الأحد، 1 مارس 2015

لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية الإمام عبد الوهاب الشعراني الجزء -8



- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نقرض كل من استقرضنا من المحتاجين سواء كان مشهورا بحسن المعاملة أم لا امتثالا لقول الله تعالى: {أقرضوا الله قرضا حسنا}. ومن أقرض الله تعالى من الخلق لا يطلب جزاء
واعلم يا أخي أن الله تعالى لم يأمر بالقرض إلا الأغنياء فهم الذين فازوا بلذة خطاب الله تعالى بقوله لهم: {أقرضوا}. وأما الفقراء ففاتتهم تلك اللذة وذلك الأجر ومن هنا سارع الأكابر من الأولياء إلى التكسب والتجارة والزراعة والحرفة ليفوزوا بلذة ذلك الخطاب لا لعلة أخرى من طلب ثواب أو غيره قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة}. فوصفوا بالرجولية لأجل أكلهم من كسبهم وإقراضهم من فواضل كسبهم كل محتاج ومفهومه أن من لا كسب له والناس ينفقون عليه فهو من جنس النساء وإن كان له لحية كبيرة وسجادة وعذبة ومرقعة وشفاعات عند الحكام وغير ذلك وليس له في الرجولية نصيب قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء}
واعلم أن طلب التلذذ بخطاب الله تعالى كما ذكرنا محمود بالنسبة لمن هو تحته في المقام وإلا فلله تعالى رجال يتوبون من التلذذ بخطاب الله تعالى إلا على وجه الشكر لا غير فإن من كان الباعث له التلذذ بخطاب الله تعالى فهو عبد لذته لا يكون عبد الله تعالى. وقد أخبرني أخي أفضل الدين رحمه الله أنه كان يقوم الليل مدة كذا وكذا سنة وهو لا يشعر به أحد قال: فكنت أظن بنفسي الإخلاص في ذلك فسمعت هاتفا يقول: إنما تقوم الليل للذة التي تجدها حال مناجاتك ولولا هي ما قمت للحق بواجب عبوديته قال: فاستغفرت الله تعالى وتجردت من تلك اللذة وعلمت أن تلك اللذة تجرح في إخلاصي فالحمد لله رب العالمين
فاعلم أنه لا يقدح في شيخ الزاوية أن يكون تاجرا ولا زراعا بل ذلك أكمل له. فإياك يا أخي أن تنكر على فقير الكسب والتجارة والزراعة أو معاملة الناس أواخر عمره وتقول فلان كان من الصالحين أول عمره وقد ختم عمره بمحبة الدنيا وشهواتها بعد أن كان زاهدا فيها وفي أهلها فربما يكون مشهد ذلك الفقير ما قلناه أو غير ذلك من النيات الصالحة فإن زهد الكمل ليس هو بخلو اليدين من الدنيا وإنما هو بخلو القلب ولا يتحقق لهم كمال المقام إلا بزهدهم فيما بأيديهم وتحت تصريفهم من غير حائل يحول بينهم وبين كنزه. وأما زهدهم مع خلو اليد فربما يكون لعلة الفقر. وقد قالوا: من شرط الداعي إلى الله تعالى أن لا يكون متجردا عن الدنيا بالكلية بأن تخلو يده منها وذلك لأنه يحتاج ضرورة إلى سؤال الناس إما بالحال وإما بالمقال وإذا احتاج إلى الناس هان عليهم وقل نفعهم به بخلاف ما إذا كان ذا مال يعطي منه المحتاجين من مريده وغيرهم فإن فقد الحال الذي يميل به قلوب المريدين إليه كان معه المال يميلهم إليه به ومن لا حال له ولا مال لا ينفعه المقال وفي الحديث: عز المؤمن استغناؤه عن الناس وشرفه في قيام الليل. وممن جاهد نفسه بالتجرد عن الدنيا زمانا طويلا ثم مسك الدنيا من أشياخ العصر وتاجر فيها الشيخ عبدالرحيم البيروتي والشيخ علي الكازروني نفعنا الله ببركاتهما فأساء الناس بهما الظن وأخرجوهما عن دائرة الفقراء والحال أنهما الآن أكمل مما كانا عليه في بدايتهما على ما قررناه آنفا. فإياك يا أخي وسوء الظن بأهل الطريق أو بمن لبس الزيق والله يتولى هداك: {وهو يتولى الصالحين}. ومن محك صدق من طلب الدنيا لله تعالى طلبا للفوز بلذة خطابه أن لا يشح بشيء منها على محتاج إليه لأن من أحب شيئا وتلذذ به أحب تكراره ومتى تكدر من كثرة السائلين لما عنده فهو كاذب في دعواه أنه يحب الدنيا للالتذاذ بخطاب الله أو لنفع عباد الله فاعلم ذلك واخرج بقولنا أن لا يشح ما لوشح ومنع لحكمة شرعية فإن ذلك لا يقدح في صدقه. {والله غفور رحيم}
- روى مسلم والطبراني مرفوعا: [[من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه]]. وفي رواية للطبراني: [[من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت ظل عرشه فلينظر معسرا]]. وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا أعملت من الخير شيئا ؟ قال: لا قالوا تذكر قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر فقال الله تجاوزوا عنه]] ومعنى تجوزوا عن الموسر: أي خذوا ما تيسر معه بقرينة الحديث الآتي. والله أعلم. وفي رواية للشيخين: [[كان رجل يداين الناس وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه]]. وفي رواية للنسائي مرفوعا: [[أن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا فلما هلك قال الله له ؟ هل عملت خيرا قط ؟ قال لا إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا قال الله تعالى قد تجاوزت عنك]] وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا: [[من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله كل يوم مثله صدقة فإذا حل فأنظره فله كل يوم مثليه صدقة]]. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا: [[من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة]]. وروى الترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا: [[من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله]]. ومعنى وضع له: أي ترك له شيئا مما له عليه. وروى ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعا: [[من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته]] والأحاديث في ذلك كثيرة. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا كان لنا دين على معسر أن ننظره ونضع عنه امتثالا لأمر الشارع صلى الله عليه وسلم وطلبا لمرضاته فإنه لا يأمرنا قط إلا بما فيه النفع لنا في الدنيا والآخرة لكن بشرط الإخلاص لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الرياء والسمعة فربما سامح أحدنا المعسر ببعض ما عليه بحضرة الناس ليقال ولو أنه لم يعلم به إلا الله تعالى لربما كان يثقل عليه ولا ينشرح له صدره فلينتبه من يفعل المعروف لمثل ذلك ويفتش نفسه التفتيش المبرئ للذمة فمن حاسب نفسه في هذه الدار خف حسابه في الدار الآخرة وإن وقع له حساب فإنما هو في أمور لم يحاسب نفسه عليها في دار الدنيا. واعلم أنه ليس مراد الحق تعالى بالحساب إلا إقامة الحق على العبد وبيان فضله وحلمه عليه لا غير وإلا فالعبد ليس معه شيء يدفعه لسيده فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك: {وهو يتولى الصالحين}
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[ما من يوم يصبح على العباد إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا]]. ولفظ رواية ابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[ما من يوم يصبح على العباد إلا وملك بباب من أبواب الجنة يقول: من يقرض اليوم يجد غدا وملك بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا]]. وكذلك رواه الطبراني إلا أنه قال: بباب السماء. قلت: قال بعض المحققين: والمراد بقول الملك اللهم أعط ممسكا تلفا. أي إنفاقا في وجوه الخير لأن الملك من عالم الخير فلا يدعو بفساد كما يقال فلان أتلف نفسه وماله في مرضاة الله تعالى وأما على ما يتبادر إلى الأذهان فالمتلف لماله إنما عليه الإثم وهو يدعو بالإثم فافهم. والله تعالى أعلم
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[قال الله تعالى أنفق أنفق عليك]]. وروى مسلم والترمذي مرفوعا: [[ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف]]. والكفاف ما كف من الحاجة إلى الناس مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة والفضل ما زاد على قدر الحاجة
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها]] قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جنته يوسعها. والجنة بضم الجيم والنون: كل ما وقى الإنسان وتضاف إلى ما يكون منفعة وقلصت: أي انجمت وتشمرت وهو ضد استرخت وانبسطت. قال الحافظ المنذري: والمراد بالجنة هنا الدرع لأنه يجن المرء ويستره ومعنى الحديث: أن المنفق كلما أنفق طالت عليه وسبغت حتى تستر بنان رجليه ويديه والبخيل كلما أراد أن ينفق لزقت كل حلقة بمكانها فهو يوسعها ولا تتسع شبه صلى الله عليه وسلم نعمة الله ورزقه بالجنة. وفي رواية بالجبة بالباء الموحدة فالمنفق كلما أنفق اتسعت عليه النعم وسبغت ووفرت حتى تستره سترا كاملا شاملا والبخيل كلما أراد أن ينفق منعه الحرص والشح وخوف النقص فهو يمنعه طلبا للمزيد والسعة زيادة على ما عنده فلا تزيد النعم عليه ولا تتسع ولا يستر بها ما يريد ستره. والله أعلم
وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقيس بن سلع الأنصاري: أنفق ينفق الله عليك قالها ثلاث مرات. وكان يقلل النفقة فأنفق فصار أكثر أهله مالا
وروى البزار بإسناد حسن والطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبر من تمر فقال ما هذا يا بلال ؟ قال أعددته لأضيافك قال: أما تخشى إن يكون لك دخان من جهنم أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا. وفي رواية للطبراني: أما تخشى أن يكون لك بخار في جهنم
وروى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت أبي بكر: لا توكي فيوكأ عليك. وفي رواية لهما: أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك. قال الخطابي ومعنى لا توكي لا تدخري والإيكاء: سد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط له. يقول لا تمنعي ما في يدك فيقطع الله مادة بركة الرزق عليك
وروى البزار والحاكم وقال صحيح الإسناد عن بلال قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال مت فقيرا ولا تمت غنيا. [فقلت ؟ ؟] وكيف لي بذلك ؟ قال: ما رزقت فلا تخبأ وما سئلت فلا تمنع. فقلت: يا رسول الله وكيف لي بذلك ؟ قال: هو ذاك أو النار
وروى الطبراني بإسناد حسن أن طلحة بن عبيدالله جاءه مال كثير في يوم فقال لغلامه أدع لي قومي فدعاهم فقسمه عليهم ولم يبق لنفسه شيئا وكان أربعمائة ألف
وروى الطبراني أن عمر بن الخطاب أرسل أربعمائة دينار مع الغلام إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال للغلام تلبث عنده في البيت ساعة لتنظر ما يصنع فذهب بها الغلام إليه وقال أمير المؤمنين يقول لك اجعل هذه في بعض حوائجك فقال وصله الله ورحمه ثم قال تعالى يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة أيضا إلى فلان حتى أنفذها كلها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال اذهب بهذه إلى معاذ ابن جبل وقف في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع فذهب بها الغلام وقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجاتك فقال رحمه الله ووصله ثم قال تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا فاطلعت امرأة معاذ فقالت ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأرسلهما إليها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال إنهم أحوج بعضهم من بعض
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن سهل قال: كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير فوضعها عند عائشة فلما كان عند مرضه قال: يا عائشة ابعثي بالذهب إلى علي. ثم أغمي عليه وشغل عائشة حتى قال ذلك مرارا كل ذلك ويغمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشغل عائشة ما به فبعث إلى علي فتصدق بها وأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديد الموت ليلة الاثنين فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائها فقالت: اهدي لنا في مصباحنا من عكتك السمن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في حديد الموت
وروى الطبراني والإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح عن أبي ذر قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي قال: إن كل ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله. وقالت له الجارية يوما دعني أثبت عندنا هذه السبعة دنانير لما ينوبك من الحوائج أو لما ينزل بك من الضيوف فأبى. وفي رواية للطبراني مرفوعا: من أوكأ على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان جمرا يكوى به
وروى أبو يعلي والبيهقي عن أنس ورواته ثقات قال أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائرا فلما كان من الغد أتت الخادم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن الله تعالى يأتي برزق غد
وروى ابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا: إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشيت أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه. والغرفة العلية
وروى البزار مرفوعا: ما أحب أن لي أحدا ذهبا أبقى صبح ثالثة وعندي منه شيء إلا شيئا أعده لدين
وروى الإمام أحمد والطبراني أن رجلا توفى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصفة فلم يوجد له كفن فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انظروا إلى داخل إزاره فوجدوا دينارا أو دينارين فقال: كيتان أو كية من نار. وفي رواية: فوجدوا دينارا فقال: كية من نار. قال الحافظ المنذري: وإنما جعل صلى الله عليه وسلم ذلك الدينار أو الدينارين كيتين أو كية من نار لأنه ادخر مع تلبسه بالفقر ظاهرا وشارك الفقراء فيما يأتيهم من الصدقة والأحاديث في ذلك كثيرة. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن ننفق جميع ما دخل يدنا من المال على أنفسنا وعيالنا وأصحابنا وغيرهم ولا ندخر منه شيئا إلا لغرض صحيح شرعي لا تلبيس فيه وكذلك نبادر بالصدقة لكن بنية صالحة من غير تهور فيها وعلى السائل الصبر حتى تحرر النية ولا ينبغي له المبادرة إلى سوء الظن ورمينا بالبخل ولو مكثنا شهرا حتى نجد لنا نية صالحة وهذا العهد يخل به كثير من الناس فلا المعطي يتربص حتى يجد نية ولا الفقير يصبر: وخلق الإنسان عجولا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يخرجه من شح الطبيعة إلى حضرة الكرم حتى لا يشح على محتاج إلا لحكمة دون بخل ومن لم يسلك فلا سبيل له إلى العمل به ولو صار من أعلم الناس فإن العلم بمجرده محتف بآفات يتيه بها العبد عن طريق الوصول إلى العمل بما علم
ومن كلام سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه: إنما احتاج العلماء إلى شيخ يربيهم مع ذلك العلم العظيم الكثير لعدم إخلاص نيتهم فيه ودخول الإعجاب فيه وطلب أحدهم أن يصرف وجوه الناس إليه ولو أنهم سلموا من الآفات وأتوا حضرة العمل بلا علة لنارت قلوبهم بالعلم وأشرفوا على حضرة الله تعالى ولهان عليهم بذل نفوسهم في مرضاة الله تعالى فضلا عن شيء من أعراض الدنيا
فلا تطمع يا أخي بهذا العهد بنفسك من غير شيخ تقتدي به فإن ذلك لا يصح لك بل من شأنك أن تكون جموعا منوعا حتى تموت كما هو مشاهد في غالب الناس حتى رأيت بعض الناس وهو يسأل من بعض شيوخ العرب الظلمة أن يرتب له خبزا من صدقته فقلت له في ذلك فقال: الضرورات تبيح المحظورات فقومت ثيابه وفرسه فوجدت ثمنها نحو ألفين ونصفا فقلت له: أين الضرورة ؟ فما دري ما يقول: فسألت عنه بعض من يعامله فوجدت له مع الناس نحو عشرة آلاف دينار فقلت له: أتلبس على الله ما هو مليح ؟ فقال لي: كان الواحد من الصحابة يملك العشرة آلاف دينار أو أكثر فقلت له وكان مع ذلك لا يدخرها عن محتاج فلم يجد جوابا ولو أنه كان سلك طريق أهل الله تعالى لأغناه الله عن السؤال بمال حلال أو بقناعة وذلك أن السالك على مصطلح أهل الله تعالى طريقة الذكر ومن خاصيته جلاء القلب من ظلمات الرعونات النفسانية حتى يشرف على الجزاء الجسماني أو الروحاني الذي وعد الله به المنفقين والمتصدقين في الدار الآخرة فإذا أشرف على ذلك صغرت عنده الدنيا بأسرها فيصير يبادر لإنفاقها ولو منعوه جهرا أنفق سرا لما يرى لنفسه في ذلك من المصلحة ولا هكذا من يعلم أحكام الله على التقليد مع تعاطي شهوات النفوس من أكل وشرب ولباس ومركب ومنكح وغير ذلك من الأمور التي لا تكمل له إلا بالدنيا فلا يكاد ينفق شيئا من مرضاة الله تعالى إلا إن اكتفت نفسه من شهواتها والشهوات لا قرار لها إذ كل شهوة تجذبه إليها ولو كان له في كل يوم مائة دينار ما كفته
واعلم يا أخي أنه قد ورد: إن العبد ليرزق سنة في شهر فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية سنته وإن العبد ليرزق رزق شهر في جمعه فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية الشهر وإن العبد ليرزق رزق جمعة في يوم فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية جمعته. وهذا محمول على من كان ضعيف اليقين كما يدل عليه نحو قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. وقوله لبلال: أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فافهم
فلا ينبغي لمن معه ما يزيد على حاجته أن يتصدق به إلا إن يكون قوي اليقين من الأغنياء أو من المتجردين. أما من يأكل من كسب ربحه فله أن يمسك رأس ماله وما بقي من ربحه ينفقه على الأقارب وغيرهم وربح الألف الآن خمسة أنصاف كل يوم للعامل فمن لا يكفيه لنفقته ونفقة عياله وضيوفه كل يوم إلا عشرة أنصاف فله أن يمسك الألفي دينار أو أكثر بحسب حاجته ومن يكفيه كل يوم نصف فله أن يمسك نصفا وقس على ذلك وليس اللوم إلا على من يجمع ويمنع نسأل الله اللطف
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لكل خلق من أخلاق النبوة كرب في مقابلة تركه يوم القيامة فمن لم يطعم لله جاء يوم القيامة جيعانا ومن لم يسق الماء لله جاء يوم القيامة عطشانا ومن آذى الناس جاء يوم القيامة يؤذي ومن لم يستر مسلما لله جاء يوم القيامة مهتوكا مكشوف السوءة على رؤوس الأشهاد ومن لم يسامح أحدا في حقه كان يوم القيامة تحت أسر من له عليه حق ومن ازدرى بالناس ازدري هناك وهكذا فلا يجني أحد إلا ثمرة عمله في الدنيا والآخرة كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في أحاديث العهد الثالث إن شاء الله تعالى
ومن وصية سيدي سالم أبي النجاء الفوي ؟ ؟ رضي الله عنه لأصحابه وهو محتضر: اعلموا يا إخواني أن الوجود كله في الدنيا والآخرة يعاملكم بحسب ما برز منكم من الأعمال فانظروا كيف تكونون. {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
- وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها بما اكتسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا]]
وفي رواية إذا تصدقت بدل أنفقت
وروى أبو داود أن أبا هريرة سأل عن تصدق المرأة من بيت زوجها قال: لا إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه فزاد الحافظ وزين العبدري في جامعه فإن أذن لها فالأجر بينهما فإن فعلت بغير إذنه فالأجر له والإثم عليها
وروى أبو داود والنسائي مرفوعا: [[لا يجوز لامرأة قط عطية إلا بإذن زوجها]]
وروى الشيخان وغيرهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسول الله ما لي مال إلا ما أدخل به على الزبير أفأتصدق ؟ فقال: تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك]]
وفي رواية لهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك
وروى الترمذي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة عامة حجة الوداع لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها قيل يا رسول الله ولا الطعام قال: ذلك أفضل أموالنا. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نأذن لزوجاتنا في التصدق بما جرت به العادة من ما لنا ولا نمنعهن من ذلك طلبا لنزول الرحمة على بيتنا في غيبتنا وحضورنا ولتدوم النعمة أيضا علينا وهذا العهد يخل به كثير من الناس فيمنع زوجته أن تتصدق برغيف أو مغرفة طعام على فقير فيكون ذلك سببا لتضييق الرزق على أهل البيت وكذلك لا نمنعها أن تقري الضيف في غيبتنا على طريق العرب العرباء لكن من غير مخالطة للضيوف والأجانب وقد كان على هذا القدم سيدي الشيخ عثمان الحطاب والحافظ الشيخ عثمان الديمي فكان كل منهما يذهب إلى بيت الآخر في غيبته ويجلس مع امرأة أخيه وتخرج له ما يأكل وما يشرب فكانا من أولياء الله تعالى (1)
_________
(1) الخلوة محرمة بالاتفاق وهذا الكلام يخالف طريقة الإمام الشعراني في تقديم ظاهر السنة على الرأي والتأويل ويستغرب تعليله " فكانا من أولياء الله تعالى " إذ الأولى منه الإنكار عليهما كدأبه رحمه الله وغفر لنا وله آمين فجل من لا يخطئ. دار الحديث
_________
لكن أنى لنا في هذا الزمان أن يظفر أحدنا بأخ صالح يأمنه على الخلوة بعياله بحيث لا يتخلله تهمة فيه فوالله لقد قل الصادقون الذين يؤتمنون على مثل ذلك فنوصي عيالنا أن يخرجوا للضيف ما يأكل وما يشرب مع الخادم ولا يختلطن به
واعلم يا أخي أنه كلما كثر طعامك للناس كلما كثرت النعمة عليك فإن الله تعالى يسوق لكل عبد من الرزق بقدر ما يعلم في قلبه من السخاء والكرم فمنهم من يكون عنده قوت خمسة أنفس ومنهم من يكون عنده قوت عشرة وهكذا إلى الألف نفس أو أكثر فتعرف مراتب الناس في الكرم بقدر عيالهم وقد يكون بعض الأولياء يطلب لنفسه الخفاء والتجرد فلا يكون عنده أحد وهو في غاية الكرم ويود أن لو كان كل من في الدنيا عائلته فمثل هذا يعطيه الله تعالى في الآخرة أجر من عال جميع الخلق وراثة محمدية فيحصل له هذا الثواب العظيم مع الخفاء وعدم الشهرة فإن الله هو الرزاق للعبد ومن كان هذا مشهده فكثرة العيال وقلتهم عنده سواء لا يتحمل هما من جهتهم أبدا ولو أنهم كلهم كانوا متوجهين إلى الله دونه ما تأثر من جهتهم قط ولا حمل هما من جهتهم أبدا وإنما يلحقه بعض كرب إذا توجهت العائلة إليه من حيث كونه واسطة مع عدم شهودهم أن الله هو الرزاق فيقصرون أجرهم على ذلك العبد فيؤثرون فيه الضيق والكرب حتى يصل إليهم رزقهم الذي قسمه الله لهم على يده ولو أنهم كلهم كانوا متوجهين إلى الله دونه ما تأثر من جهتهم قط ولا حمل هما
وقد كان سيدي أحمد الزاهد يقول: وعزة ربي لو كان أهل مصر كلهم عيالي ما طرقني هم أبدا لعلمي بأن القسمة وقعت في الأزل فلا زيادة ونقص ولا يقدر أحد يأكل لقمة قسمت لغيره وتعويق الرزق عن العبد إنما هو تأديب له أو اختبار أو رفع درجة. قلت: وقد من الله تعالى علينا بذلك فلو كان جميع من في الأرض كلهم عيالي ما اهتممت لهم إلا من جهة توجههم إلى قصور بصرهم أو لكونهم لا يستحقون ما طلبوه مني لتركهم الصلاة وتعديهم الحدود ونحو ذلك فالحمد لله رب العالمين. ولا تصل يا أخي إلى العمل بهذا العهد إلا بالسلوك على يد شيخ مرشد يوصلك إلى شهود ما ذكرناه وإلا فمن لازمك الاهتمام بالرزق وترادف الأوهام المكدرة عليك حتى لا تكاد ترجع إلى شهود أن الله تعالى فرغ من قسمة الرزق إلا بعد تأمل وتفكر وهناك تعلم أن إيمانك مدة الاهتمام بالرزق ناقص وأنه يجب عليك تجديد إيمانك كلما حصل عندك اهتمام بالرزق ولو أنك سلكت الطريق لم يطرقك اتهام الله تعالى ولا اهتمام بما وعد الله بحصوله لك أو لغيرك ولا منعت زوجتك من الصدقة في ليل أو نهار إلا لعذر شرعي. فاسلك يا أخي على يد شيخ يخرجك من ظلمات الاتهام والأوهام والله يتولى هداك: {وهو يتولى الصالحين}
- روى الشيخان وغيرهما أن رجلا قال: يا رسول الله أي الإسلام خير ؟ قال: تطعم الطعام وتقري السلام على من عرفت ومن لم تعرف
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله أخبرني بشيء إذا عملته دخلت الجنة قال: أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وصل بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام
وروى أبو الشيخ مرفوعا: خياركم من أطعم الطعام
وروى الحاكم والبيهقي مرفوعا: [[من موجبات الرحمة إطعام المسلم المسكين]]. وفي رواية: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان يعني الجائع
وروى الطبراني وأبو الشيخ والحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد مرفوعا: [[من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه حتى يرويه باعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام]]
وروى البيهقي وغيره مرفوعا: [[أفضل الصدقة أن تشبع كبدا جائعا]]
وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا موقوفا عن ابن مسعود والوقف أشبه قاله الحافظ المنذري: [[يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط وأجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط فمن كسى لله تعالى كساه الله تعالى ومن أطعم لله تعالى أطعمه الله تعالى ومن سقى لله تعالى سقاه الله تعالى]]
وروى أبو الشيخ مرفوعا: [[إن الله تعالى يباهي ملائكته بالذين يطعمون الطعام من عبيده]]
وروى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: ما عمل إن عملته دخلت الجنة ؟ فقال: أنت ببلد تجلب الماء قال نعم ؟ قال فاشتر بها سقاء جديدا ثم اسق فيها حتى تخرقها فإنك إن تخرقها تبلغ بها عمل الجنة
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مشهورون أن رجلا قال: يا رسول الله إني أفرغ في حوض حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري فسقيته فهل لي في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[في كل ذات كبدا حرا أجر]]
وروى الشيخان مرفوعا: [[بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر فوجد بئرا ونزل فيها وشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ؟ فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر له فغفر له]]. وفي رواية: فأدخله الجنة
وروى أبو داود واللفظ له وابن ماجه وغيرهما أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال الماء. فحفر بئرا وقال هذه لأم سعد. وفي رواية للطبراني فقال عليك بالماء
وروى البخاري في تاريخه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[من حفر بئرا ماء لم يشرب منه ذو كبد حراء من جن ولا إنس ولا طائر إلا أجره الله يوم القيامة]]. وروى ابن ماجه مرفوعا: [[من سقى مسلما شربة ماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة ومن سقى مسلما شربة ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نطعم الطعام لكل من ورد علينا ونسقي الماء كذلك ولا نتوقف على استحقاقه لذلك إلا بطريق شرعي تخلقنا بأخلاق الله تعالى فإنه يرزق البر والفاجر وممن أدركناه على هذا القدم الشيخ محمد بن عنان والشيخ يوسف الحريثي والشيخ عبدالحليم بن مصلح والشيخ أبو الحسن الغمري والشيخ محمد الشناوي الأحمدي رضي الله عنهم فكان طعامهم وشرابهم لكل وارد وكان الشيخ يوسف الحريثي إذا لم يحضر عنده طعام لا يدع الضيف يخرج من عنده حتى يسقيه الماء. وقد قدمنا أن السخاء هو خلق الله الأعظم
ويحتاج من يعمل بهذا العهد إلى شيخ يخرجه من ظلمات البخل إلى حضرة الكرم ويخرجه من الآفات التي تطرق الكريم من شهود فضله على الناس الذين يطعمهم وحب المدحة على ذلك في المدائن وقراها فقل كريم هذا الزمان أن يخلص من هذه الورطة بل غالب الكرام وجلوا في حب المدح بالكرم وحب تفضيلهم على أقرانهم بذلك
فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ وإلا فمن لازمك الآفات وذلك لتطعم لله وتمنع لله وترى على الكشف وللشهود أن جميع ما أنت فيه من النعم هو كله لله تعالى جعله الله تعالى لعباده على يديك ليس لك تعمل في تحصيله إنما أنت خازن استأمنت الملك على أرزاق عباده فلو سجدت لله على الجمر أبد الآبدين ما أديت شكر ذلك وقد عم غالب الفقراء في هذا الزمان العلل في أعمالهم وأخلاقهم لقلة من يربيهم أو لقلة سماعهم لمن يربيهم فصار المطعم يطعم لعلة والمانع يمنع لعلة وصار من لا يطعم الناس يحسد من يطعم الناس ويود أن الله تعالى يحول من ذلك الكريم النعمة وبعضهم يقول: هو يطعم الناس من عنده إنما المنة لله تعالى في ذلك كل ذلك يقصد أن يطفئ نور أخيه بين الناس حسدا وبغيا ولو أنهم فطموا على يد شيخ لحفظهم الله تعالى من تلك الآفات
واعلم يا أخي أن من شأن البشر الملل ممن يحتاج إليه فمن الأدب أن لا يطعم العبد للناس إلا ما سمحت به النفس من غير كلفة ومن تكلف سوف يهرب فحرر النية يا أخي وأطعم الطعام واسق الماء من البحر أو من الصهاريج أو من الآبار حسب الطاقة
وممن رأيته تحقق بهذا المقام سيدي علي الخواص وكان أكثر ملئه الماء لقعاوي ؟ ؟ الكلاب وحيضان بيوت الخلاء. وممن رأيته تبعه على ذلك وزاد عليه أخي العبد الصالح الشيخ أحمد الهنيدي المقيم بناحية منبوبة تجاه بولاق بمصر المحروسة لا يمل من حفر الآبار وسقي الماء وحمله إلى الأسقية تارة يحمله في يديه وتارة على حمارته رضي الله عنه وكان على هذا القدم جدي الشيخ نور الدين الشعرواي كان وظيفته في كل يوم يملأ سبيل الجامع وسبيل الزاوية وسبيلا آخر في وسط البرية يقوم لذلك من الليل فيملؤها قبل الفجر ثم يملأ المطهرة وحيضان بيوت الخلاء كذلك قبل الفجر رضي الله تعالى عنه: كل ميسر لما خلق له
وفائدة ذكرنا مناقب الرجال إنما ليتنبه الفقير لتخلفه عن مقامات الرجال فيعرف نقص نفسه عن العمل بأخلاقهم ولا يقنع بلبس الصوف والجلوس على سجادة يخبط في دين الله تارة بالرأي وتارة بالوهم وتارة يتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وعظمته حتى إني سمعت بعضهم يقول: ما ثم موجود إلا الله فقلت له فأنت إيش ؟ فقال كلاما والله لو كان معي شاهد آخر يشهد لذهبت به إلى حكام الشريعة يضربون عنقه ولم يكن هذا الأمر في الأشياخ الذين أدركناهم إنما هو الزهد والورع واتباع السنة المحمدية رضي الله عنهم أجمعين. فإياك أن تجالس من يتكلم في الذات والصفات بغير ما صرحت به الشريعة أو تصغي لقوله والله يتولى هداك: {وهو يتولى الصالحين}
- روى أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا: [[من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه]]. وفي رواية للطبراني: حتى تعلموا أنكم شكرتموه فإن الله تعالى شاكر يحب الشاكرين. وروى الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[من أعطى عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر]]. وفي رواية للترمذي مرفوعا وقال حديث حسن: من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء. وفي رواية له: [[من أسدى إليه بمعروف فقال للذي أسداه جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء]]. وروى الإمام أحمد ورواته ثقات والطبراني مرفوعا: [[إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس]]. وفي رواية لأبي داود والترمذي وقال حديث صحيح: [[لا يشكر الله من لا يشكر الناس]]. قال الحافظ المنذري: روى هذا الحديث برفع الله وبرفع الناس وروى أيضا بنصبهما وبرفع الله وبنصب الناس وعكسه أربع روايات. وروى الطبراني وابن أبي الدنيا مرفوعا: [[من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره]]. وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا بإسناد لا بأس به: [[من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر]]. وروى أبو داود والنسائي واللفظ له: قال المهاجرون يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ؟ ما رأينا قوما أحسن بذلا للكثير ولا مواساة في القليل منهم ولقد كفونا المؤونة قال أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم ؟ قالوا بلى قال: فذاك بذاك. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نشكر كل من أسدى إلينا معروفا ونكافئه على ذلك ولو بالدعاء أدبا مع الشارع في أمره لنا بذلك وقد كثرت الخيانة لهذا العهد من غالب الناس حتى صرت تربي اليتيم إلى أن يصير له أولاد ولا يتذكر لك نعمة ولا يحفظ معك أدبا وصار من وقع له ذلك يحذر من يريد يفعل مثله مع الناس فبتقدير أن المنعم من أولياء الله تعالى لا يلتفت إلى شكره فالمنعم عليه لا يستحق ذلك كما سيأتي والكمل على الأخلاق الإلهية والله تعالى يحول النعم حين تكفر
فاشكر يا أخي من أسدى معروفا لكن من غير وقوف معه فتراه كالقناة الجاري لنا منها الماء أو كالأجير الذي يغرف لنا من طعام رجل غيره بأجرة جعلها له
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ مرشد حتى يصل به إلى حضرة الإحسان ويرى الأمور كلها لله تعالى كشفا وشهودا ويصير يرى النعم من الله تعالى ببادئ الرأي ولا يضيفها إلى الخلق إلا بعد تأمل وتفكر عكس من لم يسلك الطريق فإنه لا يكاد يشهد النعمة من الله تعالى إلا بعد تفكر وتأمل
فاسلك يا أخي الطريق لتفوز بالأدب مع الله تعالى ومع خلقه كما أمرك فقال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}. وقد قرن الله تعالى السعادة بشهود الأمور كلها من الله وقرن الشر بشهودها من الخلق ومقام الكمال في السعادة شهود الأمور كلها ببادئ الرأي من الله خلقا وإيجادا ومن العبد نسبة وإسنادا لأجل إقامة الحدود وكأن لسان الحق تعالى يقول: من قتل نفسا بغير حق فاقتلوه ولو شهدتم أني قدرت عليه ذلك أو أني أنا الفاعل كما قال: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم}. فلا يسعنا إلا امتثال الأمر وكذلك الحكم على الزنا وشرب الخمر ونحوهما فكأنه قال تعالى من ظهر من جوارحه كذا فافعلوا به كذا فيقول سمعا وطاعة وأكثر الناس عمي عن تحقيق هذه المسألة فإما يضيفونها إلى الله تعالى فقط أو إلى الخلق فقط لكن من يضيفها إلى الله وحده أكبر أدبا ممن يضيفها إلى الخلق وحدهم غافلا عن الله تعالى
وقد رأيت شخصا من خطاب الجامع الأزهر رسم له السلطان سليم بن عثمان مائة دينار لما صلى الجمعة في الجامع الأزهر وكانت نوبته تلك الجمعة فجاءه رفيقه ومنعه عن الخطبة ذلك اليوم لأجل المائة دينار فصار الخطيب الممنوع يحط على المانع وصرت أقول له: إن الله تعالى لم يقسم لك شيئا فيقول: هذا قد تسبب في قطع رزقي فقلت له: ولو تسبب فليس هو بقاطع إنما هو آلة للقدرة الإلهية والحكم لمن حرك الآلة فحكمت حكم من ضرب بعصا فصار يسب العصا أو غرف له طعام بمغرفة فصار يمدح المغرفة ويشكرها بين الناس وينسى الفاعل بتلك الآلة فهذا حكمه على حد سواء عند أهل التحقيق ولا يخفى ما في ذلك من قلة العقل. ثم قلت له: أين قولك في الخطبة كل جمعة: والله ثم والله لا يعطي ويمنع ويضع ويرفع إلا الله ؟ فقال قطعتني بالحجة ولو أن هذا سلك الطريق وبني أمره على التوحيد الكامل ما توقف في ذلك ولا احتاج إلى مجاهد ولا عادى أحدا عارضه في طريق وصوله إلى رزقه بل كان يرى كل شيء عورض فيه أن الله تعالى لم يقسمه له فلا يتعب نفسه. فاعلم ذلك واسلك طريق القوم إن أردت العمل بهذا العهد على وجه الكمال لتكون من أهل السنة والجماعة والله يتولى هداك {وهو يتولى الصالحين}
واعلم أن كفران النعم للوسائط مما يحولها وإذا حولت فلا يقدر من كفرت نعمته أن تجري لك نعمة على يديه: {سنة الله التي قد خلت في عباده}. لأن كفران النعمة يقطع طريقها فبتقدير أن من كفرت نعمته لا يؤاخذك فأنت لا تستحق تلك النعمة فلا بد من وجود صفة الاستحقاق في المنعم عليه وعدم كفرانه نعمة من كان واسطة فيها من زوج ووالد وسيد ونحوهم وقد كثر كفران النعم في هذا الزمان من الزوجة والأولاد والأرقاء والمريدين وبذلك تعسرت عليهم الأرزاق وكلما تأخر الزمان زاد على الناس الأمر في تعسير الأرزاق وفي تحويلها عنهم بالكلية لقلة الشكر بالعمل من قيام الليل وغيره حتى تتورم منهم الأقدام فإن الشكر بالقول ما بقي يكفي لغالب النعم في هذا الزمان لكون الموازين قد أقيمت فيه على الناس لقرب الساعة وما قارب الشيء أعطى حكمه ولقلة الإخلاص في القول وقد قال تعالى في حق آل داود: {اعملوا آل داود شكرا}. ولم يقل قولوا أل داود شكرا وهذه الأمة المحمدية أولى بأن يشكروا بالعمل لأنهم أعظم نعمة بنبيهم وشريعتهم فليتنبه من كان غافلا عن ذلك ليدوم الماء في مجاريه
وقد كان الشيخ عصيفير المجذوب المدفون بخط بين السورين بمصر كلما رأى حوضا مملوء للبهائم يفتح بالوعته فيسبح على الأرض ويقول للذي يملؤه أنت أعمى القلب فإن أهل هذا الزمان صاروا لا يستحقون رحمة ولا نعمة لكثرة عصيانهم ومخالفتهم فقال يا سيدي: إنما هذا البهائم فقال إنها تحملهم إلى مواضع المعاصي فكان يتكلم على لسان أحوال الزمان بلسان الحقيقة دون لسان الشريعة لكونه مجذوبا وكان مراده مما قاله تنبيه الناس إلى المشي على طريق الاستقامة لتدوم عليهم النعم وإلا فالحق لا يستحقون على الله تعالى شيئا مطلقا وإنما جميع نعمه عليهم من باب الفضل والمنة. والله تعالى أعلم
- روى الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: [[كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر وإذا لقي ربه فرح بصومه]]. وفي رواية لمسلم: [[كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي]]. وفي رواية لمالك وأبي داود والترمذي: وإذا لقي الله تعالى فجزاه فرح الحديث. قلت: وإنما كان الصائم يفرح بهذين الشيئين لأن الإنسان مركب من جسم وروح فغذاء الجسم الطعام وغذاء الروح لقاء الله. والله أعلم. قال الحافظ: ومعنى قوله الصيام جنة بضم الجيم وما يجن العبد ويستره ويقيه مما يخاف فقال: ومعنى الحديث: إن الصوم يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي. والرفث يطلق ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحش ويطلق ويراد به خطاب الرجل للمرأة فيما يتعلق بالجماع. وقال كثير من العلماء: المراد به في هذا الحديث الفحش ورديء الكلام. والخلوف: بفتح الخاء وضم اللام هو تغير رائحة الفم من الصيام. وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا: [[الصيام لله تعالى لا يعلم ثواب عامله إلا الله تعالى]] وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا: صوموا تصحوا. وروى الإمام أحمد بإسناد جيد والبيهقي مرفوعا: الصيام جنة وحصن حصين من النار. وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه: الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال. وروى الإمام أحمد والطبراني والحاكم ورواتهم محتج بهم في الصحيح مرفوعا: [[الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان]]. وروى ابن ماجه مرفوعا: [[لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم]]. وروى البيهقي مرفوعا: [[إن للصائم عند فطره لدعوة لا ترد]]. وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر]]. وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا]]. قال الحافظ: قد ذهب طوائف من العلماء إلى أن الحديث في فضل الصوم في الجهاد وبوب على ذلك الترمذي وغيره وذهبت طائفة إلى أن كل صوم في سبيل الله إذا كان خالصا لله تعالى. والله أعلم

الأربعاء، 14 مايو 2014

لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية الإمام عبد الوهاب الشعراني الجزء 6

لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية الإمام عبد الوهاب الشعراني الجزء 6
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نستعد لفهم إشارات الحق تعالى بتلطيف الكثائف حتى نحس إذا استخرنا ربنا بما هو الأولى لنا من فعل ذلك الأمر أو تركه فإن من كان غليظ الحجاب لا يحس بشيء من ذلك ولهذا نقول له استخر ربك فيقول قد استخرته فلم يترجح عندي أمر ولو أنه كان رقيق الحجاب لأدرك ما فيه الخيرة له من فعل أو ترك ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يمزق حجب عوائده ولا يصير له عن الله عائق بل يفهم مراد الحق تعالى بأول وهلة وهذا أمر عزيز الوجود ولذلك عول غالب الناس على استشارة بغضهم بعضا لا سيما إشارة الفقراء ولكن يحتاج أيضا إلى تلطيف حجاب حتى يعرف طريق الخيرة لذلك العبد من طريق كشفه وإلا فإشارته معكوسة وربما أشار على أحد بأمر فكان فيه هلاكه فيكون على المشير الإثم في ذلك مثل من يفتي في دين الله بغير علم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لا ينبغي لأحد أن يشير على أحد بشيء إلا إن كان مطمح نظره اللوح المحفوظ الذي لا تبديل فيه فإن لم يكن مطمح نظره ما ذكر فليقل له استخر ربك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول: الاستشارة بمنزلة تنبيه النائم فترى الإنسان يكون جازما بفعل شيء فيشاور فيه بعض إخوانه فيقول له إن فعلت كذا حصل لك كذا فينحل عزمه عنه في الحال فلو قال له إنسان بعد ذلك افعل كذا لا يرجع إلى قوله
وسمعته أيضا يقول: لا تستشر محب الدنيا في شيء من أمور الآخرة فإن تدبيره ناقص لحجابه بالدنيا عن الآخرة ولا تستشر أيضا محب نعيم الآخرة من الزهاد والعباد في شيء من الأمور المتعلقة بالأدب مع الحق تعالى فإنه محجوب بذلك عن الحق وعن حضرته الخاصة واستشر كمل العارفين بالله في أمور الدنيا والآخرة فإنهم قطعوا المرتبتين ووصلوا لحضرة الحق وعرفوا آدابها ودرجات أهلها في الأدب وفي المثل السائر: استعينوا على كل حرفة بصالح من أهلها فتأمل ذلك واعمل عليه
وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول: لا ينبغي لمن كان مشغوفا بحب الدنيا أن يفعل شيئا برأيه ولا باستخارته بل يسأل أهل الخير عن ذلك ويفعل ما يشيرون به عليه ولو كان من أكابر ملوك الدنيا فإن صحة الرأي إنما تكون لمن زهد في الدنيا وشهواتها والولاة غارقون في حب الدنيا مع زيادة السكر الحاصل لهم من لذة الأمر والنهي والحكم ولذلك طلب الملوك العادلون أن يكون لهم وزراء لأن رأي الوزير ربما كان أكمل وأتم من الملوك لكون الوزير أنقص حكما وتصريفا منهم فلذلك قل سكره وقال العارفون لا يعرف الشيء إلا من زهد فيه وفي الحديث: [[حبك للشيء يعمي ويصم]]
ولولا ظهور عيب الدنيا للزاهد ما زهد فيها
فاعمل يا أخي على جلاء مرآتك بإشارة شيخ مرشد إن أردت أن تعرف مراد الحق وطريق الخيرة فيما تفعله في المستقبل وإنما شاور صلى الله عليه وسلم أصحابه امتثالا لأمر الله تعالى بقوله {وشاورهم في الأمر}
وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أتم خلق الله تعالى رأيا وأوسعهم علما وعقلا فكانت مشاورته لهم تمييلا لخاطرهم لا عملا بإشارتهم من غير أن يظهر له صلى الله عليه وسلم وجه الحق في ذلك ولذلك قال تعالى له {فإذا عزمت على أمر} يعني على فعل ما أشاروا عليك به: {فتوكل على الله} لا على مشورتهم على أنه لا يقدح في كماله صلى الله عليه وسلم عدم التفاته إلى أمور الدنيا كما قال في مسألة تأبير النخل: [[أنتم أعلم بأمور دنياكم]]
يعني التي لا وحي عندي من الله فيها فافهم
قال بعض العارفين: ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى صار أعلم الناس بأمور الدنيا اه
فشاور في جميع الأمور التي تحبها نفسك من يكون زاهدا فيها من العارفين لا من المتعبدين فإن المتعبد ربما نفرت نفسه من الأشياء بحكم الطبع ونفر غيره عنها كذلك ولو كان فيها مصلحة له كما يقع فيه كثير من ترك الكسب واشتغل بالعبادة وقنع بما يتصدق الناس به عليه فتراه يأمر الناس كلهم بترك الأسباب والكسب كذلك يقول لهم ربكم يرزقكم وغاب عنه أن اعتماد مثله على الخلق لا على الله تعالى ولو أن هذا الشخص شاور عارفا فقال له عليك بالكسب واعتمد على الله لا على الكسب واعتق نفسك من تحمل منن الخلائق
بل قال بعض مشايخ العرب لما ظن أنه متوكل أنا ما ولاني أحد من الفقراء هذه الوظيفة وإنما ولاني الله تعالى فقال له شخص من قرناء السوء أنت والله من الأولياء فقلت له لا يكون من الأولياء إلا إن صرح بهذا القول بين يدي الباشا الذي ولاه وقال له في وجهه أو قال لمن يبلغه ليس لك علي جميل أو ليس للباشا علي جميل وما ولاني إلا الله فقال متى قلت ذلك عزلني وسلب نعمتي قلت: فإذن قولك إنك معتمد على الله دون الخلق افتراء على الله تعالى وازدراء بطائفة الفقراء لا غير
قلت: وقد رأيت بعض الأكابر من العارفين يشهد الله تعالى كل يوم في جميع ما يتحرك به أو يسكن ويقول اللهم إن كنت تعلم أن جميع حركاتي وسكناتي في هذا اليوم خير لي فاقدرها لي ويسرها لي وإن كنت تعلم أنها شر لي فاصرفها عني واصرفني عنها وقال من واظب على ذلك كان في أمان من الله تعالى أن يمكر به اه
قال البيهقي ويعيد صلاة الاستخارة والدعاء ثانيا وثالثا وأكثر حتى ينشرح صدره لشيء اه. {والله غفور رحيم}
- روى مالك والشيخان وغيرهما مرفوعا: [[من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر]]
وفي رواية: [[لهما مثل المهجر]]
وفي رواية للبخاري: [[المستعجل للجمعة كالمهدي بدنه]] الحديث
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا: [[تقعد الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون الأول والثاني والثالث حتى إذا خرج الإمام رفعت الصحف]]
وروى الطبراني والأصبهاني وغيرهما مرفوعا: [[إن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخر عن الجنة وإنه لمن أهلها]]
والأحاديث في ترتيب درجات الذاهبين إلى الجمعة كثيرة
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا: [[من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغى]]
ومعنى لغى خلي من الأجر وقيل أخطأ وقيل صارت جمعته ظهرا وقيل غير ذلك قاله الحافظ المنذري
وروى البخاري والترمذي عن يزيد بن أبي مريم قال: لحقني عبادة بن رفاعة ابن رافع وأنا أمشي إلى الجمعة فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله قال فإني سمعت أبا عيسى يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [[من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار]]
وفي رواية للبخاري: [[حرمه الله على النار]]
وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[من اغتسل يوم جمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى أتى المسجد فركع ما بدا له ولم يؤذ أحد ثم أنصت حتى يصلي كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى]]
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم في صحيحه مرفوعا: [[من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها]]
وفي رواية للطبراني: [[كتب له بكل خطوة عشرون حسنة فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مائتي سنة]]
قال الخطابي رحمه الله قوله [[غسل واغتسل وبكر وابتكر]] اختلف الناس في معناه فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المتظاهر الذي يراد به التوكيد ولفظه مختلف ومعناه واحد ألا تراه يقول في هذا الحديث ومشى ولم يركب ومعناهما واحد وإلى هذا ذهب الأثرم ؟ ؟ صاحب أحمد وقال بعضهم معنى " غسل " غسل الرأس خاصة وذلك لأن العرب لهم لمم وشعور وفي غسلها مؤونة [مشقة] فأراد غسل الرأس من أجل ذلك وإلى هذا ذهب مكحول وقوله: واغتسل معناه غسل سائر الجسد وذهب بعضهم إلى أن معنى [[غسل]] أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره ومعنى [[بكر]] أدرك باكورة الخطبة وهي أولها ومعنى [[ابتكر]] قدم في الوقت وقيل معنى بكر تصدق قبل خروجه قاله ابن الأنباري وتأول في ذلك ما روى في الحديث من قوله: [[باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها]]
وقال أبو بكر بن خزيمة من قال في الخبر غسل واغتسل يعني بالتشديد فمعناه جامع فأوجب الغسل على زوجته أو أمته واغتسل ومن قال غسل يعني بالتخفيف أراد غسل رأسه واغتسل فغسل سائر الجسد كما في الحديث الصحيح مرفوعا: [[اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنبا]] الحديث. والله أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نواظب على المبادرة إلى حضور صلاة الجمعة بحيث نصلي السنة التي قبلها قبل صعود الإمام المنبر اهتماما بأمر الله تعالى لنا بقوله {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}
يعني الشراء ولو كنتم محتاجين إلى ذلك إلا أن تبلغوا مرتبة الاضطرار
وسمعت سيدي علي الخواص يقول: يدخل الناس في الجنة على حسب سرعة مبادرتهم لحضور الجمعة وحسب بطئهم فمن حضر المسجد أولا دخل الجنة أولا ومن حضر ثانيا دخل الجنة بعده وهكذا. اه ويقاس الجمعة في ذلك المسارعة لكل خير. والله أعلم
وهذا العهد قد صار غالب الناس يخل به فلا يكادون يحضرون إلا بعد أن يصعد الإمام المنبر وبعضهم يفوته سماع الخطبتين وبعضهم تفوته الركعة الأولى وبعضهم يفوته ركوع الثانية فيصليها ظهرا وكل ذلك أصله قلة الاهتمام بالدين ولو أنه وعد بدينار إن حضر قبل الوقت لترك كل عائق دون ذلك وربما كان تخلف بعضهم للهو واللعب والوقوف على حلق المخبطين والمسخرة وربما كان تخلفه حتى عمم عمامة تعجبه فصار يهدمها ويبنيها حتى فرغ الخطيب بل رأيت من شرع في تعميمها من طلوع الشمس فلم يزل يهدمها ويبنيها حتى صلوا من الجمعة ركعة وذلك ربما يكون معدودا من الجنون نسأل الله اللطيف
وكان سيدي محمد بن عنان يستعد لحضور الجمعة من عصر يوم الخميس فلا يزل مراقبا لله تعالى حتى يحضر المسجد ولكل مقام رجال {والله غفور رحيم}
- روى الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما مرفوعا: [[أن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه ما سأل ما لم يسأل حراما]]
وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[إن فيه يعني يوم الجمعة لساعة لا يوافقها مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه]] الحديث
وروى أبو يعلى وغيره مرفوعا: [[أن يوم الجمعة وليلة الجمعة أربعة وعشرون ساعة ليس فيها ساعة إلا ولله فيها ستمائة ألف عتيق من النار]]
رواه البيهقي مختصرا بلفظ: [[لله في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار]]
زاد في رواية [[كلهم استوجبوا النار]]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: [[فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه وأشار بيده يقللها]]
وزاد وفي رواية للترمذي وابن ماجه: [[قالوا يا رسول الله أية ساعة هي ؟ قال حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها]]
وفي رواية للترمذي والطبراني مرفوعا: [[التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس]]
وفي رواية لابن ماجه على شرط الشيخين: [[هي آخر ساعات النهار فقال عبدالله بن سلام: إنها ليست ساعة صلاة ؟ قال بلى إن العبد إذا صلى ثم جلس لم يحبسه إلا الصلاة فهو في صلاة]]
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا: [[بعد ذكر يوم الجمعة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له]]
وروى الأصبهاني مرفوعا: [[الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس أغفل ما يكون الناس]]
قال الإمام أحمد: وأكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها استجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر وقال: وترجى بعد الزوال
وقال ابن المنذر: روينا عن أبي هريرة أنه قال: هي من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس
وقال الحسن البصري وأبو العالية: هي عند زوال الشمس
وعن عائشة أنها من حين يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة
وفي رواية عن الحسن أنه قال: هي إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ
وقال أبو بردة: هي الساعة التي اختار الله فيها الصلاة
وبالجملة فالأقوال في ذلك كثيرة ولا يعرف الساعة حقيقة إلا أهل الكشف. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نستعد لساعة الإجابة التي في يوم الجمعة ونقلل الأكل والشرب ونمنع اللهو واللغو والغفلة والذي أعطاه الكشف أن الساعة نحو خمس درج فينبغي أن لا يغفل العبد إلا بمقدار نحو درجتين ليبقى له من الساعة نحو ثلاث درج الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وهذه الساعة مبهمة في اليوم كليلة القدر في ليالي رمضان وتنتقل بيقين كما يؤيده الأحاديث والأخبار التي تأتي آخر العهد وكما أعطاه الكشف فتارة تكون في بكرة النهار وتارة تكون في آخر النهار وتارة تكون بعد الزوال إلى أن تنقضي الصلاة وهو الأغلب
وبالجملة أهل الحجاب ومحبة الدنيا في غفلة عن مثل هذا المشهد لا سيما طائفة المجادلين ومن يعبد الله على جهل وإنما خصصنا معظم الخير الذي يرجى في ساعة الإجابة بمن يشعر بها تحصيلا للقيام بآداب العبودية الظاهرة وإلا فقد ورد: [[من أشغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين]]
فافهم وإن كان ولا بدلك من الاشتغال بذكر أو قرآن فينبغي ذلك بحضور مع الله تعالى لا كما عليه الطائفة الذين يعبدون الله وقلبهم غافل عن الله تعالى فيفوتهم الحضور الذي هو قوت الأرواح وربما اشتغل أحدهم بالقرآن أو الذكر ومرت عليه الساعة ولم يشعر بها
فاعمل يا أخي على جلاء مرآة قلبك لتدرك ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائل لوسع الكرم الإلهي فيها ولا تطلب معرفتها بلا جلاء فإن ذلك لا يكون وكم من نفحات للحق في الليل والنهار والناس في غفلة عنها
وقد أخبرني شيخنا عن الشيخ أحمد بن المؤذن بناحية منية أبي عبدالله أنه جلس مراقبا الله تعالى لمدة أربعين سنة لا يضع جنبه الأرض وكان أولياء عصره يقولون: ما ترك هذا قطرة مدد تنزل من السماء في ليل أو نهار إلا وله فيها حظ ونصيب
وأخبرني سيدي علي الخواص أن سيدي عيسى بن نجم خفير بحر البرلس مكث مراقبا لله تعالى بوضوء واحد مدة سبع عشرة سنة فلم تنزل قطرة مدد من السماء إلا وله فيها نصيب فإن لم تستطع يا أخي دوام المراقبة كالقوم فواظب على الساعات التي ورد فيها التجلي الخاص والله يتولى هداك
- روى الطبراني وغيره مرفوعا: [[من اغتسل يوم الجمعة كفرت عنه ذنوبه وخطاياه]]
وفي رواية للطبراني مرفوعا ورواته ثقات: [[إن الغسل يوم الجمعة ليسل الخطايا من أصول الشعر استلالا]]
وروى ابن خزيمة في صحيحه والطبراني مرفوعا: [[من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى]]
وفي رواية لابن حبان في صحيحه: [[من اغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهرا من الجمعة إلى الجمعة]]
وروى مسلم وغيره مرفوعا: [[غسل الجمعة واجب على كل محتلم]]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن: [[إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء يوم الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نواظب على غسل الجمعة صيفا وشتاء ولا نتركه إلا لعذر شرعي وفي ذلك من الأسرار ما لا يذكر إلا مشافهة
وكان الإمام الشافعي يقول: ما تركت غسل الجمعة في شتاء ولا صيف ولا سفر ولا حضر وهذا العهد يخل به كثير من الناس حتى بعض الفقراء وطلبة العلم فتراهم يتساهلون به ويستثقلونه إما كسلا أو لعدم سماحة نفوسهم بفلوس الحمام
ومن الحكمة الظاهرة في الغسل انتعاش الأعضاء بالماء حتى يصير بدنه كله حيا فيناجي الله بكل عضو فيه ولذلك أمرنا الشارع بالغسل قبل الذهاب إلى الجمعة لنصلي على أثر الغسل ولو أمرنا بالغسل أول ليلة الجمعة ربما تخلل ذلك معصية أو غفلة فيموت البدن وإذا مات فما يبقى يناجي ربه ويتضرع إليه على الوجه المطلوب من العبد فتأمل ذلك. والله تعالى أعلم
- روى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما]]
وروى أيضا مرفوعا: [[يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها. ورجل حضرها يدعو الله فذلك إلى الله فإن شاء قبله وإن شاء رده. ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول: [[من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن ننصت لسماع الخطيب حتى لا يفوتنا سماع شيء من الوعظ الذي يمكننا سماعه وأن نأخذ كل كلام سمعناه من الواعظ في حق أنفسنا كما نأخذه في حق غيرنا وهذا العهد قد أكثر الناس الإخلال به حتى بعض فقراء هذا الزمان وطلبة العلم يتلاهون عن سماع كلام الخطيب وإن سمعوا ذلك أخذوه في حق غيرهم من الظلمة وأعوانهم دون أنفسهم وغاب عنهم أنهم ظلموا أنفسهم بالوقوع في المعاصي المتعلقة بالله وبخلقه وما أحد منهم سلم منها بل بعضهم يرى نفسه على الخطيب وأنه لا يحتاج إلى سماع وعظه ويقول: جميع ما قاله الخطيب معروف وبعضهم يقول: الإنصات سنة ويؤدي إلى حرام وذلك أننا نسمع منه الوعظ ولا نعمل به وهذا جهل عظيم من هذا القائل ولو فتح هذا الباب لأدى إلى كراهة سماع كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لكون الناس عاجزين عن العمل بذلك على التمام ولا قائل بذلك
فاخضع يا أخي لله تعالى واسمع الوعظ من الخطيب فإنه على لسان الحق لا سيما إن خاطبك بنحو قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} و{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} فإنك المخاطب بذلك قطعا من الحق على لسان ذلك الخطيب ولو كشف الله لغالب الخلق لرأوا في نفوسهم جميع الذنوب والقبائح إما فعلا وإما قولا وصلاحية ولكنهم قد صاروا في غمرة ودعوى ومقت حتى لا يكاد أحد منهم يتعظ بوعظ واعظ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
- روى النسائي والبيهقي مرفوعا والحاكم موقوفا وقال صحيح الإسناد: [[من قرأ سورة الكهف في الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين]]
ولفظ الدارمي موقوفا: [[من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق]]
وفي إسناده أبو هاشم والأكثرون على توثيقه
وروى ابن مردويه في تفسيره بإسناد لا بأس به مرفوعا: [[من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت أقدامه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين]]
وروى البيهقي والأصبهاني مرفوعا: [[من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له]]
وفي رواية: [[من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك]]
وفي رواية للطبراني والأصبهاني أيضا مرفوعا: [[من صلى بسورة الدخان في ليلة بات يستغفر له سبعون ألف ملك]]
وفي رواية أخرى لهما مرفوعا: [[من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة]]
وروى الأصبهاني مرفوعا: [[من قرأ سورة يس في ليلة الجمعة غفر الله له]]
وروى الطبراني مرفوعا من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نواظب على قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها وكذلك نواظب على قراءة آل عمران ويس وحم الدخان اهتماما بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لنا بذلك سواء أعقلنا سر تخصيص هذه السور بليلة الجمعة أم لم نعقل ذلك ولو أن العقول تحمل سر ذلك لأوضحناه للناس ولكن من الأدب كتم ما كتمه الشارع وإظهار ما أظهر من إضاءة النور والمغفرة ونحو ذلك والله حليم حكيم
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان]]
وروى الطبراني مرفوعا: [[الزكاة قنطرة الإسلام]]
وروى أبو داود مرسلا والطبراني والبيهقي مرفوعا متصلا قال الحافظ المنذري والمرسل أشبه: [[حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة]]
يعني النافلة والأحاديث في الزكاة كثيرة مشهورة. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نرغب إخواننا أصحاب الأموال بأن يعطفوا على فقراء بلدهم ويخرجوا زكاتهم ونبين لهم مرتبة الزكاة من الدين والإيمان فربما كان المانع لهم من إخراج زكاة أموالهم جهلهم بما ورد فيها من الآيات والأخبار لقلة مجالستهم للعلماء فإذا بينا لهم مرتبة وجوب الزكاة ولم يخرجوا هجرناهم وجوبا لقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}
ومفهومه أن من لم يقم الصلاة ولم يؤد الزكاة فليس هو من إخواننا في الدين ولا يخفى حكمه فوالله لقد صارت أفعال غالب الخلق كأفعال من لا يؤمن بيوم الحساب ولا بما توعد الله تعالى عليه عباده فإن من لم يكن عنده ما توعده الله عليه أو وعده من الأمور المغيبة عنه كالحاضر فإيمانه مدخول
وتأمل يا أخي لو أن السلطان أوقد نارا لمانع الزكاة وقال إن لم تخرج زكاتك أحرقتك في هذه النار كيف يخرجها ولا يتوقف أبدا ؟ ولو قال له صديقه لا تخرج زكاتك لا يطيعه وذلك لشهود النار وتعذيبه بها عاجلا غير آجل فهكذا فليكن الأمر فيما توعد به الحق تعالى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
ثم تأمل يا أخي في تسمية الله تعالى إخراج الإنسان حق الله تعالى في ماله زكاة: أي نمو وزيادة تعرف أن ذلك إنما هو امتحان لمن يدعي الإيمان وتصديق الله تعالى فيما أخبر به هل يصدقه في زيادة المال إذا أخرج حق الله منه ويكون في شهوده كالزيادة أم لا ؟ وتأمل لو جلس يهودي بشكارة ذهب وقال لكل من مر عليه من المؤمنين كل من أعطى هذا الفقير درهما أعطيته دينارا كيف يتزاحم الناس على إعطاء هذا الفقير لأجل زيادة العوض ؟ وقد قال الله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} وقال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} وقال صلى الله عليه وسلم ما نقص مال من صدقة]]
فليمتحن المدعي للتصديق بكلام الله ورسوله نفسه فإن رآها لا تمل من الإعطاء أبدا للفقراء ولو طلبوا منه جميع ما معه أعطاه لهم فليحكم لها بكمال الإيمان وإن رآها تمل من ذلك فليحكم عليها بنقص الإيمان وربما كان أحدهم يعطي الفقراء لكثرة ما جرب من إضعاف التوسعة عليه كما أعطى فهذا عبد تجربة فربما كان الحاث له على العطاء كون الحق تعالى يخلف عليه أضعاف ما أعطى والمؤمن الكامل من أعطى عباد الله تعالى امتثالا لأمر الله لا لعلة إخلاف الله عليه ولا غير ذلك اللهم إلا إن يريد بكثرة الإعطاء كثرة الإنفاق في مرضاة الله تعالى فهذا لا مانع منه وربما كان الإنسان يخف عليه إعطاء الدينار للسائل أول مرة ثم إذا طلب منه السائل دينارا ثانيا أعطاه ولكن ببعض ثقل ثم إذا سأله ثالثا أعطاه بثقل لكن أعظم من الثاني وهكذا حتى ربما لا يصل إلى الدينار العاشر ومعه بقية داعية للعطاء فلو أن مثل هذا كان كامل الإيمان لكان آخر دينار في الخفة عليه كأول دينار على حد سواء في الخفة
وقد أخبرني الشيخ جمال الدين ابن شيخ الإسلام زكريا أن الشيخ فرجا المجذوب لقيه ومعه أربعون نصفا فسأله الشيخ فرج نصف فأعطاه ثم سأله آخر فأعطاه فما زال يسأله حتى بقي معه نصف واحد من الأربعين فقال أعطني النصف الآخر فقال: يا شيخ فرج أنا محتاج إليه فقال: قد كتبت لك وصولا على شموال اليهودي بتسعة وثلاثين دينارا فقال: قف خذ النصف الآخر فقال ما رضيت قال الشيخ جمال الدين: فبينما أنا جالس في أثناء النهار فإذا يهودي يدق الباب فقلت له من هذا فقال يهودي فقلت له أدخل فقال: إن والدك كان أعطاني أربعين دينارا قرضا وما بيني وبينه إلا الله تعالى وقد عجزت عن دينار منها فأبرئ ذمتي ووضع الدنانير بين يدي فمن ذلك اليوم ما سألني الشيخ فرج شيئا ومنعته إياه قال سيدي جمال الدين: فندمت أني ما كنت أعطيته النصف الآخر فإنه عوض لي في كل نصف واحد أربعين نصفا ثم قال تبت إلى الله تعالى أن أحدا من أولياء الله يطلب مني شيئا ولا أعطيه له اه
فانظر يا أخي كيف صار إيمان سيدي جمال الدين في آخر نصف من توقفه ولو أنه كشف حجابه لم يتوقف في آخر نصف بل كان يعطيه من غير توقف قال سيدي جمال الدين: ثم إني لقيت الشيخ فرجا بعد ذلك فذكرت له القصة فقال: إنما فعلت ذلك معك لأمرنك على معاملة الله تعالى فإذا كنت وأنا عبد قد وفيت لك أضعاف ما أعطيتني فالحق تعالى أولى بذلك {ومن أوفى بعهده من الله}. فقلت له لأي شيء ما قلت لي أعطني درهما أعطك بدله دينار ؟ فقال: كانت تبطل فائدة الامتحان لأنه حينئذ يصير العوض مشهودا لك ولا تظهر ثمرة المحنة إلا إذا لم يذكر الممتحن العوض وأوهمه أنه لا يعوض عليه بدل ذلك شيئا اه
فاعلم أن الواجب على العبد أن يعطي الله ما أمره به محبة في ربه تعالى لا طلبا للعوض الدنيوي أو الأخروي فإن ذلك سوء أدب وجهل بعظمة الله تعالى
فأخرج يا أخي زكاتك طوعا وامتثالا لأمر ربك وإن لم تطاوعك نفسك فاتخذ لك شيخا يرقيك إلى كمال الإيمان فهناك لا تتوقف على توعده لك بحرقك بالنار إن لم تخرج زكاتك فإنك تصير كمن آمن كرها فلا يصح إيمانك والله يتولى هداك
- روى الإمام أحمد واللفظ له وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[العامل على الصدقة بالحق لوجه الله تعالى كالغازي في سبيل الله تعالى حتى يرجع إلى أهله]]
وفي رواية للطبراني مرفوعا: [[العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته]]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مرفوعا: [[خير الكسب كسب العامل إذا نصح]]
وروى الإمام أحمد مرفوعا وفي إسناده مجهول: [[ستفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله تعالى وأدى الأمانة]]
وروى أبو داود مرفوعا: [[من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فأخذ فوق ذلك فهو غلول]]
وفي رواية لمسلم وأبي داود وغيرهما مرفوعا: [[من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نساعد الفقراء بالعمالة إذا طلب منا الفقراء أن نكون عمالا لهم على الزكاة إلا إذا لم نثق بنفوسنا في جميع ذلك وإعطائه للفقراء من غير غلول فإن خفنا ذلك تركنا العمالة تقديما لمصلحة نفوسنا على مصلحة الغير وهذا العهد يخل به كثير من الفقراء والعلماء ويقولون: أي شيء لنا في ذلك ؟ فإن شاءوا يعطون الفقراء وإن شاءوا يمنعوهم وغاب هؤلاء عن قول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}
يعني اطلبها منهم ولا تتوقف على أنهم يعطونها لك بغير سؤال فإن المال محبوب للنفوس وقليل من الناس من يوق شح نفسه فكان على هذا القدم سيدي الشيخ أبو بكر الحديدي رحمه الله تعالى فكان يأخذ من الناس الزكاة بالإلحاح ويعطيها للفقراء والمساكين فقيل له إنهم يصيرون يكرهونك فقال سوف يحبوني في الآخرة حين يرون ثواب أعمالهم اه
وقد قال أخي أفضل الدين لشخص مرة لا تترك فعل الخير ولو خفت أن يذمك الناس فقال له سيدي علي الخواص ولو ذموك وفرغوا من الذم اه
فافعل يا أخي كل شيء ندبك الشرع إليه ولا تتعلل بعذر عادي من حياء أو خوف ذم فإن العذر لا يقبل إلا إن كان شرعيا كخوفه على نفسه من الغلول لما يعلم من شدة محبة نفسه للدنيا وميله إليها فروض يا أخي نفسك مدة قبل دخولك في جباية الأموال والله يتولى هداك
- روى الشيخان واللفظ للبخاري مرفوعا: اليد العليا خير من اليد السفلى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله. قال الخطابي وقد اختلف الناس في المراد باليد العليا فقال بعضهم هي المنفقة والأشبه أن يكون المراد بها المتعففة لأنها أوضح من حيث المعنى. والله تعالى أعلم
وروى البزار مرفوعا: [[إن الله تعالى يحب الغني المتصدق والفقير المتعفف]]
وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[أول ثلاثة يدخلون الجنة: الشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيف متعفف ذو عيال]]
وروى الطبراني مرفوعا: [[ومن يقنع يقنعه الله]]. وفي رواية له مرفوعا: [[عز المؤمن استغناؤه عن الناس]]
وروى الشيخان مرفوعا: [[ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس. والعرض كل ما يقتنى من المال وغيره]]
وروى مسلم وغيره مرفوعا: [[اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع]]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب]]
وروى الشيخان مرفوعا: [[ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس]]
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا: [[قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه]]. والكفاف من الرزق ما كف عن السؤال مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا: [[يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تستكثر فشر لك ولا تلام على كفاف]]
يعني أن تطلب من الدنيا ما يكفيك ويغنيك عن سؤال الناس. وروى البيهقي مرفوعا: [[القناعة كنز لا يفنى]]. قال الحافظ المنذري ورفعه غريب وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا: [[من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها]]. والمراد بسربه: نفسه. وروى البخاري وابن ماجه وغيرهما مرفوعا: [[لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه]]. وروى البخاري مرفوعا: [[ما أكل أحد طعاما خير له من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده]]. قال بعضهم كان يضفر الخوص ويعمل أدراع الحديد. وروى أبو داود والترمذي: [[أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: أما في بيتك شيء ؟ فقال بلى حلس ؟ ؟ نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب ؟ ؟ نشرب فيه الماء فقال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال: من يشتري هذين ؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا ؟ فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به فلما أتاه به شد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع ولذي غرم مفظع ولذي دم موجع]]. والمدقع هو الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء يعني الأرض التي لا نبات بها والغرم هو الذي يلزم صاحبه أداؤه يتكلف فيه لا في مقابلة عوض والمفظع هو الشديد الشنيع والدم الموجع هو الذي يتحمل عن قريبه أو حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول. ولو لم يفعل قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يكون سدانا ولحمتنا القناعة والتعفف والأكل من الكسب الحلال بطريقة الشرع الشامل لمد اليدين بالدعاء إلى حضرة الله تعالى إذا عجزنا عن عمل الحرفة المعتادة ولا نأكل بديننا وهذا العهد لا يعمل به على وجهه إلا من سلك الطريق على يد شيخ وإلا فلا يشم من العمل به رائحة فإن العبد ما لم يصل إلى معرفة الله تعالى لا يصح له في القناعة والتعفف قدم وذلك أنه إذا عرف الله تعالى فمن لازمه الرضا به من الكونين ولا يطلب قط فيهما نعيما غير مجالسة الحق جل وعلا ولا يبالي بما فاته منهما إذا كان الحق تعالى له عوضا من كل شيء وأما من لم يصل إلى معرفة الله تعالى فمن لازمه شراهة النفس لأن الدنيا مشهودة فلذلك كان هذا العهد يخل به كثير من الناس في هذا الزمان حتى لا يكاد الإنسان يرى متعففا ولا قانعا ولا متورعا في اللقمة أبدا بل غالب الفقراء يقولون وخلق لكم وغيرهم يقول هات لنا ولا تفتش وبعضهم يقول الحرام علينا هو ما لم تصل يدنا إليه وهذا كلام لا يجوز لمؤمن أن يتلفظ به لئلا يسمعه بعض العوام فيتبعه على ذلك
ومن هنا قال العارفون: يجب على من لم يكن لديه ورع أن يتفعل في التورع فإن لم يكن له نية صالحة في الورع فربما صلحت نية من يتبعه في الورع وقالوا أيضا: يجب على العالم إذا لم يعمل بعلمه أن يعمله لمن يعمل به
وقالوا إذا رأيت عالما لا يعمل بعلمه فاعمل أنت به يحصل لك وله الخير. [[والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه]]
ثم لا يخفى أن من أقبح الصفات عدم تعفف العالم والصالح وطلبهما من الولاة جوالي أو مسموحا أو مرتبا على بساط السلطان ثم يطلبان بعد ذلك تمشية شفاعتهم عندهم في أمور المسلمين وهذا أمر لا يتم لهم فإن شرط الشافع العفة والورع عما بأيدي الولاة فإنهم إذا رأوه زاهدا فيما رغب فيه ملوكهم فضلا عنهم عظموه ضرورة وأحبوه وقبلوا شفاعته وتبركوا به وقد كثر طلب الدنيا من طائفة الفقراء وغيرهم وصاروا يسافرون من نحو مصر إلى بلاد الروم والعجم ويتعللون بضيق المعاش وربما يكون أحدهم كاذبا لأن عنده في بلده ما يكفيه الكفاية اللائقة بأمثاله وكان من الأدب لكل من عمل رئيسا في الناس أن يرد جميع ما يعرضه عليه أعوان الظلمة والسلطان ويقول لهم: أعطوه لمن هو أنفع مني للمسلمين من الجند الذين يسافرون في التجاريد ونحوهم فأما أنا فجالس أذكر الله تعالى في زاويتي أو أشتغل بعلم ما أحد يعمل به والأمر في زيادة من حيث قلة العمل بالعلم فكيف أزاحم عسكر السلطان على ماله
فاسلك يا أخي طريق الفقراء والعلماء الذين مضوا ولا تتبع أهل زمانك تهلك
وقد بلغنا عن أبي إسحاق الشيرازي أنه كانت تعرض عليه الأموال فيردها مع أن القمل سائح على وجهه ورأسه ولحيته وعليه فروة كباشية ؟ ؟ وكان يتغذى بماء الباقلا فيفت الكسرة اليابسة ويغمسها بماء الفول رضي الله تعالى عنه فاعلم ذلك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول: لله تعالى رجال يجمعون المال ولا يظهرون قناعة ويلحون في السؤال ثم يعطون كل شيء حصل بأيديهم لمن هو محتاج إليه ولا يذوقون منه شيئا
فإياك يا أخي والمبادرة بالإنكار عليهم
وبعضهم يجمع من الدنيا عنده حتى لا تستشرف نفسه لما في أيدي الناس أو يقف لهم على باب وكان على ذلك سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول: إذا ضاق على فقير أمر معيشته فليسأل الله تعالى في تيسير رزق حلال مما قسمه الله تعالى له ولا يعين جهة ليكون ذلك معدودا من جملة الرزق الذي لا يحتسبه فإن كان شيء جاء باستشراف نفس فهو غير مبارك فيه كما صرحت به الشريعة ثم نقل عن الشبلي أنه كان إذا جاع مد يده وسأل الله تعالى وقال هذا كسب يميني
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول: لا ينبغي لفقير أن يأكل مما وعده به أحد لأن نفسه تصير متشوقة إليه حتى يحضر
وجاءه مرة إنسان وقال قد خرجت لكم عن قنطار عنب فأرسل معي أحدا يحمله فأبى وقال لا نحب أن نأكل إلا ما لم يكن في حسابنا فإذا خرجت بعد ذلك عن شيء للفقراء فلا تعلمهم به قبل حضوره إن طلبت أنهم يأكلون منه
وبلغنا عن إبراهيم أنه فقد الحلال فسف من التراب مدة أربعين يوما حتى وجد الحلال اللائق بحاله ومقامه
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول: ينبغي لكل مؤمن في هذا الزمان إذا حضر عنده طعام أو شراب أن لا يأكل منه حتى يقول بتوجه تام: اللهم إن كان في هذا الطعام شبهة حرام فاحمني منه وإن لم تحمني منه فلا تجعله يقيم في بطني وإن جعلته يقيم في بطني فاحفظني من المعاصي الناشئة من أكله فإن لم تحفظني منها فمن علي بالتوبة النصوح فإن لم تمن علي بالتوبة فالطف بي ولا تؤاخذني يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين
وكان يقول: لا ينبغي لفقير السؤال حتى يبيع آلات الدار الزائدة على الضرورة كالطراحة والمخدة والعمامة الزائدة والثوب الزائد والأواني كلهم حتى نعله الزائد
وكان يقول لا ينبغي لفقير في هذا الزمان إذا وجد الحلال الصرف أن يشبع منه بل يأكل بقدر سد الرمق فقط خوفا أن يقع في الحرام. وسمعته أيضا يقول: ليست القناعة أن تأكل كل ما وجدته ولو كسرة يابسة كل يوم وإنما القناعة أن تطوي الثلاثة أيام فأكثر مع وجود الأكل عندك. ولعل مراده رضي الله عنه الطي الذي لا يضر الجسم فإن جوع المحققين إنما هو اضطرار لا اختيار وذلك لأن الكامل يجب عليه إعطاء كل ذي حق حقه من جسمه أو غيره ولا يظلم شيئا من رعيته سواء الجوارح وغيرها. وبالجملة فلا بد لمن يريد العمل بهذا العهد من شيخ يسلك به حتى يخرجه من حضرات الاتهام ويدخله حضرات اليقين فيعرف إذ ذاك أن ما قسمه الله تعالى لعبد لا يمكن أن يفوته وما لم يقسمه له لا يتبعه نفسه
ومن هذا الباب أيضا الأقدار الجارية على العبد فإنها لا تخلو عن كون ذلك الأمر الذي دافع العبد الأقدار في عدم وقوعه مقدرا أو غير مقدر فإن كان مقدرا فلا فائدة في المدافعة إلا تعظيم انتهاك محارم الله تعالى لا غير وقد كلف الله تعالى العبد بذلك وجعل له الثواب فيه سواء كان مقدرا أو غير مقدر حتى أنه لو كشف له أن الله تعالى كتب عليه الزنا أو شرب الخمر لا يجوز له المبادرة إلى ذلك لأنها مبادرة إلى ما يسخط الله تعالى فيجب عليه الصبر حتى يقع ذلك في حالة غفلة أو سهو كما أشار إليه خبر: [[إذا أراد الله تعالى إنفاذ قضائه وقدره سلب من ذوي العقول عقولهم]]. يعني عقولهم الحافظة عن الوقوع لا عقول التكليف فافهم لئلا يؤدي إلى إبطال الحدود كلها فتأمل في هذا المحل واعمل به
وقد كان أخي الشيخ عبدالقادر رحمه الله تعالى على هذا القدم فأرسلت مرة أن يجعل على مقثأة البطيخ حارسا حتى يحضر له بالمركب يوسقه فأرسل يقول: لي المؤمن لا يحتاج إلى مثل ذلك فإن ما قسمه الله تعالى لأهل الريف أن يأكلوه لا يقدر أحد يحمل منه إلى مصر بطيخة واحدة وما قسمه الله تعالى لأهل مصر لا يقدر أحد من أهل الريف يأكل منه بطيخة واحدة ومن كان إيمانه كذلك لا يحتاج إلى حارس. هذا في ملك الإنسان نفسه أما مال الغير فيجب على الحارس حفظه وإن لم يحرسه إثم ولم يستحق أجره فافهم والله يتولى هداك

- روى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا: [[من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله تعالى له برزق عاجل أو آجل. وفي رواية للحاكم: أرسل الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى آجل]]. وفي رواية للطبراني مرفوعا: [[من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس وأفضى به إلى الله كان حقا على الله أن يفتح له قوت سنة من حلال]]. والله تعالى أعلم