدنست من غير إفراط وتشبه بالمترفين.
ومن السنة التابعة للنظافة: دهن شعر اللحية، وترجيلها بالمشط، وكذا كل شعر يقصد تبقيته، والاكتحال بالإثمد في كل عين ثلاثاً، وكان عليه السلام يكتحل في كل ليلة كذلك، واستعمال الطيب والإكثار منه فإنه يستر الروائح الكريهة الثائرة من الإنسان وغيره، ويتأكد عند حضور الجمعة وسائر جموع الإسلام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويكثر منه، وربما رئي بريق الطيب على مفرق رأسه وذلك ليستن به وإلا فقد كان عليه السلام له طيب في جسده يستغني به عن الطيب حتى إنهم كانوا يجمعون عرقه فيتطيبون به ويستحب أن يتطيب الرجل بما يظهر ريحه ويخفى لونه والمرأة بضد ذلك.
(وعليك) بالاحتراز عن النجاسات كلها، فإن أصابك شيء منها مع الرطوبة فبادر بغسله، وإذا أصابتك جنابة فبادر بالاغتسال في الحال فإن الجنب مطرود عن حضرة الله ولذلك حرم عليه اللبث في المسجد وتلاوة القرآن.
وقد ورد أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه جنب وإذا ذهبت الملائكة جاءت الشياطين من كل ناحية.
واحذر أن تأكل أو تنام وأنت جنب فتتعرض بذلك لآفات عديدة فإن عجزت عن الاغتسال في الحال فلا تَعجِز عن غسل الفرج والوضوء.
(وعليك) بتجديد الوضوء لكل فريضة واجتهد أن لا تزال على طهارة، وجدد الوضوء كلما أحدثت؛ فإن الوضوء سلاح المؤمن ومتى كان السلاح حاضراً لم يتجاسر العدو على الدنو منك، وقد جار رجل إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه يسأله أن يعلمه الكيمياء فأمره الشيخ أن يقيم عنده سنة وشرط عليه أن يتوضأ كلما أحدث ويصلي ركعتين ووعده التعليم بعد ذلك، فلما كملت السنة ذهب ذلك الرجل إلى بئر يستقي منها ماء فطلع الدلو مملوءاً ذهباً أو فضة فصبه في البئر؛ زهداً فيه وجاء إلى الشيخ فأخبره فقال له الشيخ: قد صرت الآن كلك كيمياء ونصبه داعياً إلى الله تعالى.

(وعليك) بصلاة ركعتين كلما توضأت. فإن لم تقدر أن تداوم على الطهارة فاجتهد أن لا تدعها عند الجلوس في المسجد وقراءة القرآن والعلم والقعود للذكر ونحو ذلك من العبادات.

وإذا توضأت أو اغتسلت فاحذر أن تقتصر على الفرض من ذلك بل ينبغي أن تحافظ على السنن والآداب على نحو ما بلغك من غسله ووضوئه عليه الصلاة والسلام.

(وينبغي) أن تغتسل في بعض الأوقات بنية النظافة وإن لم تصبك جنابة وقد ورد الحث في السنة على الاغتسال يوم الجمعة لحاضريها فعليك به وهو كاف في التنظيف لكن في بعض الأوقات وفي حق بعض الأشخاص.

وإذا فرغت من الوضوء وكذا الغسل فقل: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.


فصــل

(وعليك) بالمحافظة على آداب السنة ظاهراً وباطناً وعادة وعبادة تكمل لك المتابعة ويتم لك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة ونبي الهدى.
وإن سرك أن تكون من الصديقين فلا تدخل في شيء من العادات –فضلاً عن العبادات- حتى تبحث وتنظر هل دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة الأئمة، فإن لم تجدهم دخلوا فيه مع القدرة على ذلك فأمسك عنه، وإن شملته الإباحة، فإنهم ما أمسكوا عنه إلا لخير علموه في تركه، وإن رأيتهم دخلوا فيه فاعرف أولاً كيفية دخولهم فيه واقتد بهم في ذلك، وقد أمسك بعض العلماء عن أكل البطيخ وقال قد بلغني أنه عليه الصلاة والسلام أكله ولكن لم يبلغني كيفية تناوله له فلذلك أتركه.
وقد تقدم فيما قبل هذا الفصل ويأتي فيما بعده إن شاء الله تعالى نبذة من الآداب التي تتأكد المحافظة عليها في العبادات.
ونذكر الآن في هذا الفصل نبذة من الآداب التي ينبغي المحافظة عليها في العادات فنقول:
اعلم أن من حافظ في عاداته على الآداب النبوية حفظه الله من التعدي إلى ما وراءها من الأعمال والأخلاق الردية وحصل على المصالح والمنافع الدينية والدنيوية التي جعلها الله بحكمته في تلك الأمور العادية، ومن سرَّه أن تكمل له الحرية والطهارة من أدناس الحظوظ البشرية فليجعل حركاته وسكناته في ظاهره وباطنه مضبوطة بالقانون الشرعي، تابعة لإشارة الشرع والعقل، وكيفما وقع ذم العادات على لسان الصوفية فالمقصود به الدخول فيها على مقتضى الشهوة والهوى والاسترسال معها دون محافظة على الآداب الشرعية.
وقد قال حجة الإسلام في "الأربعين الأصل" بعد أن حث على متابعة الرسول ونبه على شيء من أسرارها: هذا كله في العادات وأما في العبادات فلا أعرف لتارك السنة وجهاً إلا كفراً خفياً أو حمقاً جلياً فاعرف ذلك.
(واعلم) أنه ينبغي لك أن تصدر جميع أمورك باسم الله فإن نسيت أن تسمي في أول الأمر فقل -إذا تذكرت-: باسم الله في أوله وآخره، واجتهد أن لا تدخل في شيء من العادات إلا بنية صالحة؛ فإذا لبست ثوبك فانو به ستر عورتك التي أمرك الله بسترها وابدأ باليمين في نحو القميص وأخِّرها في النزع، وارفع إزارك وقميصك إلى نصف الساق، فإن أبيت فلا تجاوزن الكعب، وللمرأة إرسال ثوبها على الأرض من كل ناحية قريباً من ثلثي ذراع، واجعل كم قميصك إلى الرسغ أو إلى أطراف الأصابع وإن زدت فلا تسرف، وقد كان كم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ، وقطع علي قميص له إلى أطراف الأصابع، ولا تتخذ من الملابس إلا ما تحتاج إلى لبسه، ولا تتحر أنفس الملبوس ولا أخشنه وتوسط في ذلك ولا تكشف عورتك ولا شيئاً منها لغير حاجة، ومتى دعت الحاجة إلى كشف شيء منها فقل عنده: بسم الله الذي لا إله إلا هو. وقل إذا لبست ثوبك: "الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة".
ومن السنة لبس العمامة وليس من السنة توسيع الأكمام وكبر العمائم.
(وعليك) أن لا تنطق إلا بخير، وكل كلام لا يحل النطق به يحرم عليك الاستماع إليه، وإذا تكلمت فرتل كلامك ورتبه، واصغ إلى حديث من حدثك ولا تقطعن على أحد كلامه إلا إن كان من الكلام الذي يسخط الله كالغيبة، واحذر المداخلة في الكلام، ولا تظهر لمن حدثك حديثاً تعرفه أنك تعرفه؛ فإن ذلك مما يوحش الجليس، وإذا حدثك إنسان بكلام أو حكى لك حكاية على غير الوجه المنقول فلا تقل له ليس كما تقول ولكنه كذا وكذا، فإن تعلق ذلك بأمر الدين فعرفه الصواب برفق.
(وإياك) والخوضَ فيما لا يعنيك وإكثارَ الحلف بالله، ولا تحلف به تعالى إلا صادقاً عند الحاجة، واحذر الكذب بجميع أنواعه فإنه مناقض للإيمان.
(وإياك) والغيبةَ والنميمة والإكثارَ من المزاح، واجتنب سائر الكلام القبيح، وأمسك عن رديء الكلام كما تمسك عن مذمومه، وتفكر فيما تقول قبل أن تقول فإن كان خيراً فقل وإلا فاصمت.
وقال عليه الصلاة والسلام: "كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ذكر الله أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر"
وقال عليه الصلاة والسلام: "رحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فسلم".
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد من الثريا".
(وعليك) أن لا تنقل قدميك إلا إلى خير أو في حاجة، وإذا مشيت فلا تستعجل، ولا تختال في مشيتك ولا تتبختر فتسقط بذلك من عين الله، ولا تكره أن يمشى أمامك ولا تحب أن يوطأ عقبك ويمشى خلفك فإن ذلك من أخلاق المتكبرين، ولا تكثر الالتفات وأنت تمشي ولا تقف في طريقك لمجرد الفضول، وكان عليه الصلاة والسلام إذا مشى يتقلع كأنما ينحط من صبب وإذا نودي من ورائه وقف ولم يلتفت.
(وعليك) إذا جلست بالتحفظ على عورتك واجلس مستقبلاً القبلة على هيئة الخشوع والوقار ولا تكثر الاضطراب والتحرك والقيام من مجلسك.
(وإياك) والإكثار من الحك والتمطط والتجشؤ والتثاؤب في وجوه الناس وإذا أخذك التثاؤب فضع يدك اليسرى على فيك.
(وإياك) وكثرة الضحك فإنه يميت القلب وإن استطعت أن تجعل ضحكك التبسم فافعل، ولا تقم من مجلسك حتى تقول: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" فقد ورد أن من قال ذلك غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
وإذا أردت النوم فاضطجع على جنبك الأيمن مستقبلاً للقبلة تائباً من جميع الذنوب عازماً على قيام الليل قائلاً: باسمك اللهم ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه فاغفر لي ذنبي، اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك "ثلاثاً" أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه "ثلاثاً" وقل: سبحان الله "ثلاثاً وثلاثين" مرة والحمد لله كذلك والله أكبر "أربعاً وثلاثين".
وللنوم أذكار غير هذه فلا تغفل عنها.
ولا تنم إلا على طهارة، وليأخذك النوم وأنت على ذكر الله تعالى، ولا تتعود النوم على الفرش الوطيئة فيدعوك ذلك إلى كثرة النوم وترك القيام بالليل، فيعظم حزنك وتحسرك إذا رأيت ما أعد الله للقائمين. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "يحشر الناس في صعيد واحد فينادي مناد أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب".
وقال عليه الصلاة والسلام: "قالت أم سليمان بن داوود عليه السلام يا بني لا تكثر النوم بالليل، فإن من يكثر النوم بالليل يأتي فقيراً يوم القيامة".
وقال الإمام الغزالي رحمه الله اعلم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة فلا يكون نومك فيها أكثر من ثمان ساعات فيكفيك إن عشت ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة وهي الثلث.
ومتى تعذر عليك في بعض المواضع الجمع بين التيامن والاستقبال فنم على يمينك واجتهد أن لا تستدبر القبلة، وإذا قصدت باضطجاعك الاستراحة دون النوم فلا بأس أن تضطجع على الأيسر.
وفي النوم وقت القيلولة معونة على قيام الليل فعليك به.
واحذر أن تنام بعد صلاة الصبح فإنه يمنع الرزق، أو بعد صلاة العصر فإنه يورث الجنون، أو قبل صلاة العشاء فإنه يورث الأرق.
وإذا رأيت في منامك ما يسرُّك من الرؤيا فاحمد الله وأوله بخير مناسب يكون كذلك، وإذا رأيت ما يسوءك فتعوذ بالله من الشر واتفل عن يسارك ثلاثاً وتحول إلى جنبك الآخر ولا تحدث بها أحداً فإنها لا تضرك، وإذا قص عليك أحد الرؤيا فلا تؤولها حتى يسأل منك ذلك أو تستأذنه فيه.
وإذا أكلت أو شربت فابدأ باسم الله واختم بالحمد لله، وكل واشرب بيمينك، وإذا قدم إليك طعام فقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وأطعمنا خيراً منه إلا أن يكون لبناً فقل: وزدنا منه فإنه لا شيء خير منه كما ورد.
(وعليك) بغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وبتصغير اللقمة، وتدقيق المضغ، ولا تمدد يدك إلى الطعام حتى تبتلع ما في فمك، وكلْ من نواحي القصعة ولا تأكل من وسطها فإن البركة تنزل عليه، وإذا سقطت لقمتك فأمط ما بها من أذى ثم كلها ولا تدعها للشيطان، والعَق أصابعك والقصعة بعد الفراغ، وكل بالسبابة والوسطى والإبهام، وإن احتجت إلى الاستعانة بالبقية في نحو الأرز فلا بأس.
  وإذا أكلت مع غيرك فكل مما يليك إلا الفاكهة، ولا تكثر النظر إلى الحاضرين في حال أكلهم، وتحدث معهم بما يناسب الحال، ولا تتكلم والطعام في فمك، وإن غلبك بصاق أو مخاط فالو برأسك عنهم أو قم إلى موضع آخر.
وإذا أكلت عند قوم فاثن عليهم وادع لهم بخير وقل بعد الفراغ من الأكل: الحمد لله. اللهم كما أطعمتني طيباً فاستعملني صالحاً، الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة. فمن قال ذلك غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ولا تتكلف الإدام لكل طعام، ولا تعب طعاماً قط وإن كان رديئاَ.
ولا تجعل همتك أكل الطيبات وتناول الشهوات فتكون من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسادهم وإنما همتهم ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون في الكلام".
وقال علي، كرم الله وجهه: من كانت همته ما يدخل بطنه كانت قيمته ما يخرج منها.
واجتهد أن لا تدخل بطنك إلى حلالاً؛ فإن من أكل الحلال أربعين يوماً استنار قلبه، وجرت ينابيع الحكمة على لسانه، وأكرمه الله بالزهد في الدنيا، وصفت سريرته، وحسنت معاملته مع ربه، ومن أكل الحرام والشبهات كان على الضد من ذلك كله.
(وإياك) والاتساع في الأكل وكثرة الشبع فإنه من الحلال مبدأ كل شر. ومن آفاته قسوة القلب وفساد الفطنة وتشويش الفكرة والكسل عن العبادة إلى غير ذلك من الآفات.
وسبيل الاقتصاد في الأكل أن تمسك عن الطعام وأنت تشتهيه ولا تتناوله حتى تشتهيه بشهوة صادقة.
وعلامة صدق الشهوة أن تشتهي كل طعام.
وإذا شربت الماء فمصّه ولا تعبّه، واشرب في ثلاثة أنفاس، ولا تتنفس في الإناء ولا تشرب من ثلمته1، ولا تشرب وأنت قائم ولا من فم السقاء فإن لم تجد إناء فاشرب على يدك وقل بعد الشرب: الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا.
وإذا أتيت أهلك فقل: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، واستر نفسك وأهلك بثوبك.
(وعليك) بالسكينة والهدوء وإذا أحسست بالإنزال فاقرأ في نفسك من غير أن تحرك لسانك قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً) الآية.
والأفضل للناسك من التزوج وتركه ما كان منهما أسلم لدينه وأصلح لقلبه وأجمع لفكره، ويكره كراهة شديدة لمن لا زوجة له أن يتفكر في شأن النساء التفكير الذي يحمل النفس على الميل إليهن، ومن بلي بذلك ولم يقدر على قمعه بوظائف العبادات فعليه بالتزوج فإن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه يكسر الشهوة.
وإذا قصدت بيت الخلاء لبول أو غائط فالبس نعليك واستر رأسك وقدم رجلك اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج وقل عند إرادة الدخول "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وعند الخروج "غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني". ولا تذكر الله على تلك الحالة إلا بقلبك.
ولا تستصحب شيئاً مكتوباً عليه اسمه تعالى؛ إجلالاً له، ولا تعبث ولا تتكلم إلا لضرورة ولا ترفع من ثوبك إلا القدر الذي يخشى عليه التنجس، واستتر بحيث لا يراك شخص، وابعد بحيث لا يسمع منك صوت ولا يشم منك ريح ، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ببول ولا بغائط، وقد يتعذر فعل ذلك في بعض الأبنية فيغتفر للمشقة، ولا تبل في الماء الراكد وإن كان كثيراً، إلا عند الحاجة ولا على الأرض الصلبة ولا في مهاب الريح كل ذلك احترازاً من البول الذي عامة عذاب القبر منه فعليك بالاستبراء منه جهدك من غير خروج إلى حد الوسوسة، ويحصل بالتنحنح ونتر الذكر وإمرار اليد على أسفله برفق، واستنج بالحجر ثم بالماء فإن اقتصرت على أحدهما فالماء أفضل وقدم القبل في الماء وأخره في الحجر وقل بعد الاستنجاء "اللهم حصن فرجي من الفواحش وطهر قلبي من النفاق".
(وعليك) بالتيامن في كل شأنك إلا في غسل النجاسات وإزالة الأقذار والدخول في المواضع التي من شأنها الاستقذار فينبغي أن يفعل ذلك كله باليسار.
وإذا عطست فاخفض بها صوتك واستر فمك وقل: الحمد لله رب العالمين ولا تبصق إلا عن شمالك أو تحت قدمك اليسرى.
(وعليك) بشد أفواه الأسقية، وتخمير1 الأواني، وإغلاق باب المنزل لا سيما عند النوم وعند الخروج منه، ولا تنم حتى تطفئ كل نار في البيت من سراج وغيره أو تواريها، وإذا أصبح الإناء مكشوفاً أو السقاء مفتوحاً فلا تشرب الماء الذي فيه ولا تستعمله إلا فيما يستعمل فيه الماء المتنجس، وهو طاهر ولكن في استعماله خطر، وقد ذكر الشيخ ابن عربي في الفتوحات أن في السنة ليلة مبهمة تنزل فيها الأدواء فلا تصادف إناء مكشوفاً ولا سقفاً محلولاً إلا دخلته، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشد الأسقية وتخمير الآنية2، وإذا لم تجد ما تغطي به الإناء فاجعل عليه عوداً واذكر اسم الله عليه وتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.


فصــل

(وعليك) بطول المكث وكثرة الجلوس في المسجد بنية الاعتكاف؛ فإن المساجد بيوت الله وأحب البقاع إليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "المسجد بيت كل تقي" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" وقال الله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) وعده عليه السلام في السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال: "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه" ولكن عليك حال الجلوس فيه بالأدب والاحترام والإمساك عن فضول الكلام فضلاً عن المحظور منه والحرام، فإن بدا لك التحدث بشيء من أمور الدنيا فابرز إلى خارج المسجد، ولا تشتغل في المسجد إلا بالعبادة فقط؛ لأنه لم يبن إلا ليعبد الله فيه. قال الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) إلى قوله (والله يرزق من يشاء بغير حساب).
وإذا دخلت المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل: "بسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك" ولا تجلس حتى تصلي ركعتين فإن لم تتمكن من الصلاة فقل أربع مرات "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وإذا خرجت منه فقدم رجلك اليسرى وقل ما تقدم واجعل بدل "أبواب رحمتك" "أبواب فضلك" وزد "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وجنوده".
وإذا سمعت المؤذن فقل مثل ما يقول إلا في الحيعلتين فقل: "لا حول ولا قوة إلا بالله" وفي التثويب1صدقت وبررت، فإذا فرغت من جوابه فصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قل: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته".
وأكثر من الدعاء بين الأذان والإقامة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الدعاء بين الأذانين لا يرد"، ومن الدعاء الوارد في هذا الوقت "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة" وقد ورد الحث في السنة على هذا الدعاء في غير هذا الوقت فعليك به فإنه من أجمع الأدعية وأفضلها.


فصــل

(وعليك) بالمبادرة بالصلاة أول الوقت بحيث لا يؤذن المؤذن لكل مكتوبة إلا وقد توضأت وحضرت في المسجد، فإن لم تفعل ذلك فلا أقل من أن تأخذ في الاستعداد للصلاة من حين تسمع الأذان. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "فضل أول الوقت على آخره كفضل الآخرة على الدنيا" وقال عليه الصلاة والسلام: "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله".
(وعليك) بالمحافظة على السنن الراتبة التي أرشدك الشرع إلى فعلها قبل المكتوبات وبعدها، واحذر أن تتساهل بترك شيء منها وما فاتك منها بعذر فبادر بقضائه.
(وعليك) بالخشوع في صلاتك، وحضور القلب، وتحسين القيام، وترتيل القراءة وتدبرها، وإتمام الركوع والسجود وسائر الأركان، والمحافظة على السنن والآداب التي ندبك الشرع إلى العمل بها في الصلاة ، والاحتراز عما يوجب نقصاً في الصلاة أو يفوت به وجود الكمال؛ فإنك إن فعلت ذلك خرجت صلاتك بيضاء مسفرة تقول: حفظك الله كما حفظتني، وإلا خرجت سوداء مظلمة تقول: ضيعك الله كما ضيعتني. وقد قال عليه الصلاة والسلام: " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها".
وقال الحسن البصري رحمه الله: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع.
والشيطان لعنه الله حريص على أن يشغل المؤمن عن صلاته، حتى إنه يفتح عليه عند قيامه إلى الصلاة أبواباً من الحوائج ويذكره أشياء من الأمور التي تهمه في دنياه لم تكن له قبل الصلاة على بال، وقصد اللعين بذلك أن يشغله في صلاته عن الإقبال على الله والحضور معه فيها، وإذا لم يحصل له ذلك فاته الإقبال على الله، وربما خرج من صلاته مأزوراً، ولذلك استحب العلماء رحمهم الله للمصلي أن يقرأ عند إرادة الدخول في الصلاة قل أعوذ برب الناس1 تحصناً من الشيطان الرجيم.
(وينبغي) أن لا تداوم في صلاتك على قراءة سورة مخصوصة بعد الفاتحة، إلا إن ورد الشرع به، وذلك كقراءة (الم السجدة، وهل أتى على الإنسان) في صبح يوم الجمعة.
واحذر أن تداوم في صلاتك على قراءة السور القصيرة كالكافرون والإخلاص والمعوذتين.

وإن كنت إماماً، فالمصير إلى التخفيف المندوب إليه الإمام إلى حديث معاذ رضي الله عنه وهو أنه أمَّ قوماً فأطال عليهم جدّاً فشكاه رجل منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: "أفتان أنت يا معاذ اقرأ بسبح الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى". ومن نظر في كتب الأثر عرف ما قلناه، وقد روي أن آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة المغرب قرأ فيها بالمرسلات عرفاً. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


فصــل

(وعليك) إذا صليت خلف إمام أن تحسن المتابعة له؛ فإنما جعل الإمام ليؤتم به، واحذر أن تقارنه في شيء من أفعال الصلاة، فضلاً عن أن تتقدم عليه. والذي ينبغي، أن تجعل أفعالك في صلاتك تابعة لأفعاله بالأثر. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد الشيطان".
(وعليك) بالمبادرة إلى الصف الأول والمزاحمة عليه من غير إيذاء لأحد. واحذر أن تتأخر عنه مع إمكان التقدم إليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزال قوم يتأخرون" أي عن الصف الأول "حتى يؤخرهم الله" أي عن فضله ورحمته. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم" وكان صلوات الله عليه وسلامه يستغفر لأهل الصف الأول ثلاثاً وللثاني مرة.
(وعليك) برصِّ الصفوف وتسويتها. فإن كنت إماماً كان الأمر منك بذلك آكد، وهذا أمر مهمٌّ في الشرع وأكثر الناس غافلون عنه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على ذلك ويتولى فعله بنفسه ويقول:  "لتسون صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم" وكان يأمر بسدِّ الفُرَج ويقول: "والذي نفسي بيده إني لا أرى الشيطان يدخل في خلل الصف كأنه الخذَف" يعني الغنم الصغار.
(وعليك) بالمحافظة على فعل الصلوات الخمس مع الجماعة والمداومة على ذلك؛ فإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة كما في الحديث الصحيح، واحذر أن تدع الصلاة في الجماعة لغير عذر أو لعذر فاسد. ومهما جئت إلى موضع الجماعة فوجدتها قد صليت، أو قعدت في بيتك تبتغي بذلك السلامة في دينك فينبغي أن تضم إليك من يصلي معك؛ ليحصل لك ثواب الجماعة وتسلم من الوعيد والتهديد الوارد في حق تاركيها، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "لينتهين أقوام عن ترك الجماعة أو لأحرقن عليهم بيوتهم" وقوله عليه السلام: "من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له"، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها يعني صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف- يعني من الكِبَر.
وإذا كان هذا التشديد كله في ترك الجماعة فما ظنك به في ترك الجمعة التي هي فرض عين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه" فإذا وقع لك عذر في ترك جمعة أو جماعة فقدر أن في الموضع الذي تقام فيه رجلاً يفرق دنانير على الحاضرين فإن نشطت للحضور ورغبت فيه فعذرك غير صحيح واستحي من الله أن يكون غرض الدنيا أعز عليك مما عنده.
(واعلم) أن العذر الصادق غايته إسقاط الحرج، وأما الثواب فلا يحصل إلا بالفعل "نعم" قد يحصل الثواب لمن تعذر عليه الحضور من كل وجه، كالذي يكون عذره الإسهال المتواتر، أو الحبس عدواناً ونحو ذلك، أو لا يتعذر عليه الحضور ولكن يلحق بسببه لمسلم غيره مشقة شديدة، كالذي يكون عذره تمريض الضائع ونحوه، فصاحب هذا العذر والذي قبله إن قارن عذرهم الحزن والتحسر على ترك الحضور حصل لهم الثواب.

ثم إن المؤمن الكامل لا يدع شيئاً مما يقربه إلى الله وإن كان له في تركه ألف عذر حتى يعلم أن تركه أحب إلى الله من فعله، وهذا أقل ما يتفق، ولذلك تحمل الكمل من أهل الله في فعل ما يقربهم إلى الله أموراً تعجز عن حملها الجبال الرواسي. وأما من ضعف إيمانه وقل يقينه وقصرت معرفته بالله فلا يعول في ترك ما افترضه الله عليه إلا على سقوط الحرج (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون).

(وعليك) بحمل كل من لك عليه ولاية من ولد وزوجة ومملوك على فعل الصلوات المكتوبة. فإن امتنع أحد من هؤلاء من فعلها فعليك بوعظه وتخويفه، فإن تمرد أو أصر على الترك فعليك بضربه وتعنيفه، فإن إمتنع ولم ينزجر عن الترك فعليك بمقاطعته ومدابرته فإن تارك الصلاة شيطان بعيد عن رحمة الله، متعرض لغضبه ولعنته، تحرم مولاته وتجب معاداته على كل مسلم، وكيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد أشرك" وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا دين لمن لا صلاة له وإنما مثل الصلاة من الدين كمثل الرأس من الجسد".
(وعليك) بالتفرغ يوم الجمعة من جميع أشغال الدنيا، واجعل هذا اليوم الشريف خالصاً لآخرتك، فلا تشتغل فيه إلا بمحض خير ومجرد الإقبال على الله، وأحسن المراقبة لساعة الإجابة وهي ساعة تكون في كل يوم جمعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيراً ويستعيذه من شر إلا استجاب الله له.
(وعليك) بالبكور إلى الجمعة ولو أن تروح إليها قبل الزوال، وبالقرب من المنبر، والإنصات للخطبة، واحذر أن تشتغل عنه بذكر أو فكر، فضلاً عن اللغو وحديث النفس، واستشعر في نفسك أنك مقصود بجميع ما تسمعه من الوعظ والوصية واقرأ بعد السلام وأنت ثان رجليك وقبل أن تتكلم الفاتحة والإخلاص والمعوذتين "سبعاً سبعاً" وقل أيضاً بعد الانصراف من الصلاة سبحان الله العظيم وبحمده "مائة مرة" ففي الخبر ما يدل على فضل ذلك وبالله التوفيق.


فصــل

(وعليك) إن كان لك مال تجب فيه الزكاة بإخراج زكاته طيبة بها نفسك قاصداً بها وجه الله، مبادراً بتمييزها وتفريقها عند حضور وقتها من غير تأخير، فإن فعلت ذلك درت عليك البركات وتضاعفت عليك أنواع الخيرات وصار مالك في حرز حصين من جميع الآفات.
(وعليك) بتمييز الزكاة ثم بتفريقها واجتنب ما يفعله بعض أبناء الدنيا، وذلك أن أحدهم لا يميز الزكاة عن ماله ولكن يصير كلما صادف مستحقاً أعطاه قسطاً وحَسَبًهُ حتى يستوفي القدر الواجب، ولا تأكل من ثمرك وزرعك الذي يجيء نصاباً عند الحصاد بعد بدو صلاحه حتى تعلم القدر الواجب منه جافاً.
وإن أردت أن تأكل من شجرة معينة فلا يجب عليك أن تعرف إلا القدر الواجب فيها فقط.
(واعلم) أن من يحتال في إسقاط الزكاة بهبة ونحوها أو يعطيها غير المستحقين مع العلم، أو يفرقها على مقتضى الهوى كالذي يخص بإعطائها من يعود عليه منه نفع عاجل لا يخرج من الدنيا حتى يعذبه الله بماله (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
وإذا كان هذا حال من يخرجها على غير الوجه المشروع، فكيف يكون حال من لا يخرج الزكاة رأساً (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين).
وقد تقرر أن مانع الزكاة قرين تارك الصلاة في الشر وقد قاتل أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- مانعي الزكاة وسماهم أهل الردة.
(وعليك) بإخراج زكاة الفطر عنك وعن كل من تلزمك نفقته وذلك إن استطعت.
(وعليك) بالإكثار من الصدقة وبالتصدق على الأرحام المحتاجين وأهل الخير المقلين خصوصاً فإن الصدقة تزكو ويزيد ثوابها بوضعها في مثل هذه المواضع.
(وعليك) بالتصدق بما تحب وبما يعز عليك؛ لتنال البر. قال الله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)، وبالإيثار على نفسك عند الحاجة؛ لتصير من المفلحين، بالإسرار بالصدقة؛ فإن صدقة السر تطفئ غضب الرب. وتتضاعف على صدقة العلانية بسبعين ضعفاً وتسلم من طرق الرياء المفسد للأعمال، ولا تدع أن تتصدق كل يوم بشيء وإن قل وباكر به؛ فإن البلاء لا يتخطى الصدقة.
ولا تخيب سائلاً وقف ببابك ولو أن تعطيه تمرة فما دونها فإنه هدية الله إليك فإن لم تجد ما تعطيه فأحسن رده بلين من القول وجميل من الوعد، وإذا أعطيت مسكيناً شيئاً فأظهر له البشر والبشاشة واستشعر في نفسك أن له المنة عليك لقبوله منك عرضاً يسيراً حصل لك بسببه من الثواب حظ لو بذلت الدنيا بحذافيرها في مقابله لكنت رابحاً، وقد ورد أن اللقمة الواحدة يصير ثوابها عند الله أعظم من جبل أحد، ولا يمنعك من التصدق مخافة الفقر فإن ترك التصدق هو الذي يجلب الفقر، وأما التصدق فهو يجلب الغنى والسعة، حتى إن الذي يرغب في الدنيا لو أخذ يتصدق لعاد المدبر منها مقبلاً إليه وأمثاله معه.
(واعلم) أن للصدقة منافع عاجلة وآجلة، فمن منافعها العاجلة أنها تزيد في الرزق والعمر، وتدفع ميتة السوء، وتجلب الصحة للجسم والبركة للمال، ومن منافعها الآجلة أنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وتكون ظلاً على رأس صاحبها يوم القيامة، وستراً له من العذاب إلى غير ذلك من المنافع وما يذكر إلا من ينيب.

فصــل

(وعليك) بالإكثار من أعمال البر وخصوصاً في شهر رمضان؛ فإن ثواب النافلة فيه يعدل ثواب الفريضة في غيره، وأيضاً فإنه يحصل في رمضان من التيسير والنشاط في أعمال البر ما لا يحصل مثله ولا قريب منه في غيره من الشهور؛ وذلك لأن النفس المتكاسلة عن البر مسجونة بالجوع والعطش، والشياطين المثبطة عن الخير مصفدة، وأبواب النار مغلقة، وأبواب الجنة مفتحة، والمنادي ينادي كل ليلة بأمر الله: يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر.
 (وينبغي) أن لا تعرج في هذا الشهر الشريف على غير عمل الآخرة، ولا تدخل في شيء من أعمال الدنيا إلا إذا كان ضرورياً، واجعل شغلك بأمر المعاش في غير رمضان وسيلة إلى الفراغ للعبادة فيه، وخُصّ العشر الأواخر منه بمزيد إقبال على الله ولزوم للعبادة، وإن أمكنك أن لا تخرج من المسجد في هذه العشر إلا إلى ما لا بد منه فافعل.
 (وعليك) بصلاة التراويح في كل ليلة من رمضان وقد جرت العادة في بعض البلاد بتخفيفها جداً حتى ربما وقع بسبب ذلك في ترك بعض الأركان فضلاً عن السنن، والمعروف من فعل السلف توزيع القرآن من أوله إلى آخره على هذه الصلاة كل ليلة يقرؤون منه فيها شيئاً حتى يختموه في بعض الليالي من آخر الشهر فإن أمكنك أن تقتدي بهم في ذلك فالغنيمة الغنيمة، وإلا فلا أقل من إتمام أركان الصلاة والمحافظة على آدابها.
وأحسن المراقبةَ لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وهي الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ومن كوشف بها رأى الأنوار الساطعة، وأبواب السماء مفتحة والملائكة تصعد وتنزل وربما رأى الموجودات كلها ساجدة لله تعالى الذي خلقها، وجمهور العلماء على أنها في العشر الأواخر من رمضان، وفي الأوتار منها أرجى، وقد كوشف بها بعض العارفين ليلة السابع عشر وإليه ذهب الحسن البصري، وقال بعض العلماء: إنها أول ليلة من رمضان وذهب جماعة من الأكابر إلى أنها ليست ليلة مخصوصة ولكنها تنتقل في ليالي رمضان، قالوا والسر في ذلك أن يصير المؤمن في كل ليلة من هذا الشهر في غاية الإقبال على الله تعالى وعلى طاعته رجاء أن يصادف هذه الليلة التي قد أبهمت عليه والله أعلم.

(وعليك) بتعجيل الفطور عند تيقن الغروب وتأخير السحور ما لم تخش الوقوع في الشك، وبتفطير الصائمين ولو على تمرات أو شربة من الماء؛ فإن من فطر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص ذلك من أجره شيئاً، واجتهد أن لا تفطر ولا تفطر صائماً إلا على طعام حلال.
(وعليك) بالتقليل من الأكل، وتناول الموجود من الحلال من غير إيثار للطيب الملائم، فإن مقصود الصوم كسر الشهوة، والاتساع في الأكل وقصد الطيبات لا يكسرها ولكنه يقويها ويهيجها.
(وعليك) بصيام الأيام التي ورد الشرع بالترغيب في صيامها كيوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء، وتاسوعاء، والست من شوال، وابتدئ فيها من ثاني يوم العيد؛ فإن ذلك أبلغ في رياضة النفس.
(وعليك) بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن ذلك يعدل صيام الدهر. وإن تحريت له الأيام البيض فهو أحسن؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يدع صيامها حضراً ولا سفراً.
(وعليك) بالإكثار من الصوم مطلقاً ولا سيما في الأوقات الفاضلة كالأشهر الحرم والأيام الشريفة كالاثنين والخميس.
(واعلم) أن الصيام قطب الرياضة وأساس المجاهدة وقد ورد أن الصوم نصف الصبر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" قال الله تعالى: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي" "للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


فصــل

(وعليك) بالمبادرة إلى أداء ما فرض الله عليك من الحج والعمرة عند الاستطاعة، وإياك والتأخير بعد حصولها فربما عجزت أو مت بعد التمكن فيستقر الوجوب في ذمتك وتعد به مقصراً وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ومات ولم يحج فليست إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً".
(وعليك) عند القدرة بالتطوع بالحج والعمرة كغيرهما من القربات؛ فقد ورد عن الله تعالى أنه قال: "إن عبداً قد صححت جسمه وأكثرت ماله تأتي عليه خمسة أعوام ولا يغدو علي لعبد سوء" الحديث بمعناه.
(وعليك) عند إرادتك المسير إلى الحج بتعلم واجباته وسننه وأذكاره، وبتعلم أدلة القبلة ورخص السفر وآدابه وما يقال فيه من الأذكار، ولا تجعل قصدك الحج مشتركاً بينه وبين التجارة بل ينبغي أن لا يصحبك شيء من متاع الدنيا إلا ما تقصد إنفاقه في مدة سفرك وإن كان ولابد فاجتنب أخذ ما يشغلك عن أداء المناسك على وجهها وتعظيم شعائر الله كما ينبغي.
(وعليك) بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن زيارته عليه السلام بعد وفاته كزيارته في حياته وهو صلى الله عليه وسلم حي في قبره وكذلك سائر الأنبياء، ومن الجفاء أن تحج بيت الله وتترك زيارة حبيب الله لغير عذر ناجز.
(واعلم) أنك لو جئت على رأسك من أقصى بلاد الإسلام لزيارته صلى الله عليه وسلم لم تقم بشكر نعمة الهداية التي أوصلها الله إليك على يده.
(وعليك) إذا أردت الشروع في أمر مهم كالسفر والزواج ونحوهما بمشاورة من تثق بمعرفته وأمانته من إخوانك، ثم إذا صادفت إشارته ما النفس فعليك بصلاة ركعتين من غير الفريضة بنية الاستخارة، وادع بعدهما بالدعاء المشهور. قال عليه الصلاة والسلام: "ما خاب من استخار وما ندم من استشار".
(وعليك) إذا نذرت لله نذراً من صلاة أو صدقة أو غير ذلك من القربات بالمبادرة بالوفاء به، ولا تتعود الإكثار من النذر؛ فإن الشيطان ربما أغراك بذلك ليوقعك في الإخلال.
وإذا حلفت على فعل شيء ثم رأيت الخير في تركه، أو على ترك شيء ثم رأيت الخير في فعله، فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير.
(واحذر) أن تحلف أو تشهد على مقتضى الظن وإن كان غالباً، فضلاً عن الوهم والشك. وإذا أخذت مال مسلم بيمينك فالواجب عليك رد ما أخذته وتكفير يمينك، وكفارتها إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم تجد فصيام ثلاثة أيام.
(وإياك ثم إياك) واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار بلاقع- أي خراباً. وتغمس صاحبها في نار جهنم.
(والحذر كل الحذر) من شهادة الزور؛ فإنها من أكبر الكبائر وقد قرنها عليه الصلاة والسلام بالإشراك بالله، وإذا كان كتمان الشهادة من العظائم فما الظن بافترائها. نسأل الله العافية والسلامة قبل حصول الندامة.

فصــل

(وعليك) بالورع عن المحرَّمات والشبُهات؛ فإن الورع ملاك الدين، والذي عليه المدار عند العلماء العاملين. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل لحم نَبَتَ من سُحت فالنار أولى به" وقال عليه الصلاة والسلام: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام".
(واعلم) أن الذي يتناول الحرام والشبهات قلَّ أن يوفق لفعل العمل الصالح، وإن وفق له ظاهراً فلا بد أن يعرض له من الآفات الباطنة ما يفسده عليه كالعُجب والرياء.
وعلى كل حال فالذي يأكل الحرام عمله مردود عليه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وبيان ذلك أن الأعمال لا يتصور فعلها إلا بحركات الجوارح، وحركات الجوارح لا تستطاع إلا بالقوة المكتسبة من الغذاء، فإذا كان الغذاء خبيثاً كانت القوة والحركات المتولدة منه خبيثة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار لم يتقبل الله ذلك منكم إلا بورع حاجز. (وروي) مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيها درهم من حرام لم يتقبل الله له صلاة ما دام عليه شيء منه" وإذا كان هذا حكم الثوب الذي عشر ثمنه من حرام فكيف يكون الحال لو كان كله كذلك! وإذا كان هذا في الملبوس الذي هو على ظاهر الجسد فما الظن به في الغذاء الذي يتخلل العروق والأوصال ويسري في سائر البدن؟
(واعلم) أن المحرمات قسمان:
(أحدهما) شيء محرم لعينه كالميتة والدم والخمر ونحو ذلك، وهذا النوع لا يحل بوجه من الوجوه إلا عند الضطرار وهو توقف بقاء النفس المحترمة على تناوله مع فقدان غيره.
(والثاني) حلال في نفسه كالحنطة والماء الطاهر ولكنه مملوك لغيرك فلا يزال محرماً عليك حتى يصير إليك من وجه سائغ في الشرع كالبيع والهبة والإرث ونحو ذلك.
وأما الشبهات فهي درجات (فمنها) ما تُيُقِّن تحريمه وشُك في حله وهذه الشّبه حكمها حكم الحرام.
(ومنها) ما تيقن حله وشك في تحريمه وهذه الشبه تركها من الورع.
(ومنها) ما هو بين ذلك كالذي يحتمل أن كون حلالاً ويحتمل أن يكون حراماً. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
وإنما يستدل على ورع الرجل بإحجامه عن الأمر المشكل حتى يتضح، ولا يكون العبد من المتقين حقاً حتى يترك الحلال المحض الذي يخشى عند تناوله الوقوع في ما وراءه من الشبهات والحرام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس" وقالت الصحابة رضوان الله عليهم: كنا نترك سبعين باباً من الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وهذا أمر قد تُودِّع منه من زمان قديم فمن لنا بورع يحجزنا عن الشبهات والمحرمات فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(وعليك) بمعرفة جميع ما حرم الله عليك لتجتنبه فإن من لا يعرف الشر يقع فيه.
(واعلم) أنه لا يُخشى على ذي دين من وقوعه في تناول المحرمات العينية كأكل ما لا يحل أكله من الحيوانات، ولا في أخذ أموال الناس عدواناً وظلماً بالغصب والنهب والسرقة؛ فإن ذلك إنما يصدر غالباً من جبار عنيد أو شيطان مريد، وإنما دخل الاشتباه على أهل الدين من حيث إهمالهم النظر في ثلاثة أمور:
"الأول" ترك التفتيش في موضعه، وبيان ذلك أن الناس ينقسمون بالنسبة إليك ثلاثة أشخاص:
"شخص" معروف عندك بالخير والصلاح فكل من طعامه وعامله إذا شئت ولا تسأل.
"والثاني" شخص مجهول عندك ولا تعرفه بخير ولا بشر، فإذا أردت أن تعامل هذا أو تقبل هديته فمن الورع أن تسأل، ولكن برفق حتى إنك لو عرفت أنه ينكسر قلبه لذلك كان السكوت أفضل.
"والثالث" شخص معروف عندك بالظلم كالذي يعمل بالربا ويجازف في بيعه وشرائه ولا يبالي من أي جهة يصل إليه المال، فينبغي أن لا تعامل هذا رأساً، وإن كان ولا بد فقدم التفتيش والسؤال، وهذا كله من الورع حتى تعلم أن الحلال في يده نادر عزيز فعند ذلك يجب عليك الاحتراز.
وإذا وصلت إليك عين تعلم أو ظن بعلامة ظاهرة أنها حرام أو شبهة فلا تتوقف عن ردها وإن وصلت إليك على يد أصلح الصالحين.
(والأمر الثاني) عدم الاحتراز من المعاملات الفاسدة والمكروة وطريق الخلاص أن تجتنب جميع البيوع الفاسدة والمكروهة. فلا تبع ولا تشتري إلا بصيغة صحيحة، ولا بأس بالمعاطاة في المحقرات، واجتنب الغش والكذب والحلف على السلع، ولا تكتم عيباً في سلعتك لو اطلع عليه المشتري لم يشترها بذلك الثمن.
(واحذر كل الحذر) من المعاملة بالربا؛ فإنه من الكبائر قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذَرُوا ما بقي من الربا إن كنت مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده.

وجملة القول في الربا أنه يحرم بيع النقد بمثله كالفضة بالفضة والمطعوم بمثله كالحنطة بالحنطة إلا مِثْلاً بمثل يداً بيد، فإن اختلف النوع كالذهب بالفضة والتمر بالحنطة جاز التفاضل ووجب التقابض في الحال، ولا ربا في بيع الحيوان بالحيوان والثوب بالثوب والمطعم بالنقد.

(وإياك) والاحتكار وهو أن تشتري طعاماً تعظم الحاجة إليه وتدخره بنية الغلاء.
(والأمر الثالث) الانهماك في شهوات الدنيا والتبسط في ملذوذاتها، فعند ذلك يعسر الورع ويضيق الحلال فإن هذا سرف والحلال لا يحتمل السرف، وأما من غرضُه من الدنيا أخذ قدر الضرورة أو الحاجة فالورع ميسر له.
قال حجة الإسلام نفع الله به: وإذا قنعت في السنة بقميص خشن، وفي اليوم والليلة برغيفين من الخشكار لم يعوزك من الحلال ما يكفيك؛ فإن الحلال كثير، وليس عليك أن تتيقن باطن الأمور بل عليك أن تحترز من كل ما تعلمه حراماً أو تظنه ظناً حصل من علامة ناجزة مقرونة بالمال انتهى.
وإذا حاك في نفسك شيء فمن الورع اجتنابه وإن أحله ظاهر العلم؛ فإن الإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا خاص بمن له قلب مستنير، وفي جانب الكف دون الأخذ.
ولا تحسب أن الورع خاص بالمطعوم والملبوس، بل هو عام في جميع الأمور ولكن ينبغي لك إذا كان في يدك حلال وأحل منه أو حلال وشبهة أن تقدم المطعوم بما كان أحل أو أطيب؛ فإن المدار كله على الغذاء، وللطُّعمة من الحلال أثر كبير في تنوير القلب ونشاط الجوارح للعبادة، وقد قال بعض السلف: كل ما شئت فمثله تعمل. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أطب مطعمك وما عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار. فاعلم ذلك! وبالله التوفيق.


فصــل

(وعليك) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه القطب الذي عليه مدار الدين، ولأجله أنزل الله الكتب وأرسل المرسلين، وقد انعقد على وجوبه إجماع المسلمين، وتظاهرت نصوص الكتاب والسنة على الأمر به والتحذير من تركه. قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).

وقد وصف الله المؤمنين في غير موضع من كتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و حظهم في بعض المواضع على الإيمان، وفي بعضها على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال تعالى: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعملون) وقال تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وقال صلوات الله وسلامه عليه: "والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم".
وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس منا لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
(واعلم) أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، واختص الثواب بالقائمين به، وإذا لم يقم به أحد عم الحرج كافة العالمين به القادرين على إزالته.
والواجب عليك إذا رأيت من يترك معروفاً أو يفعل منكراً أن تعرفه بكون ذلك معروفاً أو منكراً، فإن لم يدعه فعليك بوعظه وتخويفه، فإن لم ينزجر فعليك بتغييره وقهره بالضرب وكسر آلة اللهو المحرمة وإراقة الخمر ورد الأموال المغصوبة من يده إلى أربابها. وهذه الرتبة لا يستقل بها إلا من بذل نفسه لله، أو كان مأذوناً له من جهة السلطان، وأما الرتبتان الأولتان أعني التعريف والوعظ فلا يقصر عنهما إلا جاهل مخبِّط أو عالم مفرِّط.
(واعلم) أن الأمر بالمعروف واجب، والنهي عن المحرم واجب والأمر بالمندوب والنهي عن المكروه مستحب.
(وعليك) إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر ولم يُسمع لك، بمفارقة موضع المنكر وهجر مرتكبه حتى يفيء إلى أمر الله.
(وعليك) بكراهة المعاصي وكراهة المصرين عليها وبغضهم في الله وهذا واجب كل مؤمن.
وإذا ظُلمت أو شُتمت فظهر عليك من الغضب وتغير الوجه ووجدت من كراهة الفعل والفاعل ما لا يكون مثله ولا أعظم منه عند سماعك المنكر ومشاهدته، فتحقق أنك ضعيف الإيمان وأن عرضك ومالك أعز عليك من دينك.
وإذا علمت وتحققت أنك إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر لا يستمع لك ولا يقبل منك أو علمت أنه يحصل عليك بسببه ضرر ظاهر في نفسك أو مالك جاز لك السكوت وصار الأمر والنهي بعد أن كان واجباً من الفضائل العظيمة الدالة من فاعلها على محبة الله وإيثاره على من سواه، وأما إذا علمت أن المنكر يزيد بسبب النهي أو يتعدى الضرر إلى غيرك من المسلمين فالسكوت حينئذ أولى وربما وجب.
(وإياك) والمدهنةَ فإنها من الجرائم وهي أن يكون الحامل لك على السكوت الخوف من فوات مال أو جاه أو نفع يكون من قبل المباشر للمنكر أو غيره من الفسقة.
 (وعليك) إذا أمرت أو نهيت بالإخلاص لله تعالى، والرفق وحسن السياسة، وإظهار الشفقة؛ فما اجتمعت هذه الخصال في عبد مع كونه عاملاً بما أمر به مجتنباً لما نهى عنه إلا كان لكلامه صولة وهيبة في الصدور ووقع في القلوب وحلاوة في الأسماع وقل أن يُرَدَّ عليه مع هذا كلامه، وكل من تحقق بمراقبة الله والتوكل عليه وتخلَّق بالرحمة على عباده لم يقدر أن يملك نفسه عند مشاهدة المنكر حتى يزيله أو يحال بينه وبين ذلك بما لا قدرة له على دفعه.
(وإياك) والتجسُّسَ وهو طلب الوقوف على عورات المسلمين ومعاصيهم المستورة، قال عليه السلام: "من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته".

*    *    *
(واعلم) أن المعصية إذا سترت لم تضر إلا مرتكبها فإذا ظهرت ولم تغير عم ضررها.
(وعليك) إذا تفاحش ظهور المعاصي والمنكرات في موضع أنت فيه وأيست من قبول الحق بالعزلة فإن فيها السلامة، أو بالهجرة إلى موضع آخر وهي أولى فإن العذاب إذا نزل على موضع يعم الخبيث والطيب ويكون للمؤمن الذي لم يقصر في نصرة دين الله كفارة ورحمة ولغيره عقاباً ونقمة والله أعلم.


فصــل

(وعليك) بالعدل في رعيتك الخاصة والعامة وكمال الحفظ والتفقد لها؛ فإنه الله تعالى سائلك عنها وكل راع مسؤول عن رعيته. وأعني برعيتك الخاصة جوارحك السبع وهي اللسان والسمع والبصر والبطن والفرج واليد والرجل فإن هذه الجوارح رعية استرعاك الله إياها وأمانة ائتمنك عليها فعليك بكفها عن معصيته واستعمالها في طاعته؛ فإن الله تعالى إنما خلقها لك لتطيعه بها وهي من أجل نعم الله عليك، وشكرها أن تطيعه سبحانه بها وأن لا تعصيه بشيء منها، فإن تركت ذلك ولم تفعله فقد بدلت نعمة الله كفراً، ولولا أن الله تعالى سخر لك هذه الجوارح وجبلها على طاعتك لكنت لا تستطيع أن تعصي الله بشيء منها، وكل جارحة منها تقول لك بلسان حالها إذا أردت أن تعمل بها معصية: يا عبد الله اتق الله ولا تكرهني على فعل ما حرم الله علي فإذا عصيت الله بها ترجع إلى الله وتقول قد نهيته يا رب فلم يسمع وأنا بريئة مما صنع، وسوف تقف بين يدي الله تعالى فتنطق جوارحك شاهدة لك بما عملت بها من خير، وعليك بما عملت بها من شر في يوم (لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).

وأعني برعيتك العامة من جعل الله لك عليه ولاية من ولد وزوجة ومملوك فكل هؤلاء من رعيتك، والواجب عليك إرشادهم إلى القيام بما فرض الله عليهم من طاعته وما حرَّم عليهم من معصيته، واحذر أن تسامحهم في ترك واجب أو ارتكاب محرم، وادعُهم إلى ما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدار الآخرة، وأحسن أدبهم ولا تغرس في قلوبهم حب الدنيا وشهواتها فتكون بذلك مسيئاً إليهم، وقد ورد أن أهل الإنسان وولده يتعلّقون به بين يدي الله، ويقولون: يا ربنا إن هذا لم يعرِّفنا ما أوجبت علينا من حقك فاقتصَّ لنا منه.
 (وعليك) بمعاملتهم بالعدل والفضل، أما العدل فهو أن توفِّيهم حقوقهم التي أوجبها الله لهم عليك من النفقة والكسوة والمعاشرة بالمعروف، ومن العدل الواجب أن تردع بعضهم عن ظلم بعض وتقتص لمظلومهم من ظالمهم وفي الحديث: "إن العبد يكتب جباراً وما يملك إلا أهل بيته" يعني فيجور عليهم.
وأما الفضل فهو أن لا تستقصي عليهم في طلب الحقوق التي أوجبها الله لك عليهم، وأن ترفق بهم وتخالقهم بالأخلاق الكريمة وتباسطهم في بعض الأوقات من غير إثم بقدر ما تزول الوحشة والتنفير وتبقى الهيبة والتوقير.
(وعليك) بالعفو عن مسيئهم والصفح عن جانيهم، واجعلهم باطناً في حل مما اختلسوه من مالك، فإنك سوف تجد ذلك في كفة حسناتك، فلا ينبغي أن يكون حظك منهم الثواب وحظهم منك العقاب. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم يُغْفَرُ للرقيق في كل يوم؟ قال: "سبعون زلة".
وهذه المسامحة إنما هي في حقوقك، وإما في حقوق الله فلا وجه لها.
وخُص النساء من أهل بيتك بمزيد حفظ وتفقد فإنهن ناقصات عقل ودين وعلمهن أحكام الحيض وفرائض الغسل والوضوء والصلاة والصيام وحقوق الأزواج وما يجري مجرى ذلك.
وقد تتسع رعية بعض العباد كالسلاطين والعلماء، وكل راع مسؤول عن رعيته. قال تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية وقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من وال يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" الحديث.
  (وعليك) ببر الوالدين فإنه من أوجب الواجبات وإياك وعقوقهما؛ فإنه من أكبر الكبائر قال تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) الآية والتي بعدها وقال تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك) فانظر كيف قرن الأمر بالإحسان إليهما بتوحيده وشكرهما إياه بشكره فعليك بابتغاء مرضاتهما وامتثال أمرهما ما لم يكن معصية، واجتناب نهيهما ما لم يكن طاعة واجبة، وبإيثارهما على نفسك وتقديم مهماتهما على مهماتك.
ومن العقوق أن تؤذيهما بقطع ما تستطيع إيصاله من المعروف إليهما فكيف بتقطيب الوجه والانتهار لهما، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "يوجد ريح الجنة من مسيرة ألف عام ولا يجده عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا مسبل إزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين".
وقال عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى: "من أصبح مرضياً لوالديه مسخطاً لي فأنا عنه راض ومن أصبح مسخطاً لوالديه مرضياً لي فأنا عنه ساخط".
(وينبغي) للوالد أن يعين ولده على بره بعد الاستقصاء عليه في طلب الحقوق، ولا سيما في هذا الزمان الذي عز فيه وجود البر وعم فيه وجود الشر، وصار الولد يَعُدُّ أبر أولاده من لم يسيء إليه منهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله والداً أعان ولده على بره".
(وعليك) بصلة الرحم الأقرب فالأقرب، وبالإحسان إلى الجيران الأدنى باباً فالأدنى. قال الله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) الآية.
وقد أمر الله بالإحسان إلى القرابة في مواضع عديدة من كتابه العزيز. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على القرابة صدقة وصلة" وقال عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" وفي حديث آخر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره". وقال عليه الصلاة والسلام: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورِّثه".
ولا تتم صلة الأرحام والإحسان إلى الجيران إلا بكف الأذى عنهم واحتمال الأذى منهم وبذل المعروف حسب الاستطاعة لهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" وقال عليه الصلاة والسلام: "وطنوا أنفسكم على أن تحسنوا إذا أحسن الناس ولا تسيئوا إذا أساءوا". وبالله التوفيق.


فصــل

(وعليك) بالحب في الله والبغض في الله فإنه من أوثق عرى الإيمان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله تعالى" فإذا أحببت العبد المطيع لله لكونه مطيعاً أو أبغضت العاصي لله لكونه عاصياً لا لغرض آخر فأنت ممن يحب في الله ويبغض في الله حقيقة، وإذا لم تجد في نفسك محبة لأهل الخير لخيرهم وكراهة لأهل الشر لشرهم فاعلم أنك ضعيف الإيمان.
(وعليك) بمصاحبة الأخيار واعتزال الأشرار ومجالسة الصالحين ومجانبة الظالمين. قال عليه الصلاة والسلام: "المرة على دين خليله فلينظر أحكم من يخالل". وقال عليه الصلاة والسلام: "الجليس الصلاح خير من الوحدة، والوحدة خير من الجليس السوء".
(واعلم) أن مخالطة أهل الخير، ومجالستهم تزرع في القلب محبة الخير وتعين على العمل به، كما أن مخالطة أهل الشر ومجالستهم تغرس في القلب حب الشر وحب العمل به، وأيضاً فإن من خالط قوماً وعاشرهم أحبهم ضرورةً سواء كانوا أخياراً أو أشراراً والمرء مع من أحب في الدنيا والآخرة.
(وعليك) بالرحمة لعباد الله والشفقة على خلق الله، وكن رحيماً شفيقاً ألوفاً مألوفاً، واحذر أن تكون فظاً غليظاً أو فاحشاً جافياً، قال عليه الصلاة والسلام: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء ومن لا يرحم لا يرحم" وقال عليه السلام: "المؤمن ألوف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف".
(وعليك) بتعليم الجاهلين وإرشاد الضَّالين وتذكير الغافلين، واحذر أن تذع ذلك قائلاً إنما يعلم ويذكر من يعمل بعلمه وأنا لست كذلك، أو إني لست بأهل للإرشاد لأنه من أخلاق الأكابر، وهذا كله تلبيس من الشيطان؛ فإن العليم والتذكير من جملة العمل بالعلم، والأكابر ما كانوا أكابر إلا بفضل الله والعمل بطاعته وإرشادهم عباد الله إلى سبيل الله، وإذا لم تكن أهلاً فليس لك طريق إلى حصول الأهلية إلا فعل الخير والدعاء إليه وإنما الشؤم في الدعوى والدعاء إلى غير الحقّ.
(وعليك) بجر قلوب المنكسرين، وملاطفة الضعفاء والمساكين، ومواساة المقلين، والتيسير على المعسرين، وإقراض المستقرضين، وفي الحديث أن ثواب القرض يزيد على ثواب الصدقة بثمانية أضعاف؛ وذلك أن القرض لا يأخذه إلا محتاج.
(وعليك) بتعزية من نزلت به مصيبة قال عليه السلام: "من عزى مصاباً أي صبره كان له مثل أجره".
(وإياك) والشماتة بأحد من المسلمين وهي أن تفرح بما ينزل به من المصائب. قال عليه الصلاة والسلام: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" واحذر أن تعيِّر مسلماً بذنب وقع فيه فإن من عير مسلماً بذنب لم يمت حتى يبتلى بمثل ما عيره به.
(وعليك) بالتفريج عن المكروبين، وقضاء حوائج المحتاجين، وستر عورات المذنبين، قال عليه الصلاة والسلام: "من يسر على معسر يسر الله عليه، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
(وعليك) بإماطة الأذى عن طريق المسلمين؛ فإن ذلك من شعب الإيمان وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في غصن شوك قطعه من طريق المسلمين".
(وعليك) برحمة اليتيم والمسح على رأسه. قال عليه السلام: "من مسح على رأس يتيم كتب الله له بكل شعرة مرت عليها يده عشر حسنات" واجتهد في إدخال السرور على قلوب المؤمنين بكل أوجه أمكنك ما لم يكون إثماً.
(وعليك) بالشفاعة لكل من سألك أن تشفع له في حاجة إلى من لك عنده جاه؛ فإن الله يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن ماله، وإذا توجه على عبد شيء من الحدود الشرعية كحد الزنا والسرقة فاحذر أن تشفع له؛ فإن الشفاعة في الحدود غير جائزة، وإذا شفعت شفاعة فأهديت لك بسببها هدية فلا تقبلها فإنها رشا.
(وعليك) بالتبسم في وجوه المؤمنين، وطلاقة الوجه وإظهار البشر لهم، وطيب الكلام معهم، ولين الجانب وخفض الجناح لهم. قال الله تعالى لنبيه (واخفض جناحك للمؤمنين) وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" وقال عليه الصلاة والسلام: "الكلمة الطيبة صدقة" ومن المأثور: إذا التقى المسلمان فتصافحا قسمت بينهما مائة رحمة تسعة وتسعون منها لأكثرهما بِشْراً.
واحذر أن تهجر مسلماً لحظ نفسك فإن اقتضت المصلحة الدينية هجره، فلا تهجره فوق ثلاثة أيام. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من هجر أخاه فوق ثلاث أدخله الله النار إلا أن يتداركه الله برحمته". ومحل هذا إذا كان الهجر للتأديب فأما إذا كان لإتيانه باطلاً أو تركه حقاً فلا آخر له إلا برجوعه إلى الحق.
(وعليك) بإظهار الفرح والاستبشار بكل ما يتجدد للمسلمين من المسار، كنزول الأمطار، ورخاء الأسعار، وظهورهم على الباغين والكفار.
(وعليك) بالحزن والاغتمام بسبب ما ينزل بهم من البلايا كالوباء والغلاء والفتن، وتوجه إلى الله في أن يكشف ذلك عنهم مع التسليم لقضائه وقدره. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". وقال صلوات الله عليه: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
(وعليك) إذا أسدى إليك مسلم معروفاً بقبوله منه وشكره ومكافأته عليه فإن لم تقدر عليها أو كان ممن توحشه المكافأة فعليك بالدعاء له. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت" وقال: "من اصطنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تقدروا على ذلك فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه" وقال عليه السلام: "من قال لمن أسدى إليه معروفاً جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء".
(وإياك) أن تكسر قلب مسلم برد صنيعته عليه، وأنت تعلم أن الواصل إليك على يده إنما هو من الله حقيقة وإنما هو واسطة مسخر مقهور وفي الحديث: من أتاه شيء من غير مسألة ولا استشراف نفس فرده فإنما يرده على الله".
وفي الرد آفة عظيمة وهي أن العامة مجبولون على تعظيم من يرد صلاتهم عليهم، فربما كان الحامل لبعض النساك على الرد التظاهر بالزهد؛ حرصاً منه على حصول المنزلة عندهم، ومن ههنا كان بعض المحققين يأخذ من أيدي الناس ظاهراً ثم يتصدق به سراً.
وقد يجب الرد في مسائل، وقد يندب:
"منها" أن يحمل إليك ما تعلم أو تظن بعلامة أنه حرام، أو تحمل إليك صدقة واجبة على ظن أنك من أهلها وأنت لست كذلك.
"ومنها" أن يكون المسدي إليك ظالماً مصراً على الظلم وتخشى إذا قبلت معروفه أن قلبك يميل إليه أو تداهنه في الدين أو يغلب على ظنك أنك متى قبلت شيئا يصير بحيث لا يقبل منك ما تلقيه إليه من الحق.
"ومنها" أن تعلم من حال إنسان أنه يقصد بصلته إضلالك عن سبيل الله بمساعدته على باطل أو ترك حق، ومن هذا القبيل ما يأخذه القاضي والعامل وغيرهما من ولاة الأمور من الخصمين أو أحدهما إذا ترافعا إليهم، وهذا هو الرشا المحرم، وله تتمات مذكورة في مواضعها فعليك بالرد في جميع هذه المسائل المذكورة.
(واحذر) أن تدعو على نفسك أو على ولدك أو على مالك أو على أحد من المسلمين وإن ظلمك؛ فإن من دعا على من ظلمه فقد انتصر. وفي الخبر "لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة إجابة".
(وإياك) أن تؤذي مسلماً أو تسبه بغير حق فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من آذى مسلماً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" وقال عليه السلام: "سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر".
واحذر أن تلعن مسلماً أو بهيمة أو جماداً أو شخصاً بعينه وإن كان كافراً إلا إن تحققت أنه مات على الكفر كفرعون وأبي جهل أو علمت أن رحمة الله لا تناله بحال كإبليس. وقد ورد أن اللعنة إذا خرجت من العبد تصعد نحو السماء فتغلق دونها أبوابها ثم تنزل إلى الأرض فتغلق دونها أبوابها ثم تجيء إلى الملعون فإن وجدت فيه مساغاً وإلا رجعت على قائلها.
(وعليك) بالتأليف بين قلوب المؤمنين وتحبيب بعضهم إلى بعضهم بإظهار المحاسن وستر القبائح.
(وعليك) بإصلاح ذات بينهم فإن في الإصلاح فضلاً يزيد على فضل النفل من الصلاة والصيام ولا سيما بين الوالد وولده والقريب وقرابته. قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم).
(وإياك) وإفساد ذات البين بالنميمة والغيبة ونحوهما مما يوجب التنافر والتدابر؛ فإن ذلك عند الله تعالى عظيم.
أما النميمة فهي أن تنقل كلام إنسان لإنسان تقصد بذلك الإفساد بينهما. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" وقال عليه السلام: "أبغضكم إلى الله تعالى المشاءون بين الأحبة بالنميمة المفرقون بين الإخوان".
وأما الغيبة فهي أن تذكر إنساناً في غيبته بما يكرهه لو كان حاضراً تقصد بذلك تنقيصه، وسواء حصل التفهيم بالنطق أو الإشارة أو الكتابة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" وقال عليه السلام: "الغيبة أشد من الزنى"، وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار.
(وإياك) والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة ولا سيما ظلم العباد فإنه الظلم الذي لا يتركه الله. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات كثيرة ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت على سيئاته ثم يقذف به في النار" فإن وقعت في ظلم أحد فبادر بالخروج منه بالتمكين من القصاص إن كان من المظالم النفسية، وبطلب الإحلال إن كان من المظالم العرضية، وبرد ما أخذته إن كان من المظالم المالية، وفي الحديث: "من كانت عليه لأخيه مظلمة فليستحل منه قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم إنما هي الحسنات والسيئات" فإن تعذر عليك رد بعض المظالم حتى لم يمكن بحال فعليك بصدق اللجأ إلى الله تعالى والافتقار والاضطرار في أن يرضي عنك خصمك، وبالإكثار لمن ظلمته من الدعاء والاستغفار.
(وعليك) بالذب عن دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم في غيبتهم وحضورهم كما تذب عن نفسك وفي ذلك كله فإن من نصر مسلماً نصره الله ومن خذل مسلماً خذله الله.


فصــل

وعليك بالنصح لكل مسلم، وغايته أن لا تكتم عنه شيئاً ترى في إظهاره له حصولاً على خير أو نجاة من شر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة".
ومن النصح أن تكون لكل مسلم في غَيبته كما تكون له في حضوره، وأن لا تظهر له من المودة بلسانك فوق ما يضمره قلبك. ومنه إذا استشارك مسلم في شيء وعرفت أن الصواب في خلاف ما يميل إليه أن تخبره به.
ومما يدل على خلاف النصح الحسد للمسلمين على ما آتاهم الله من فضله. وأصله أن يشق عليك إنعام الله تعالى على عبد من عبيده بنعمة في دينه أو دنياه وغايته أن تتمنى زوال النعمة عنه، وقد ورد أن "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" والحاسد معترض على الله في ملكه وتدبيره وكأنه يقول بلسان حاله: يا رب إنك وضعت النعمة في غير موضعها ولا بأس بالغبطة وهي أن ترى نعمة من الله على عبد من عبيده فطلب منه سبحانه مثلها.
(وعليك) إذا أثنى عليك أحد بكراهية الثناء بقلبك، ثم إن أثنى عليك بما فيك فقل الحمد لله الذي أظهر الجميل وستر القبيح، وإن أثنى عليك بما ليس فيك فقل كما قال بعض السلف: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون.
وأما أنت فلا تثني على أحد إلا إن علمت أنه يزداد بثنائك نشاطه في الخير، أو كان فاضلاً لا يعرف فضله فأثنيت عليه للتعريف بفضله بشرط السلامة من الكذب في جهتك، ومن الاغترار في جهة من تثني عليه.
(وعليك) إذا أردت أن تنصح إنساناً في أمر بلغك عنه بالخلوة به والتلطف له في القول له ولا تعدل إلى التصريح مع إمكان التفهيم بالتلميح فإن قال لك من بلغك عني هذا؟ فلا تخبره كي لا تثير العداوة بينه وبينه، ثم إن قبل منك فاحمد الله واشكر له وإن لم يقبل فارجع على نفسك باللوم وقل لها يا نفس السوء من قبلك أتيت، فانظري لعلك لم تقومي بشرائط النصح وآدابه.
وإذا ائتمنك إنسان على شيء فعليك بحفظه أشد مما تحفظه لو كان ملكاً لك.
(وعليك) بأداء الأمانة وإياك والخيانة فيها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له" وقال عليه السلام: "ثلاث متعلقات بالعرش: النعمة تقول اللهم إني بك فلا أكفر، والرحم تقول اللهم إني بك فلا أقطع، والأمانة تقول اللهم إني بك فلا أخان".
(وعليك) بصدق الحديث وبالوفاء بما عاهدت عليه ووعدت به فإن نقض العهود والخلف في الوعود من أمارات النفاق وفي الحديث: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي رواية: "وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر".
(وعليك) بالحذر من المراء والجدال فإنهما يوغران الصدور ويوحشان القلوب ويولِّدان العداوة والبغضاء فإن ماراك أو جادلك محق فعليك بالقبول منه؛ لأن الحق أحق أن يتبع، أو مبطل فعليك بالإعراض عنه؛ لأنه جاهل والله تعالى يقول: (وأعرض عن الجاهلين).
(وعليك) بترك المزاح رأساً فإن مزحت نادراً على نية تطييب قلب مسلم فلا تقل إلا حقاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعِده موعدةً فتخلفه".
(وعليك) بإجلال المسلمين وتوقيرهم لا سيما أهل الفضل منهم كالعلماء والصلحاء والشرفاء ومن له شيبة في الإسلام.
(وإياك) أن تروع أحداً من المسلمين أو تخيفه أو تستهزئ به أو تسخر منه أو تنظر إليه بعين الاستحقار فإن هذا كله من الأخلاق المشؤومة والأفعال المذمومة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
(وعليك) بالتواضع فإنه من أخلاق المؤمنين.
(وإياك) والتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين، ومن تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" وقال عليه السلام: "الكبر بطر الحق" يعني رده و"غمط الناس" يعني احتقارهم.
ومن نظر إلى نفسه بعين التعظيم وإلى غيره بعين الاستصغار فهو من المتكبرين.
وللمتواضعين والمستكبرين أمارات تميز بعضهم عن بعض (ليميز الله الخبيث من الطيب).
فمن أمارات التواضع حب الخمول وكراهية الشهرة وقبول الحق ممن جاء به من شريف أو وضيع.
ومنها محبة الفقراء ومخالطتهم ومجالستهم.
ومنها كمال القيام بحقوق الإخوان حسب الإمكان مع شكر من قام منهم بحقه وعذر من قصر.
ومن أمارات التكبر محبة التصدر في المجالس والمحافل والتقدم على الأقران وتزكية النفس والثناء عليها والتشدق في الكلام والتبجح بالآباء والاختيال والتبختر في المشية وترك الوفاء بحقوق الإخوان مع مطالبتهم بالحقوق.


فصــل

(وعليك) بإقراء السلام على كل من تعرفه ومن لا تعرفه من المسلمين، وإذا سلمت على أحد منهم فلا يرد عليك فلا تسيء به الظن، وقل لعله لم يسمع أو لعله رد فلم أسمعه.
وإذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، وإذا دخلت مسجداً أو بيتاً وليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا لقيت مسلماً فاجتهد أن تبدأه بالسلام قبل أن يسلم عليك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقي المسلم المسلم فأيهما يبدأ بالسلام؟؟ قال أولاهما بالله" وفي الحديث: "يسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والصغير على الكبير، والقليل على الكثير".
(وعليك) بتشميت العاطس إذا حمد فإن لم يحمد فذكره بقولك الحمد لله . ولا تدخل على بيت غيرك حتى تستأذن أولاً فإن استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لك فلا تُعِد الاستئذان، وإذا ناداك مسلم فاجبه بالتلبية.
وإذا دعاك إلى طعامه فلا تترك الإجابة إلا لعذر شرعي، وإذا أقسم عليك أن تفعل شيئاً أو تتركه فبِرَّ قسمه ما لم يكن فيه معصية لله. ولا تسأل أحداً بالله شيئاً وإن سئلت بالله شيئاً فإياك أن تمنع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من سأل بالله فلم يعط".
(وعليك) بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وبزيارة إخوانك المسلمين في الله كلما اشتقت إليهم، وبمصافحتهم عند اللقاء، وسؤالهم عن أحوالهم، والسؤال عمن غاب منهم؛ فإن كان مريضاً عدته، وإن كان في شغل أعنته إن استطعت وإلا دعوت له.
(وعليك) بحسن الظن بجميع المسلمين واحذر أن تسيء الظن بأحد منهم، قال عليه الصلاة والسلام: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله".
وغاية حسن الظن بالمسلمين أن لا تعتقد الشر في شيء من أفعالهم وأقوالهم وأنت تجد له محملاً في الخير كالمعاصي فنهاية حسن الظن بمرتكبيها أن تنهاهم عنها وتظن بهم أن إيمانهم يحملهم على الانتهاء عنها وترك الإصرار عليها بالتوبة منها.
وغاية سوء الظن بالمسلمين أن تعتقد السوء في أفعالهم وأقوالهم التي ظاهرها الخير (ومثال ذلك) أن ترى مسلماً يكثر الصلاة والصدقة والتلاوة فتظن به أنه ما فعل ذلك إلا مرائياً للناس وحرصاُ على المال والجاه وهذا الظن الفاسد لا يصدر إلا من ذي طوية خبيثة وهو من أخلاق المنافقين وقد قال الله تعالى في وصفهم: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات)، أي يرمونهم بالرياء. وقال صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مراءون".
(وعليك) بالإكثار من الدعاء والاستغفار لنفسك ولوالديك وقرابتك وأصحابك خصوصاً ولسائر المسلمين عموماً فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب. وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم ودعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب".
وقال عليه السلام: "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله" وقال ميمون بن مهران رحمه الله من استغفر لوالديه بعد كل مكتوبة فقد قام بالشكر لهما الذي أمره الله به في قوله: (أن اشكر لي ولوالديك).
وورد أن من استغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل يوم سبعاً وعشرين مرة كان من الذين يستجاب دعاؤهم وبهم يرزق العباد ويمطرون وهذا وصف الأولياء.
(واعلم) أن حقوق المسلم على المسلم كثيرة فإذا أردت القيام بها على وجهها فعامل المسلمين في غيبتهم وحضورهم بما تحب أن يعاملوك به وجاهد نفسك ووطِّن قلبك على أن تحب لهم من الخير ما تحب لنفسك وتكره لهم من الشر ما تكره لنفسك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: إذا لم تستطع أن تنفع المسلمين فلا تضرهم، وإذا لم تستطع أن تسرهم فلا تسؤْهم وإذا لم تستطع أن تفرحهم فلا تغمّهم، وإذا لم تستطع أن تمدحهم فلا تذمهم، وقال سيدي محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: كن مع الحق كأن لا خلق وكن مع الخلق كأن لا نفس، وقال بعض السلف: الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واشكروا الله على العافية والحمد لله رب العالمين.


فصــل

 (وعليك) بالتوبة من كل ذنب سواء كان صغيرا أو كبيرا ظاهراً أو باطنا؛ً فإن التوبة أول قدم يضعها العبد في طريق السلوك وهي أساس جميع المقامات والله يحب التوابين. قال الله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"... الحديث.
(واعلم) أن التوبة لا تصح بدون ترك الذنب والندم على فعله والعزم على أن لا تعود إليه ما عشت.
وللتائب الصادق علامات منها رقة القلب وكثرة البكاء ولزوم الموافقة وهجر قرناء السوء ومواطن المخالفة.
(وإياك) والإِصرار وهو أن تذنب ثم لا تتوب على الفور، والواجب على كل مؤمن أن يحترز من المعاصي صغائرها وكبائرها كما يحترز من النيران المحرقة والمياه المغرقة والسموم القاتلة ولا يفعل الذنب ولا يقصده ولا يتحدث به قبل وقوعه ولا يفرح به بعد الوقوع، فإذا وقع فيه كان الواجب ستره وكراهته والمبادرة بالتوبة منه في الحال .
(وعليك) بتجديد التوبة في كل حين فإن الذنوب كثيرة والعبد لا يخلو في ظاهره وباطنه من معاص عديدة وإن حسنت حالته واستقامت طريقته ودامت طاعته، وحسبك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع عصمته وكماله المطلق يتوب إلى الله تعالى ويستغفره في كل يوم أكثر من سبعين مرة .
(وعليك) بالإِكثار من الاستغفار آناء الليل وآناءَ النهار ولا سيما عند الأسحار، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".
وأكثِر أن تقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. فقد كانوا يعدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الذكر المبارك في المجلس الواحد قريباً من مائة مرة .
(وعليك) بدعوة ذي النون عليه السلام وهي لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فقد ورد أنها اسم الله الأعظم وأنه لا يقولها مهموم ولا مغموم إلا فرج الله عنه قال الله تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) .
(وعليك) بالرجاء والخوف فإنهما من أشرف ثمرات اليقين وقد وصف الله بهما عباده السابقين فقال وهو أصدق القائلين: (أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي فلْيظنَّ بي ما يشاء" وقال عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: "وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين إن هو أمِنَني في الدنيا أخفته يوم أبعث عبادي وإن هو خافني في الدنيا أمَنته يوم أجمع عبادي".
وأصل الرجاء معرفة القلب بسعة رحمة الله وجوده وعظيم فضله وإحسانه وجميل وعده لمن عمل بطاعته فيتولد من هذه المعرفة حالة فرح تسمى الرجاء. وثمرته المقصودة منه كثرة المسارعة في الخيرات، وشدة المحافظة على الطاعات فإن الطاعة هي السبيل الموصلة إلى رضوان الله وجنته.
وأما الخوف فأصله معرفة القلب بجلال الله تعالى وقهره وغناه عن جميع خلقه وشديد عقابه وأليم عذابه اللذين توعد بهما من عصاه وخالف أمره فيتولد من هذه المعرفة حالة وجَل تسمى الخوف. وثمرته المقصودة منه ترك المعاصي وشدة الاحتراز منها فإن المعصية هي الطريق الموصلة إلى سخط الله ودار عقوبته.
وكل رجاء وكل خوف لا يحملان على فعل الموافقات وترك المخالفات معدودان عند أرباب البصائر من الترَّهات والتهويسات التي لا حاصل لها ولا طائل تحتها فإن من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئا ًهرب منه لا محالة.
(واعلم) أن الناس ثلاثة "عبدٌ" قد أناب إلى ربه واطمأنت نفسه به وانقشعت ظلمات شهواته بإشراق أنوار قربه فلم تبق له لذة إلاَّ في مناجاته ولا راحة إلا في معاملته فصار رجاؤه شوقاً ومحبة وخوفه تعظيماً وهيبة، "وعبدٌ" لا يأمن على نفسه من التقاعد عن المأمورات والركون إلى المحظورات، والذي ينبغي لهذا العبد استواء الخوف والرجاء حتى يكونا كجناحي الطائر. وفي الحديث: "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" وهذا حال أكثر المؤمني .
"وعبدٌ" قد غلب عليه التخليط واستولى عليه التفريط، فاللائق به غلبة الخوف عليه لينزجر عن المعاصي إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه غالباً على خوفه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
(وعليك) إذا تكلمت في الرجاء مع العامة بالاقتصار على ذكر الرجاء المقيد وهو أن تذكر الوعد الجميل والثواب الجزيل المتوقف على فعل الحسنات و ترك السيئات.
(واحذر) أن تخوض معهم في الرجاء المطلق وذلك مثل أن تقول: العبد يذنب والرب يغفر، ولولا الذنوب لم يظهر عفو الله وحلمه، وما ذنوب الأولين والآخرين في سعة رحمة الله إلا كنقطة في بحر لجي ونحو ذلك. وهذا الكلام حق ولكنه يضر بالعامة وربما أغراهم بركوب المعاصي فتكون أنت السبب في ذلك، وما كل حق يقال، ولكل مقام رجال.
(وإياك) والقنوطَ من رحمة الله والأمنَ من مكر الله فإنهما من كبائر الذنوب قال تعالى: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) وقال: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).
والقنوط عبارة عن تمحض الخوف حتى لا يبقى للرجاء وجود البتة .
والأمن عبارة عن تجرد الرجاء حتى لا يبقى للخوف وجود بحال.
فالقانط والآمن جاهلان بالله واقعان لا محالة في ترك الطاعة وفعل المعاصي؛ فإن القانط يترك الطاعة لأنه يرى أنها لا تنفعه والآمن يرتكب المعصية بظنه أنها لا تضره نعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء.
(وإياك) وأماني المغفرة القاطعةَ عنها وهي ما تسمعه على لسان طائفة من المغترين من قولهم: (إن الله يغفر الذنوب جميعاً) وهو غنيٌّ عنا وعن أعمالنا وخزائنه مملوءة بالخير ورحمته وسعت كل شيء، مع إصرارهم على فعل المعاصي وترك الأعمال الصالحة، وكأنهم يقولون بلسان أحوالهم أن الطاعات لا تنفع وإن المعاصي لا تضر وهذا بهتان عظيم، وقد قال الله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) وقال تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني". 
ولو أنك قلت لواحد من هؤلاء المغرورين: اقعد عن الكسب والتجارة والله تعالى يأتيك برزقك لَسخِر منك، وقال ما رأينا شيئا ًيجيئ إلا بالسعي والطلب، بل بالكدِّ والنصَب، مع أن الله تعالى قد تكفل له بالدنيا ولم يتكفل له بالآخرة فهل ذلك إلا انعكاس وانتكاس على أم الرأس!
وقد قال الحسن البصري رحمه الله: إن أماني المغفرة قد لعبت بأقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، يعني من الأعمال الصالحة، قال رحمه الله: إن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً فالمؤمن لا يصبح إلا خائفاً، ولا يمسي إلا خائفاً، يعمل ويقول:لعلي أنجو! والمنافق يترك العمل ويقول سواد الناس كثير وسوف يغفر لي. انتهى.
وقد كان الأنبياء والأولياء مع كمال معرفتهم بالله وحسن ظنهم به وصلاح أعمالهم وقلة ذنوبهم أو عدمها بالكلية في غاية من الخوف والإشفاق (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).  

فصــل

(وعليك) بالصبر فإنه ملاك الأمور ولا بد لك منه ما دمت في هذه الدار وهو من الأخلاق الكريمة والفضائل العظيمة قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) وقال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) وقال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصبر أمير جنود المؤمن" وقال عليه الصلاة والسلام: "في الصبر على ما تكره خير كثير" وفي وصيته لابن عباس رضي الله عنهما "واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً".
(واعلم) أن السعادة موقوفة على حصول القرب من الله وحصوله موقوف على اتباع الحق واجتناب الباطل أبداً، والنفس مجبولة بأصل فطرتها على كراهية الحق والميل إلى الباطل، فلا يزال من همه تحصيل السعادة في حاجة إلى الصبر تارة بحمل النفس على اتباع الحق، وأخرى بحملها على اجتناب الباطل.
والصبر على أربعة أقسام (أولها) الصبر على الطاعات، ويحصل باطناً بالإخلاص وحضور القلب فيها، وظاهراً بلزومها والدوام عليها والدخول فيها بنشاط والإتيان بها على الوجه المشروع.
ويبعث على هذا الصبر ذكر ما وعد الله على فعل الطاعات من الثواب عاجلاً وآجلاً، ومن لزم الصبر على هذا الوجه وصل إلى مقام القرب وهناك يجد في الطاعات من الحلاوة واللذة والأنس ما لا يوصف، وينبغي لمن حصل له هذا الأمر أن لا يسكن إليه دون الله.
(وثانيها) الصبر عن المعاصي ويحصل ظاهراً باجتنابها والبعد عن مظانها، وباطناً بترك تحدث النفس بها وميله إليها؛ لأن أول الذنوب خطرة. وأما تذكر الذنوب السالفة فإن كان يحصل به خوف أو ندم فهو حسن وإلا فتركه أحسن، ويبعث على هذا الصبر تذكر ما توعد الله  به على المعاصي من العقاب عاجلاً وآجلاً، ومن واظب على الصبر على هذا الوجه أكرمه الله بوجود الأنفة من المعاصي كلها حتى يصير دخول النار أهون عليه من ارتكاب أدناها.
(وثالثها) الصبر على المكاره وهي نوعان:
"الأول" ما يحصل من الله بلا واسطة كالأمراض والآفات وذهاب الأموال وموت الأعزة من الأقارب والأصحاب، ويحصل باطناً بترك الجزع وهو التبرم والتضجر، وظاهراً بترك الشكوى إلى الخلق، ولا يناقضه وصف العلة للطبيب وفيضان العين عند المصيبة نعم يناقضه لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة ونحو ذلك.
ويبعث على هذا الصبر العلم بأن الجزع مؤلم في نفسه وهو مع ذلك مفوت للثواب وموجب للعقاب، وأن الشكوى إلى من لا يستطيع أن ينفع نفسه ولا أن يكشف عنها ضراً من الحماقة وهذه صفة كل مخلوق، ومع ذلك فالشكوى دالة على عدم الاكتفاء بالله الذي بيده ملكوت كل شيء، وذكر ما في الصبر على المصائب والعاهات والفاقات من الثواب وأن الله تعالى أعلم بما يصلح له من نفسه. وقد قال الله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) إلى قوله تعالى: (وأولئك هم المهتدون).
ومن لزم الصبر على هذا الوجه ذوقه الله حلاوة التسليم وروَّحه برَوح الرضا وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الرضا فيما بعد.
"والنوع الثاني" من المكاره ما يكون من قِبَل الخلق من الأذى في النفس أو العِرض أو المال.
ويحصل كمال الصبر على ذلك بكف النفس عن بغض المؤذي إن كان مسلماً، وعن حبِّ الشر له، وكف اللسان عن الدعاء عليه وترك المؤاخذة له رأساً؛ إما حلماً واحتمالاً أو عفواً وصفحاً اكتفاء بنصرة الله في الأول ورغبة في ثوابه في الثاني.
ويبعث على هذا الصبر العلمُ بما ورد في فضل كظم الغيظ واحتمال الأذى والعفو عن الناس، قال الله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إن الله لا يحب الظالمين) وقال تعالى: (ولمن صبر وغفر إن لك لمن عزم الأمور).
وقال عليه الصلاة والسلام: "من كظم غيظاً ولو شاء أن ينفذه لنفذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً". وقال عليه السلام: "ينادي مناد يوم القيامة ليقم من أجره على الله فيقوم العافون عن الناس".
ومن لزم الصبر على هذا الوجه أكرمه الله بحسن الخلق وهو رأس الفضائل وملاك الكمالات.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لاشيء أثقل في الميزان من حسن الخلق وإن العبد لَيبلغ بحسن خلقه درجة صاحب الصلاة والصيام".
وقال عليه السلام: "أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خُلُقاً".
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: حسن الخلق بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى.
وقال الإمام الغزالي نفع الله به: حسن الخلق هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأخلاق الجميلة بسهولة.
(ورابعها الصبر عن الشهوات) وهي كل ما تميل النفس إليه من مباحات الدنيا، ويحصل كمال الصبر عنها بكف النفس باطناً عن التفكير فيها والميل إليها، وظاهراً بكفها عن طلبها والتعريج  عليها، ويبعث على هذا الصبر العلم بما في طلب الشهوات وتناولها من الشغل عن الله وعن عبادته ومن التعرض للوقوع في الشبهات والمحرمات ومن هيجان الحرص على الدنيا وحب البقاء فيها والتمتع بشهواتها، قال أبو سليمان الداراني رحمه الله ترك شهوة واحدة أنفع للقلب من عبادة سنة ومن أدمن الصبر عن الشهوات أكرمه الله بإخراج حبها من قلبه حتى يصير يقول كما قال بعض العارفين أشتهي أن أشتهي لأترك ما أشتهي فلا أجد ما أشتهي وبالله التوفيق.


فصــل

(وعليك) بالشكر لله على ما أنعم به عليك، وما بك من نعمة في ظاهرك وباطنك ودينك ودنياك إلا وهي من الله، قال الله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) ولله عليك من النعم ما تعجز عن عده وحده وإحصائه فضلاً عن القيام بشكره (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ولو أن الفقير المريض من الموحدين تفكر فيما لله عليه من النعم لشغله أداء شكره عن مكابدة الصبر فعليك ببذل الاستطاعة في شكر ربك ثم بالاعتراف بالعجز عن القيام بما يجب عليك من شكره.
(واعلم) أن الشكر سبب لإبقاء النعم الموجودة ووسيلة إلى حصول النعم المفقودة. قال الله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) والله تعالى أكرم من أن ينزع نعمه عن شاكر. وقال تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغَيِّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) أي بترك الشكر عليها، وقد أمر الله عباده بشكره في عدة مواضع من كتابه، قال الله تعالى: (كلموا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) وقال تعالى: (كلوا من رزق ربكم واشكروا له) وقال عليه الصلاة والسلام: "ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً) وقال عليه السلام: "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر).
(واعلم) أنه كما يجب عليك أن تشكر الله على النعم الخاصة بك كالعلم والصحة، كذلك يجب عليك أن تشكره على النعم العامة كإرسال الرسل وإنزال الكتب ورفع السماء وبسط الأرض.
وأصل الشكر معرفة القلب بالنعم وأنها من الله وحده لم يصل إليها شيء منها بحوله وقوته بل بفضل الله ورحمته. وغاية الشكر أن تطيع الله بكل نعمة أنعم بها عليك فإن لم تطعه بها فقد تركت الشكر عليها وإن عصيته بها فقد وقعت في الكفران، وعنده تتبدل النعم بالنقم ومن بقيت عليه نعمة مع عصيانه لله بها فهو مستدرج. قال الله تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً).
وفي الحديث: "إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"
ومن الشكر كثرة الثناء على الله والفرح بالنعم من حيث أنها وسيلة إلى نيل القرب من الله أو من حيث أنها دالة على عناية الله بعبده.
ومن الشكر تعظيم النعمة وإن كانت صغيرة، يروى عن الله أنه قال لبعض أنبيائه: إذا سُقت إليك حبة مسوَّسة فاعلم أني قد ذكرتك بها فاشكرني عليها.
ومن الشكر التحدث بالنعم من غير خروج إلى ما يوهم تزكية النفس في الدينيات والتبجح بالدنيا في الدنيويات، والأعمال بالنيات والخير كله في الاقتداء بالسلف الصالح في جميع الحالات والله تعالى أعلم.


فصــل

(وعليك) بالزهد في الدنيا فإنه بشير السعادة ومظهر العناية وعنوان الولاية، وكما أن حب الدنيا رأس كل خطيئة كذلك يكون بغضها رأس كل طاعة وحسنة، ويكفيك مزهداً في الدنيا أن الله تعالى سماها في عدة مواضع من كتابه العزيز "متاع الغرور".
وقال الحسن رحمه الله تعالى: متاع الغرور كخضرة النبات ولعب البنات، وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله تعالى: متاع الغرور اسم للجيفة المنتنة وقد حصر الله تعالى الدنيا في اللهو واللعب اللذين لا يلتفت إليهما عاقل ولا يعرج عليهما إلا كل غبي جاهل، فقال تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) إلى غير ذلك.
(واعلم) أن الزهد في الدنيا لأهله نعيم عاجل ولا يستطيعه إلا من شرح الله صدره بإشراق أنوار المعرفة واليقين، قال صلى الله عليه وسلم: "إن النور إذا دخل القلب انشرح له وانفسح" قيل فهل لذلك من علامة قال: "نعم: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود".
وقال صلى الله عليه وسلم: "الزهادة في الدنيا تريح القلب والبدن والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن".
وقال عليه الصلاة والسلام: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".
وأصل الزهد معرفة القلب بحقارة الدنيا وخستها، وأنها لو كانت تزن عن الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها، وأن من أخذ منها فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر.
وثمرة هذه المعرفة المقصودة منها ترك الميل إلى الدنيا باطناً وترك التنعم بشهواتها ظاهراً.
وأدنى درجات الزهد أن لا يقع بسبب الدنيا في ركوب معصية ولا في ترك طاعة.
وأعلى درجاته أن لا يتخذ من الدنيا شيئاً حتى يعلم أن أخذه أحب إلى الله من تركه وبين هاتين الدرجتين درجات كثيرة.
وللزاهد الصادق علامات منها: أن لا يفرح بالموجود، ولا يحزن على المفقود من الدنيا، ومنها أن لا يشغله طلب الدنيا والتمتع بها عما هو خير له عند ربه.
(وعليك) بإخراج حب الدينار والدرهم من قلبك حتى يصير عندك بمنزلة الحجر والمدر، وبإخراج حب المنزلة عند الناس من قلبك حتى يستوي عنك مدحهم وذمهم وإقبالهم وإدبارهم؛ فإن حب الجاه أضر على صاحبه من حب المال وكلاهما دالان على الرغبة في الدنيا، وأصل حب الجاه حب التعظيم، والعظمة من صفات الله فهو منازعة للربوبية، وأما حب المال فإنما أصله حب التمتع بالشهوات وذلك من صفات البهائم. وقد قال عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى: "العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار". وقد قال عليه الصلاة والسلام "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم".
(وعليك) بإيثار التقلل من الدنيا والإقتار على ما لا بد منه من ملابسها ومآكلها ومناكحها ومساكنها وسائر أمتعتها.
(وإياك) أن تتسع في شهواتها وتدعي مع ذلك الزهد وتحتج لنفسك بالحجج الداحضة عند الله تعالى وتطلب لها التأويلات البعيدة عن الحق، وإعراضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله والأئمة بعده عن التنعم بالدنيا مع القدرة عليه من الحلال لا يخفى على من له أدنى معرفة بالعلم. وإذا لم تقدر على الزهد في الدنيا فما عليك أن تعترف بالرغبة فيها والحرص عليها ولست مأثوماً إلا على طلبها والتمتع بها على وجه محرم في الشرع. والزهد مقام فوق ذلك.
وليت شعري لو أن الله تعالى فرض علينا التوسع في الدنيا فمن أين لنا القدرة عليه في زمان عز فيه ما يواري العورة ويسد الجوعة من الحلال فإنا لله وإنا إليه راجعون.


فصــل

(وعليك) بالتوكل على الله، فإن من توكل على الله كفاه وأغناه وتولاه (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) والتوكل من ثمرات صدق التوحيد وثباته في القلب واستيلائه عليه. قال الله تعالى: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً) فانظر كيف بدأ بإثبات الربوبية ثم بإثبات الانفراد بالإلهية ثم أمرنا بالتوكل عليه جل وعلا فلم يبق في تركه عذر للبرية، وقد أمر الله عباده بالتوكل عليه ورغبهم فيه بقوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) وبقوله تعالى: (فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِمَاصاً وتروحُ بطاناً".
(واعلم) أن أصل التوكل على الله معرفة القلب بأن الأمور كلها بيد الله ما ينفع منها وما يضر وما يسوء منها وما يسر وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له أو على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
ويشترط لصحة التوكل أن لا تعصي الله بسببه وأن تجتنب ما نهاك عنه وتفعل ما أمرك به معتمداً في جميع ذلك عليه ومستعيناً به ومفوضاً إليه.
ولا يقدح في توكلك دخولك في شيء من الأسباب الدنيوية إذا كنت معتمداً على الله دونه.
نعم مَن صدق توكله ضعف دخوله في الأسباب الدنيوية، وأما التجرد عنها بالكلية فلا يحمد إلا في حق من دام إقباله على الله وطهر قلبه عن الالتفات إلى غير الله ولم يضيع بسببه من هم عيال عليه من خلق الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يعول".
(واعلم) أن الادخار والتداوي من الأمراض لا يقدحان في أصل توكل من يعلم أن المغني والنافع والضار هو الله وحده وقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعياله لبيان الجواز، وأما هو صلى الله عليه وسلم فما كان يدخر لنفسه شيئاً إلى غد وربما ادخر له غيره فنهاه عند الشعور به. ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمته فقال: "هم الذين لا يسترْقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".
وللمتوكل الصادق ثلاث علامات: "الأولى" أن لا يرجو غير الله ولا يخاف إلا الله، وعلامة ذلك أن لا يدع القول بالحق عند من يرجى ويخشى عادة من المخلوقين كالأمراء والسلاطين. "والثانية" أن لا يدخل قلبه همّ الرزق ثقة بضمان الله بحيث يكون سكون قلبه عند فقد ما يحتاج إليه كسكونه في حال وجوده وأشد. "والثالثة" أن لا يضطرب قلبه في مظان الخوف علماً منه أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه.
ومن هذا القبيل ما حكي أن سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني نفع الله به كان يتكلم في القدر فسقطت عليه حية عظيمة ففزع الحاضرون فَرقاً فالتفَّت على عنق الشيخ ودخلت من أحد كميه وخرجت من الآخر والشيخ نفع الله به ثابت لم يضطرب ولم يقطع كلامه.
وقيل لبعض الشيوخ وقد طُرح للسبع ليأكله فلم يؤذه: في أي شيء كنت تفكر حين طُرحت للسبع قال في حكم سؤر السباع من العلم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.


فصــل

(وعليك) بالحب في الله حتى يصير سبحانه أحب إليك مما سواه بل حتى لا يصير لك محبوب إلا إياه.
وسبب وجود الحب من جهة المحبوب إما وجود كمال فيه أو حصول نوال منه.
فإن كنت ممن يحب لأجل الكمال فالكمال والجمال والجلال لله وحده لا شريك له في شيء من ذلك، وما يلوح على صفحات بعض الموجودات من معنى كمال أو يبدو عليها من رونق جمال فهو المكمل والمجمل لها سبحانه وتعالى بل هو الموجد لها والمخترع ولولا أنه أنعم عليها بالإيجاد لكانت مفقودة معدومة ولولا ما أفاض عليها من أنوار جمال صنعته لكانت قبيحة مشئومة.
وإن كنت ممن يحب لأجل النوال فلست ترى إحساناً ولا تشاهد امتناناً ولا ترى إكراماً ولا تبصر إنعماً عليك وعلى سائر الخلق إلا والله تعالى هو المتفضل بجميع ذلك بمحض الجود والكرم فكم من خير قد أسداه إليك! وكم من نعمة قد أنعم بها عليك! فهو سيدك ومولاك الذي خلقك وهداك، والذي له مماتك محياك، والذي أطعمك وسقاك، وكفلك ورباك وأسكنك وآواك، يرى القبيح منك فيستره، وتستغفره منه فيغفره، ويرى الجميل منك فيكثره ويظهره، وتطيعه بتوفيقه ومعونته فينوه باسمك في الغيوب ويقذف تعظيمك وحبك في القلوب، وتعصيه بنعمته فلا يمنعه وجود العصيان عن إفاضة الإحسان، فكيف ينبغي لك أن تحب غير هذا الإله الكريم؟ أم كيف يحسن منك أن تعصي هذا الرب الرحيم؟
(واعلم) أن أصل المحبة المعرفة وثمرتها المشاهدة وأدنى درجاتها أن يكون حب الله تعالى هو الغالب على قلبك، ومحك الصدق في ذلك أن لا تجيب أحب الخلق إليك إذا دعاك إلى ما يكون سخط الله في فعله كالمعاصي أو في تركه كالطاعات. وأعلى درجاتها أن لايصير في قلبك حب لغير الله البتة. وهذا عزيز ودوامه أعز منه، وعند دوامه تضمحل البشرية بالكلية وعنه ينشأ الاستغراق بالله الذي لا يبقي معه شعور لاوجود وأهله بحال.
(واعلم) أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر أنبياء الله وملائكته وعباده الصالحين وما يعين على طاعته كل ذلك من محبته تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي" وقال عليه الصلاة والسلام عن الله: "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ والمتباذلين فيَّ".
وللمحبة الصادقة علامات أجلُّها وأعلاها كمال المتابعة برسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأخلاقه قال الله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وبحسب المحبة لله تكون المتابعة لحبيب الله إن كثيراً فكثير وإن قليلاً فقليل والله على ما نقول وكيل.

فصــل

(وعليك) بالرضا بقضاء الله تعالى فإن الرضا بالقضاء من أشرف ثمرات المحبة والمعرفة، ومن شأن المحب أن يرضى بفعل محبوبه حُلواً كان أو مُراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الله: "من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليلتمس رباً سواي".
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".
فالواجب عليك أيها المؤمن أن تعلم وتعتقد أن الله تعالى هو الذي يهدي ويضل ويشقي ويسعد ويقرب ويبعد ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويضر وينفع، فإذا علمت ذلك وآمنت به فالواجب عليك أن لا تعترض على الله في شيء من أفعاله لا ظارهاً ولا باطناً، ولسان الاعتراض أن تقول لم كان هذا، ولأي شيء كان هذا، وهلا كان هذا كذا، وبأي ذنب استحق فلان ما جرى علي.
فمن أجهلُ ممن يعترض على الله في مُلكه وينازعه في سلطانه، وهو مع ذلك يعلم أنه تعالى هو المنفرد بالخلق والأمر والحكم والتدبير يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) بل الواجب عليك أن تعتقد أن جميع أفعال الله تعالى وقعت على وجه لا أحكم منه ولا أعدل ولا أفضل منه ولا أكمل.
وهذا حكم الرضى بأفعال الله تعالى على وجه الإجمال، وأما على وجه التفصيل، فإن الأمور التي تخصك على قسمين (منها) ما يلائمك كالصحة والغنى وهذا القسم لا يتصور فيه سخط إلا من حيث نظرك إلى من فضل عليك في ذلك فالواجب عليك عنده أن ترضى بما قسم الله لك من حيث أن له سبحانه وتعالى أن يفعل في ملكه ما يشاء أو من حيث أنه تعالى قد اختار لك ما هو الأصلح لك والأنسب لحالك وهذا أكمل (ومنها) مما لا يلائمك كالمصائب والأمراض والآفات فحرام عليك أن تتبرم بشيء من ذلك أو تجزع عنده، بل الأكمل لك أن ترضى وتسلّم فإن لم تستطع فلتصبر ولتحتسب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله تعالى بالرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير".
وليس من الرضا في شيء ما يجده بعض الأغبياء من الطمأنينة عند ترك بعض المأمورات وارتكاب بعض المحظورات فإن فعل المعاصي وترك الطاعات مما يسخط الله تعالى فكيف يرضى هو بشيء لا يرضى الله به قال الله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غنيٌّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضَه لكم) وإنما رضي هذا المسكين عن نفسه وظن أنه رضي عن ربه، والرضا عن الله وعن النفس يبعد أن يجتمعا في موطن واحد.
وما أحسن ما قاله الإمام الغزالي رضي الله عنه في رسالته إلى أبي الفتح الدمشقي رحمه الله: الرضا هو أن ترضى بما يفعل الله باطناً وتفعل ما يرضيه ظاهراً. فإن أراد العبد أن يعرف ما عنده من الرضا فلْيلتمسه عند نزول المصائب وورود الفاقات واشتداد الأمراض فسوف يجده هناك أو يفقده.
وكثيراً ما تسمع من سَفلة أبناء الزمان حين يقال لهم ما لكم تتركون الطاعات وتفعلون المحرمات فيقولون هذا شيء قد قضاه الله علينا وقدَّره لنا ولا محيص لنا عنه وإنما نحن عبيد مقهورون فهذا هو مذهب الجبرية بعينه، ومنتحله قائل بلسان حاله إن لم يقل بلسان مقاله: لا فائدة في إرسال الرسل وإنزال الكتب، ويا عجباً كيف يصدر ممن يدعي الإيمان الاحتجاج لنفسه على ربه ولله الحجة البالغة على جميع خلقه، أم كيف يرضى المؤمن لنفسه أن يتشبه بالمشركين القائلين: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) أولا يسمع ما رد الله عليهم به إذا يقول لنبيه (قل هل عنكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون).
ثم إنه لا يسع المشركين إذا رجعوا إلى الله أن يحتجوا بهذه الحجة الداحضة عند الله بل يقولون: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين) (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون).
(واعلم) أن الدعاء والإلحاح فيه لا يقدح في الرضا بل هو من الرضا والدعاء معرب عن التحقق بالتوحيد وهو لسان العبودية وعنوان التحقق بالعجز والاضطرار والذل والافتقار، ومن تحقق بهذه الأوصاف عرف ووصل، وعلى غاية القرب من الله حصل، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء مخ العبادة وسلاح المؤمن ونور السماوات والأرض أن من لا يسأل الله يغضب عليهم". وقال مولانا جلت قدرته: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
وما وقع من الخليل عليه السلام من الإمساك عن الدعاء حين طرح في النار إنما ذلك لسرٍّ يختص بتلك الحال وإلا فقد حكى الله عنه الدعاء في مواضع عديدة من كتابه بل لم يحك عن أحد من الأنبياء أكثر مما حكاه عنه، فتفقه في كتاب الله واستخرج العلوم منه فإنها بجملتها مودعة فيه لا يشذ منها دقيق ولا جليل ولا جلي ولا خفي. قال الله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).


خاتمة
في وصايا إلهية
وردت بها أخبار قدسية، وآثار صحيحة مروية

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا بعادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسأولني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد".
وقال صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي في المنام فساق الحديث إلى أن قال: يا محمد قلت: لبيك قال: إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون".
وقال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك، ابن آدم اذكرني ساعة من أول النهار وساعة من آخره أكفيك ما بين ذلك، ابن آدم لا تعجز أن تصلي لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره"، وأوحى الله إلى آدم عليه السلام "أربع خصال فيهن جماع الخير لك ولولدك خصلة لي وخصلة لك وخصلة فيما بيني وبيك وخصلة فيما بينك وبين عبادي، أما التي هي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً، وأما التي هي لك فعملك أجزيك به، وأما التي هي فيما بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي هي فيما بينك وبين عبادي فتصحبهم بما تحب أن يصحبوك به".
وفي صحف إبراهيم عليه السلام: "وعلى العاقل أن يكون ممسكاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه، وعلى العاقل أن تكون له أربع ساعات: فساعة يناجي فيها ربه ساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه اللذين يبصرونه بعيوب نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وشهواتها" يعني المباحة.
وفي التوراة: (يا ابن آدم) لا تعجز أن تقوم بين يدي مصلياً فأنا الله الذي اقتربت إليك وبالغيب رأيت نوري. وفي بعض كتب الله المنزلة: (يا ابن آدم) خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب، (يا ابن آدم) اطلبني تجدني فإنك إذا وجدتني وجدت كل شيء وإذا فتك فاتك كل شيء فأنا أحب إليك من كل شيء (ابن آدم) أنا الله الذي أقول للشيء كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون.
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: (يا ابن عمران) كن يقظاناً وارتد لنفسك إخواناً فكل خدن وصاحب لا يوازرك على مسرتي فهو لك عدو (يا موسى) مالك ولدار الظالمين فليست لك بدار، أخرج عنها همك وفارقها بقلبك فبئست الدار هي، إلا لعامل عمل فيها الخير فنعمت الدار هي، (يا موسى) إني مرصد للظالم حتى آخذ منه لمن ظلمه، (يا موسى) إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلاً قل: مرحباً بشعار الصالحين. (يا موسى) لا تنس ذكري فعند نسيانه تكثر الذنوب، ولا تجمع المال فإن جمعه يقسي القلب (يا موسى) قل للظالمين لا يذكروني فإنهم إذا ذكروني أذكرهم باللعنة؛ لأني آليت على نفسي أن أذكر من ذكرني.
وأوحى الله إلى بعض أنبيائه عليهم السلام قل لقومك لا يدخلوا مداخل أعدائي ولا يلبسوا ملابس أعدائي ولا يركبوا مراكب أعدائي ولا يطعموا مطاعم أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي.
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: كن بي مستأنساً ومن سواي مستوحشاً (يا داود) قل للصديقين من عبادي: بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا (يا داود) حببني إلى عبادي. قال: يا رب، وكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: ذكرهم آلائي (يا داود) من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً، (يا داود) إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً، (يا داود) لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيضلك عن سبيلي أولئك قطاع الطريق على عبادي، (يا داود) اعمل بعمل الأبرار، ولا تبسم في وجوه الفجار، وخالط أودائي مخالطة وخالف أعدائي مخالفة، (يا داود) كن للأرملة واليتيم كالأب الشفيق أزيد في رزقك وأكفر عنك ذنبك، (يا داود) غض طرفك وصن لسانك فإني لا أحب الفاسقين. وأكثر من الاستغفار لنفسك وللخاطئين.
وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام: اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ فلا أمحقك فيمن أمحق. وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام أن قل لبني إسرائيل لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة وأبدان نقية وأخبرهم أني لا أستجيب لهم دعوة ولأحد من الخلق قبلهم مظلمة.
وأوحى إليه أيضاً: يا ابن مريم، عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستح مني.
وفي بعض الآثار عن الله تعالى: "قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويلبسون للناس مسوح المساك ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، أبي يغترون!، أم علي يجترئون! فإن حلفت لأبعثن على أولئك فتنة، تترك الحليم منهم حيران".
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: إذا رأيت الفقراء فسائلهم كما تسائل الأغنياء، فإن لم تفعل فضع كل شيء علمتك تحت التراب.
وأوى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، قل لأوليائي وأحبائي: ليفارق كل واحد منهم صاحبه، فإني مؤنسهم بذكري، ومحادثهم بأنسي، وكاشف الحجاب فيما بيني وبينهم ينظرون إلى عظمتي، فأبلغ يا داود عني أهل الأرض: أني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن استأنس بي، وصاحب لمن صاحبني، ومطيع لمن أطاعني، ومختار لمن اختارني، فهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومعاملتي، فأنا الله الجواد الماجد، أقول للشيء كن فيكون.
وأوحى الله إلى بعض أنبيائه عليهم السلام: عبدي هب لي من عينيك الدموع ومن قلبك الخشوع ثم ادعني أستجب لك وأنا القريب المجيب، عبدي قف على المدائن والحصون وأبلغهم عني كلمتين قل لهم: لا يأكلون إلا طيباً ولا يتكلمون إلا الحق وإذا أراد أحد منهم الدخول في أمر فليتدبر عاقبته فإن كان خيراً فليمضه وإن كان شراً فلا يأته.
وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام قل لبني إسرائيل يحفظوا عني حرفين قل لهم ليرضوا بدنيء الدنيا لسلامة دينهم كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين لسلامة دنياهم.
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: يا موسى كن كالطير الوحداني يأكل من رؤوس الأشجار ويشرب من الماء القراح، فإذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف استئناساً به واستيحاشاً ممن عصاني (يا موسى) إني آليت على نفسي أن لا أتم لمدبر عني عملاً، ولأقطعن أمل1 كل من يؤمل غيري، ولأقصمن ظهر من استند إلى سواي، ولأطيلن وحشة من استأنس بغيري، ولأعرضن عمن أحب حبيباً سواي (يا موسى) إن لي عباداً إن ناجوني أصغيت إليهم، وإن نادوني أقبلت عليهم، وإن أقبلوا علي أدنيتهم، وإن دنوا مني قربتهم، وإن تقربوا مني اكتنفتهم، وإن والوني، واليتهم، وإن صافوني صافيتهم، وإن عملوا لي جازيتهم، أنا مدبر أمورهم، وسائس قلوبهم وأحوالهم، لم أجعل لقلوبهم راحة إلا في ذكري؛ فهو لأسقمهم شفاء، وعلى قلوبهم ضياء، لا يستأنسون إلا بي، ولا يحطون رحال قلوبهم إلا عندي، ولا يستقر بي قرار إلا إلي.
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: (يا داود) بشر المذنبين وأنذر الصديقين. فقال: وكيف أبشر المنذرين وأنذر الصديقين؟ فقال: بشر المذنبين أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره، وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإني لا أضع عدلي ولا حسابي على أحد إلا هلك. (يا داود) كتبت الرحمة على نفسي وقضيت المغفرة على من استغفرني. أغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها ولا يكبر ذلك علي ولا يتعاظمني فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقنطوا من رحمتي فإن رحمتي وسعت كل شيء ورحمتي سبقت غضبي، وخزائن السماوات والأرض بيدي والخير كله بيدي. ولم أخلق شيئاً مما خلقت لحاجة كانت مني إليه؛ ولكن لتعلم قدرتي، ويعلم الناظرون في حكم تدبيري وصنعي. (يا داود) اسمع مني والحق أقول: من لقيني من عبادي وهو يخاف عذابي لم أعذبه بناري (يا داود) اسمع مني والحق أقول: من لقيني من عبادي وهو مستح من معاصيه أنسيت حفظته ذنبه ولن أساله عنه(يا داود) اسمع مني والحق أقول: لو أن عبداً من عبادي عمل حشو الدنيا ذنوباً وهو مصر عليها ثم ندم واستغفرني مرة واحدة وعلمت من قلبه أنه لا يريد أن يعود إليها أبداً ألقيتها عنه أسرع من هبوط الطائر من السماء إلى الأرض، قال داود إلهي لك الحمد من أجل ذلك لا ينبغي لمن يعرفك أن يقطع رجاءه عنك.
اللهم آتنا من لدنك أجراً عظيماً واهدنا صراطاً مستقيماً، واجعلنا من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. قال المؤلف قدس الله سره ونور ضريحه ونفع المسلمين به: وكان الفراغ من تأليفها في أحد شهور سنة تسع وستين وألف (1069) من الهجرة النبوية، على صاحبها- وهو سيدنا ومولانا ووسيلتنا إلى ربنا محمد رسول الله وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ما بقيت الليالي والأيام. والحمد لله رب العالمين.




[1] تندلق: تخرج- أقتاب جمع قتب بالكسر وهو المعى.
1  أي سورة الأعلى كلها
2  أي سورة الكافرون كلها
1  هو العلامة الفقيه المحدث أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو العباس زروق من أهل فاس بالمغرب قرأ بمصر والمدينة وتصوف وساح وتوفي في تكرين من قرى مسراته من أعمال طرابلس الغرب سنة 899 هـ
1  الأتان: أنثى الحمار
1  الثلمة بضم أوله فرجة المكسور
1  التخمير: التغطية.
2  الآنية: جمع إناء.
1  التثويب: هنا هو قول المؤذن في أذان الصبح خاصة: الصلاة خير من النوم.
1  أي سورة الناس كلها.
1  الأمل هنا بمعنى الرجاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق