الاثنين، 24 فبراير 2014

سبيل الإدكار الحبيب عبد الله بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي



بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت

العليم الحكيم

  الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مدبر الأمور، ومقدر الأقدار، مولج النهار في الليل، ومولج الليل في النهار، تبصرة وذكرى لأولى البصائر والأبصار.
  فسبحانه وتعالى وتقدس، من ملك عظيم متكبر جبار، قديم أزلي دائم أبدي، حي قيوم، قضى وحكم على خلقه بالفناء والانقضاء، والموت والبلاء، والتحول من حال إلى حال، والانتقال من دار إلى دار، وتفرد بالدوام والبقاء على تطاول الدهور، وامتداد الأعصار ، وتغاير الأطوار، وانصرام الأعمار.
أحمده بما حمد به نفسه، وبما حمده به عباده المخلصون الأبرار، من ملائكته المقربين، وأنبيائه والمرسلين، وعباده الصالحين الأخيار.
والصلاة والسلام على عبده ورسوله، سيدنا ومولانا محمد، المصطفى المختار، الذي أرسله رحمة للعالمين،وختم به النبيين، وعلى أهل بيته الطيبين الأطهار، وأصحابه المهاجرين و الأنصار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين والجزاء، وانقسام الناس إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في النار.
أما بعد، فهذا مؤلف مبارك إن شاء الله، ألفناه لقصد التذكر والاعتبار، بما يمر بالإنسان من الأعمار، ويحول به من الأحوال، ويختلف عليه من الأطوار من حين ينتقل من صلب إلى رحم، إلى أن يستقر في إحدى الدارين : الجنة أو النار.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير ووصفه به، وجعل التذكر من وصف المؤمنين، أهل الإنابة والخشية والقلوب والشهادة. قال تعالى: [ وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين] الذاريات 51/55 . وقال تعالى: [ فذكّر فما أنت بنعمة ربّك بكاهن ولا مجنون ] الطور:52/29. وقا ل تعالى: [ فذكّر إن نفعت الذكرى . سيذكّر من يخشى] الأعلى:87/9-10 . قال تعالى: [فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ] الغاشية:88/21-22 . وقال تعالى: [ وما يتذكّر إلا من ينيب ] غافر:40/13. وقال تعالى: [ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ] ق:50/37 .
وقد بلغنا أنه لما نزل قوله تعالى: [ فتول عنهم فما أنت بملوم ] الذاريات:51/54. حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وخاف أنه دنا عذابهم ووقع الإياس من هدايتهم،  فأنزل الله على إثرها [ وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ] الذاريات:51/55. فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وسرّي عنه، وذلك كله لما جبله الله عليه، وحققه به، من الرحمة والشفقة على العالمين، والحرص البالغ على نصحهم، وقبولهم للحق والهدى لأن الله سبحانه وتعالى أرسله رحمة لهم، ووصفه بذلك في كتابه فقال تعالى: [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ] التوبة:9/128.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يشتد عليه إباؤهم وردهم للحق و الهدى، يشير إلى ذلك قوله تعالى: [ فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ] الكهف:18/6  أي مهلك نفسك .
ثم إن العمر هو: المدة المتمادية من الزمان، كما قال تعالى: [ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون ] يونس:10/16. وكان ذلك العمر أربعين سنة، من حين مولده صلى الله عليه وسلم، إلىحين بعثه الله رسولاً وهو مقيم مع قومه بمكة المشرفة.
وقد استحسنا أن نقسم مدة الإنسان هذه المتطاولة، المتباعدة الطرفين، إلى خمسة أعمار، مع أن للإنسان في كل من هذه الأعمار أحوالاً وأطواراً ليست له في العمر الآخر، وله فيها نشأة مختلفة، فيما يعلم وفيما لا يعلم كما قال تعالى: [ وننشئكم فيما لا تعلمون ] الواقعة:56/61. مع أنه بحقيقته التي هي حقيقته هو هو، ليست هي غيره، وإن اختلفت به الأحوال، وتعاقبت عليه الأطوار، وله شعور بنفسه، و بما يجري عليه من خير وشر، وثواب وعقاب.
وقد خطر لنا وضع هذا التأليف من مدة، ثم خطر لنا تأخيره إلى أن تمضي الثالثة والستون من العمر، التي هي مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الصحيح كما ورد في ذلك. وقيل ستون سنة . وقيل خمس وستون سنة.
 وقد مضت هذه المدة من السنين. وهي الآن في السابعة والستين، وقد مضت أشهر منها فنسأل الله خير ذلك وبركته، وحسن ختامه ونعوذ بالله من شره وفتنته وسوء عواقبه؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول .
ونسأله سبحانه ونبتهل إليه، أن يحيينا ما كانت الحياة خيراً لنا، ويتوفانا ما كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم لا تقدمنا لعذاب، ولا تؤخرنا لفتنة، اللهم إنا نسألك خير الحياة وخير الوفاة، وخير ما بين ذلك، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة، وشر ما بين ذلك، أحينا حياة السعداء، حياة من تحب بقاءه، وتوفنا وفاة الشهداء ، وفاة من تحب لقاءه .
واختم لنا بالحسنى والإحسان في لطف وعافية، وأحبابنا ومحبينا، وأوليائنا فيك، والمسلمين، يا أرحم الراحمين، آمين.
واسم هذا المؤلف : سبيل الإدّكار والاعتبار بما يمر بالإنسان وينقضي له من الأعمار.
نسأل الله تعالى عموم النفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ومقرباً من رضاه ومجاورته في جنات النعيم، بفضله ورحمته، وجوده و كرمه، إنه الجواد الكرم البر الرحيم.
وهذا أوان الشروع في المقصود من الكتاب، والله الميسر والمعين، والهادي إلى الحق والصواب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وهو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت و إليه المتاب.
واعلم أنـَّا نظرنا في جملة الأعمار التي تمر على ابن آدم و يمر عليها، فوجدناها ترجع إلى خمسة، لكل واحد منها أجل، وللإنسان في كل واحد منها أطوار، يتطور فيها، وينتقل منها، وأحوال تحول عليه. وللناس في ذلك اختلاف، وتوافق و تباين .
العمر الأول منها: من حين خلق الله آدم عليه السلام، وضمن ظهره الذرية السعداء منهم والأشقياء. فلم تزل تنتقل من صلب إلى رحم، ومن رحم إلى صلب، إلى أن خرج كل واحد منهم من أبيه وأمه.
والعمر الثاني : من حين خروج الإنسان من بين أبويه إلى الدنيا، إلى وقت موته، وخروجه من الدنيا.
والعمر الثالث : من حين خروج الإنسان من الدنيا بالموت، إلى أن يـبعثه الله بالنفخ في الصور، وتلك مدة البرزخ.
والعمر الرابع : من حين خروج الإنسان من قبره، أو من حيث شاء الله بالنفخ في الصور، ليوم البعث والنشور، إلى الحشر إلى الله، والوقوف بين يديه للوزن والحساب، والمرور على الصراط وأخذ الكتاب، إلى غير ذلك من مواقف القيامة وأحوالها، وشدائدها وأهوالها.
و العمر الخامس : من وقت دخول الإنسان في الجنة إلى الأبد. وهذا هو العمر الذي لا انقضاء له و لا غاية، أو من حين دخول أهل النار إلى النار .
وأحوالهم مختلفة في ذلك، فمنهم الخالد المؤبد بلا غاية ولا نهاية، وهم كافرون على اختلاف أنواعهم، ومنهم الخارجون منها، وهم عصاة الموحدين إما بالشفاعة وإما بغيرها، على حسب ما يأتي من التفصيل، عند شرح ذلك العمر الذي هو العمر الخامس.
ونحن نشرح كل واحد من هذه الأعمار شرحاً وجيزاً، يليق بالزمان والمكان، من غير تطويل وإسهاب، ولا إيجاز مخل بحصول الفوائد المقصودة التي يقع عنها السؤال، وتمس الحاجة إلى شرحها، فأما التفصيل الكلي، فلا مطمع فيه، لأنه يستدعي شرحاً طويلاً وبسطاً مملاً. 














العمر الأول
 













 

العُمرُ الأوّلُ

وَهوَ مِنْ حِين خَلق الله آدَمَ عَلَيْهِ السَلاَم. وَأودَع
الذرِيَّة في صُلبه المبَارك . أهْلَ اليَمين وَأهْلَ الشِّمَال
وَهُمْ أهْلُ القَبضَتَين مِنَ اليَدَين اليمنيين المقَّدَسَتَين

وقد استخرج الله هذه الذرية من ظهر آدم، بعد أن أودعها فيه، حين أخرجهم دفعة واحدة، لأخذ الميثاق عليهم، بالإقرار بالوحدانية والربوبـية، وذلك بـنعمان: واد قريب من عرفات، كما ورد ذلك في قوله تعالى: [ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين] الأعراف:7/172 والآية التي تليها.
وفي الخبر أو الأثر: أنه سبحانه لما أخذ عليهم ذلك الميثاق، كتب عليهم به كتاباً، وألقمه الحجر الأسود. وذلك معنى قول المستلم للحجر، عند الطواف بالبيت العتيق: اللهم إيماناً بك، ووفاءً بعهدك، وتصديقاً بكتابك .
ولا شك أن ذلك يقتضي أن للذرية، وجوداً سمعاً ونطقاً، ولكنه في مرتـبة أخرى من مراتب الوجود، ليست هي المرتبة من الوجود الدنـيوي. ومراتب الوجود كثيرة، كما يعرف ذلك أهل العلم به وبها.
وقد ورد عن رسول  الله صلى الله عليه وسلم : (( أنه كان نبياً وآدم بين الماء والطين، وبين الروح والجسد، وأنه هبط مع آدم حين أهبط، وكان مع نوح حين ركب السفينة ومع إبراهيم حين ألقي في نار النمرود )) .
وهذا وإن كان عاماً في جميع الذرية، التي كانت في أصلاب هؤلاء النبيين المذكورين، عليهم الصلاة والسلام، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك وجود أتم وأكمل.
ولعل ذلك كان بعلم منه، وشعور بقي معه في تلك الحال،صلى الله عليه وسلم إلى حين ظهوره في العالم الدنيوي، وقوله ذلك ليتميز، عليه الصلاة والسلام من غيره، بما خص به نفسه، ونبّه به على خصوصيته.
وأما غيره من الذرية، فيحتمل أنه كان لهم شعور ما في تلك الأحوال سيما عند أخذ الميثاق، ولكنه لم يبق لهم  ذلك، لا علماً ولا شعوراً، كما بقي له صلى الله عليه وسلم .

وقد كانت الذرية في ظهر آدم لا محالة حتى في الجنة، ويدل عليه ما ذكر في حديث الشفاعة "وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم". وفي محاجة موسى لآدم عليهما السلام : "أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بخطيئتك". الحديث، وورد أيضاً: إن الله تعالى لما استخرج الذرية من ظهر آدم عليه السلام، فرأتهم الملائكة  عليهم السلام، وقد ملئوا السهل والوعر، قالوا: يا ربنا لا تسعهم الدنيا، فقال  الله تعالى: إني جاعل موتاً، فقالوا : إذاً لا يهنؤ هم العيش، فقال تعالى: إني جاعل أملا.
وورد أيضاً: أن الله لما استخرج الذرية من ظهر آدم عليه السلام، فرأى منهم واحداً جميل الصورة، فسأل عنه فقيل له: هو ولدك داود عليه السلام، فسأل آدم ربه: كم كتبت لداود من العمر؟ قال تعالى : ستين سنة. فسأل ربه تعالى له الزيادة من العمر فقال سبحانه وتعالى: هذا الذي كتبت له. فقال آدم عليه السلام : أزد له من عمري أربعين سنة، وكان الله سبحانه قد كتب لآدم من العمر ألف سنة. والحديث معروف ومشهور.
ولما رأى موسى عليه السلام في التوراة، أمة موصوفة بأوصاف حميدة، ومنعوتة بنعوت كريمة، سأل عن تلك الأمة ربه: من هي؟ وأي نبي نبيها؟ وأن يجعلها أمته. فقال الله تعالى : هي أمة أحمد، صلوات الله وسلامه عليهما. فسأل ربه: أن يظهر تلك الأمة له. فأظهرها له سبحانه وتعالى. ولعل هذا الخبر يأتي بتمامه في آخر هذا العمر. وهو مذكور في بعض التفاسير عند قوله : (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا )  القصص:28/46. الآية .
فتبين بما ذكرناه، وبما لم نذكره، مما في معناه: أن للذرية وجوداً قبل بروزها إلى هذا العالم الدنيوي. وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجوداً وظهوراً في ذلك أتم وأكمل.
وقد أشار إليه العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنه، في أبيات له يمتدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. منها: قوله:
من قبلها طبت في الظلال وفي                           مستـودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البـلاد لا بـشـر                      أنـت ولا مضغـة و لا عـلق 
بل نطفة تركب السفين وقـد                             ألجم نسـراً وأهـلـه الغـرق
تنقل من صـلب إلى رحـم                      إذا مضـى عـالم بـدا طـبق
إلى أن قال :
حتى احتوى بيتك المهيمن من                           خنـدف عليـاء دونها النطـق   
ونسر: من أصنام قوم نوح عليه السلام. وخندف: امرأة إلياس بن مضر، وهي جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروي أن آدم صلى الله عليه وسلم ، كان يسمع تسبيح نور رسول الله صلى الله عليه وسلم، نشيشاً في ظهره كنشيش الطائر. فلما حملت حواء بـشيث، عليهما السلام، انتقل ذلك إليها، ثم إلى شيث عليه السلام، ثم لم يزل ينتقل ذلك النور في الأصلاب الطاهرة، والأرحام الزاهرة، إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بين أبويه الكريمين، لم يصبه شئ من أدناس الجاهلية وأقذارها، وقد كانت لهم أنكحة باطلة، طهره الله منها صلوات الله عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح .
وفي تفسير قوله تعالى : [ الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ] الشعراء:26/218-219  عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ذلك انتقاله عليه أفضل الصلاة والسلام، من صلب نبي إلى نبي آخر، مثل إسماعيل وإبراهيم ونوح وشيث وآدم، عليهم السلام. وهذا لا خلاف فيه.
وأما التقاؤه صلوات الله وسلامه عليه بآدم في السماء الدنيا، فذلك ليلة المعراج، وو صلوات الله عليه في عمره الدنيوي، وآدم في البرزخ.
وأما الأسودة التي رآها عن يمين آدم وعن شماله، فسأل عنها قيل: إنها نسم بنيه. فيحتمل أنهم الذين قد ماتوا وظهرت أعمالهم المميزة لهم ويحتمل غير ذلك.
وأما التقاء موسى عليه السلام بآدم، حيث حاجّه، فيحتمل أن يكون وهما في البرزخ جميعاً، ويحتمل غيره. والله أعلم بحقيقة الحال.
                          

خاتمة هذا العمر
فيما وقع به الوعد من إيراد ذلك الخبر
أو الأثر المذكور بتمامه ، في صفة الأمة المحمدية .

قال وهب بن منبه، رحمة الله: لما قرأ موسى عليه السلام الألواح، وجد فيها فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رب ما هذه الأمة المحمدية التي أجدها في الألواح ؟
قال: هم أمة أحمد، يرضون مني باليسير من الرزق أعطيهم إياه، وأرضى منهم باليسير من العمل، أدخل أحدهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
قال: فإني أجد في الألواح أمةً يحشرون يوم القيامة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد، أحشرهم يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء و السجود.
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمةً أرديتهم على ظهورهم، وسيوفهم على عواتقهم، أصحاب توكل ويقين، يكبرون على رؤوس الصوامع، يطلبون الجهاد بكل حق،حتى يقاتلون الدجال فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد .
قال:يا رب إني أجد في الألواح أمةً يصلون في اليوم و الليلة خمس صلوات، في خمس ساعات من النهار، وتفتح لهم أبواب السماء، وتنـزل عليهم الرحمة، فاجعلهم أمتي.
قال : هم أمة أحمد .
قال:يا رب إني أجد في الألواح أمة، تكون الأرض لهم مسجداً وطهوراً، وتحل لهم الغنائم، فاجعلهم أمتي.
قال : هم أمة أحمد .
قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يصومون لك شهر رمضان، فتغفر لهم ما كان قبل ذلك، فاجعلهم أمتي.
قال : هم أمة أحمد .
قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يحجون لك البيت الحرام، لا يقضون منه وطراً، يعجون بالبكاء عجيجاً، ويضجون بالتلبية ضجيجاً، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : فما تعطيهم على ذلك؟
قال : أزيدهم المغفرة، وأشفعهم فيمن وراءهم.
قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة سفهاء، قليلة أحلامهم، يعلفون البهائم، ويستغفرون من الذنوب، يرفع أحدهم اللقمة إلى فيه، فلا تستقر في جوفه حتى يغفر له، يفتتحها باسمك، ويختمها بحمدك، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون يوم القيامة، وهم الآخرون في الخلق، رب اجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في الصدور يقرءونها، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة، إذا هم أحدهم بحسنة يعملها، فلم يعملها، كتبت له حسنة واحدة. إن عملها كتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.
قال : تلك أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هّم أحدهم بالسيئة، ثم لم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي .
قال : تلك أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم خير الناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة، يحشرون يوم القيامة على ثلاث ثلل : ثلة يدخلون الجنة بغير حساب، وثلة يحاسبون حساباً يسيراً ، وثلة يمحصون ثم يدخلون الجنة ، فاجعلهم أمتي .
قال : هم أمة أحمد .
قال موسى : يا رب بسطت هذا الخير لأحمد و أمته، فاجعلني من أمته .
قال الله : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
  وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوماً لأصحابه : ما تقولون في الآية : [ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ]. القصص 28/46
فقالوا : الله ورسوله أعلم .
فقال : لما كلم الله موسى عليه السلام قال : يا رب هل خلقت خلقاً أكرم عليك مني ؟ اصطفيتني على البشر ، وكلمتني بطور سيناء .
قال : يا موسى أما علمت أن علمت أن محمداً أكرم عليّ من جميع خلقي . وإني نظرت في قلوب عبادي ، فلم أجد قلباً أشد تواضعاً من قلبك . فلذلك اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فمت على التوحيد و على حب محمد صلى الله عليه وسلم .
قال موسى : يا رب فهل في الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام ، وأنزلت عليهم المن و السلوى .
فقال الله تعالى : يا موسى أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم ، كفضلي على جميع خلقي.
قال موسى : يا رب أفأراهم ؟
قال : لم تراهم ، ولكن إن أحببت أن تسمع كلامهم فعلت .
قال : فإن أحب ذلك .                     
قال : الله تعالى : يا أمة محمد . فأجابوا كلهم بصيحة واحدة يقولون : لبيك اللهم لبيك ، وهم في أصلاب آبائهم .
ثم قال الله تعالى : صلاتي وسلامي عليكم ، ورحمتي سبقت غضبي ، وعفوي سبق عذابي . وإني قد غفرت لكم قبل أن تستغفروني، واستحببت لكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني . فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، غفرت له ذنوبه ، فأراد الله أن يمن عليّ بذلك ، فقال تعالى : [ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ] القصص 28/46 أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم . انتهى.
ذكره الشيخ العارف عبد العزيز الديريني رحمة الله في طهارة القلوب .


















العمر الثاني
 




















العُمرُ الثّاني

وَهوَ مِنْ حِين خُروج الإنسَان من بَطن أمِّه بالوَضْعِ
إلى حِين خُروجهِ مِنَ الدّنيَا بالمَوت.

  وهذا هو أوسط الأعمار و مقصودها ، وفيه مدة التكليف بالأمر و النهي الإلهين اللذين عليهما يترتب الثواب و العقاب و النعيم المؤبد ، في جوار الله عز وجل، أو العذاب المخلد والبعد عن الله عز وجل .
  والناس مختلفون في هذا العمر اختلافاً كثيراً ، من حيث المدة بالطول و القصر من حيثيات أخر، ولهذا العمر مقدمة تشبه البرزخ الأخروي ، الذي تظهر فيه جمل أمور الآخرة ، التي يقع بها التفضيل بعد البعث ، ويبقى فيه شئ من معاني أمور الدنيا التي كانت مع الإنسان قبل موته .
وهذه المقدمة التي ذكرناها لهذا العمر ، هي مدة الحمل ، لأنه يظهر فيه شئ من معاني أمور الدنيا التي تظهر على الإنسان، بعد خروجه من بطن أمه ، ويبقى فيه شئ من معاني الإنسان في الأصلاب و الأرحام ، التي كان ينتقل فيها من قبل ظهوره في بطن أمه بالحمل .
وقد ذكر الله هذا الأمر، أعني الحمل وما فيه من تلك المظاهر و الأطوار في غير ما آية من كتابه العزيز. قال الله تعالى : [ ولقد خلقنا الإنسان من سلاسة من طين ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ] إلى قوله عز من قائل : [ فتبارك الله أحسن الخالقين] المؤمنون 23/12-14
وقال تعالى: [ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ] . الحج 22/5.
ووردت أحاديث في ذلك كثيرة ، عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ومن أجمعها أو هو أجمعها، حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، المذكور في الصحيحين قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : (( أن أحدكم  يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح. ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه،  وأجله ، و عمله ، وشقي أو سعيد . فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ،  حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه كتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )) رواه البخاري و المسلم .
وفي هذا الحديث الصحيح، ما يوجب عظيم الخوف للمطيعين المحسنين، فضلاً عن العاصين المسيئين .
  ثم إن الإنسان يمكث في بطن أمه إلى وقت أن يشاء الله خروجه منها لأقل الحمل أو أكثره أو غالبه وهو تسعة أشهر فإذا خرج من بطن أمه فذلك أول عمره الدنيوي .
  وقد ذكر الله ابتداء هذا العمر في كتابه ، وتنقل الإنسان فيه من طور إلى طور، ومن حال إلى حال. قال الله تعالى : [ ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ] الحج 22/5. وفي الآية الأخرى : [ ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون ]. غافر 40/ 67 والآيات في هذا المعنى كثيرة .
فالإنسان في هذا العمر، ينتقل من حال طفولية إلى حال بلوغ بالسن أو الاحتلام، ثم إلى حال شباب، ثم حال كهولة، ثم حال شيخوخة وكبر إلى ما شاء الله ، من حال هرم وخرف ، على وفق ما ذكر الله في كتابه .
فإذا وضع الإنسان من بطن أمه، استهل صارخاً. وذلك من لكزة الشيطان لعنة الله، التي لم يسلم منها إلا عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام ، وذلك أن الله أعاذهما منها ، بقول أم مريم
زوجة عمران : [وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ] آل عمران 3/36. كما ذكر ذلك في الحديث، وإن إبليس جاء ليطعن فوقعت طعنته في الحجاب .
ومن السنة المأمور بها : أن يؤذن في أذن المولود اليمنى، ويقام للصلاة في أذنه اليسرى، تذكيرا ًله بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وهي التوحيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولدعلى الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وقال الله تعالى : [ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله  التي فطر الناس عليها ] . الروم 30/30
فمن الأمر المؤكد على الأبوين، أن يحفظا المولود من كل شئ يخرج به عن حد الفطرة ، ويحسنا تربيته ، ويجتهدا في ذلك، ويجنباه المراضع السوء ؛ فإن الرضاع يغير الطباع كما في الحديث .
وعليهما أن يغرسا في قلبه تعظيم شعائر  الدين ، وحرمات الله ومحبة الخير ، ومحبة العمل به ، ومحبة أهله ، ويرغباه فيه ، ويحثاه عليه ، ويبغضا إليه الشر والعمل به ويبغضا إليه أهله والعاملين به ، وأن لا يزرعا في قلبه حب الدنيا و شهواتها ، والميل إلى التنعم بها ، ولا يعيناه على ذلك ، ولا يساعداه عليه، ولا يسعفاه به . فإن ذلك من الإساءة إليه و العدول به عن شاكلة الاستقامة .
وعليهما أن يأمراه بالصلاة، وبما أطاق من الصوم، إذا بلغ سبع سنين، ويضرباه على ترك ذلك إذا بلغ عشر سنين، ويمنعاه من قرناء السوء وخلطاء الشر، ومن الغالب عليه الفضول و الغفلة، من صغير أو كبير، ويزيدا في تعهده، وحسن النظر عليه، مهما ظهرت فيه مخايل التميز ، ولا يدعاه يقول ولا يفعل إلا المليح المستحسن، ليقع نشوءه على ذلك ، ويرسخ فيه تعود العادات الحسنة ، فيتيسر عليه العمل بذلك في كبره؛ فإن الخير عادة، وأكثر وظائف هذا الحين من هذا العمر ، يتعلق القيام بها بالآباء و الأولياء .
ومن المهم حفظ الصبي من الصبيان الذين ليسوا من أولاد أهل الخير، ولا من المغارس الطيبة. فقد قيل : أكثر فساد الصبيان من بعضهم لبعض .
وقد ذكر الإمام حجة الإسلام رحمة الله  في كتاب رياضة النفس من الأحياء بياناً كافياً شافياً في رياضة الصبيان، وكيفية العمل في حسن تربيتهم .
وهذا الوقت الذي هو من حين الوضع إلى حين البلوغ، حال تخفيف من الله عز وجل ، ليس فيه تكليف على الصبيان، بصلاة ولا بصوم، ولا بغيرهما من التكاليف الشرعية ، إلا ما كان على الأولياء من الأمر بذلك .
وفي الحديث : (( رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق )) . وذلك منّ من الله وفضل ولطف وتخفيف . وأعمال الطفل من الطاعات التي تكون قبل البلوغ في صحائف أبويه من المسلمين .
ومهما أحسنا في تربيته والقيام عليه كما ينبغي فالمرجو من فضل الله أن لا يخيبهما من ثواب أعماله الصالحه وطاعاته بعد البلوغ ، بل المرجو من فضل الله أن يكون لهما منها مثل ثوابه .
ويشهد لذلك ما ورد من الأحاديث في الدعاء إلى الهدى والدلالة على الخير فإنهما قد دعواه إلى الهدى، ودلاه على الخير، مهما أخذا في حقه بنحو ما ذكرناه من الإحسان في تربيته، وأمره بالخير، وترغيبه فيه ، ونهيه عن الشر وزجره عنه والله أعلم .
فإذا بلغ الطفل وهو عاقل ، فقد صار مكلفاً ، وتوجه عليه الخطاب ، والمطالبه من الله ، بالأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، وأمر الله الحافظين الكريمين من الملائكة ، أن يكتبا له الحسنات ، وعليه السيئات ، أحدهما عن يمينه ، وهو صاحب الحسنات ، والآخر عن شماله وهو صاحب السيئات .
قال الله تعالى : [ وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون] الإنفطار 82/10-12وقال الله تعالى : [إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد].  ق 50/17-18 وقد أمرا أن يحفظا عليه جميع أقواله وأفعاله، من الخير والشر مدة حياته إلى أن يموت ، ثم يحضرا معه يوم القيامة ، حين يقف بين يدي الله فيشهدا له وعليه. قال الله تعالى : [وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد] . ق 50/21
وعلى الأب والولي إذا بلغ الطفل، أن يجددا عليه التذكير بعلوم الإيمان ، وعلم الأمر والنهي، إن كان قد سبق عليه منهم التعريف لذلك ، والتذكير به قبل البلوغ فإن هذا الذي صار إليه طور آخر . وله فيه شأن آخر .
وهو إن كان قد بلغ وصار مكلفاً ومخاطباً بأمر الله ، فهو محتاج مع ذلك إلى زيادة الحث منهما ، والتذكير والتعريف بما ذكر ، وبما في معناه من الأمور التي قد توجهت عليه ، من وجوب الفرائض ، من الصلوات والصيام ، وترك المحارم ، من الزنا واللواط ، وشرب الخمر ، وأكل أموال الناس بالباطل ، من الربا والغصب والخيانة ، وغير ذلك .
وإن كانت هذه الأشياء مما يلزم البالغ العاقل طلب علمها بنفسه ، إن لم يكن قد علمها من قبل البلوغ فإنه بقي على الآباء والأولياء ، أن يحثوه ويحرضوه على علم ذلك وعلى العمل به تذكيرا ونصيحة إما على الوجوب وإما على الندب المتأكد يختلف ذلك باختلاف أحوال الآباء وأحوال الأولاد .
فإذا بلغ الطفل فقد دخل ببلوغه في أول طور الشباب من العمر ، وهو منه حال نشاط وإقبال القوة ، وأقمنها وأجدرها باكتساب الحسنات ، والعمل بالصالحات ، وإجتناب السيئات والأعمال المنكرات، لما فيه من توافر النشاط واستكمال القوة وإقبال العمر ، ولكنه شأن مخطر وحال مخوف، الغالب فيه على كثير من الشباب أو أكثرهم الميل إلى الشهوات الدنيوية ، والإيثار للذات العاجلة والتكاسل عن الطاعات والخيرات ، والأعمال الصالحات .
ويعز من الشباب وجود المستقيم على الطاعة ، الراغب في الأعمال الصالحة ، التارك لشهوات الدنيا ولذاتها الفانية .
ولذلك ورد في الحديث : عجب ربك من شاب لا صبوة له. وعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبعة اللذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، شابا نشأ في عبادة الله .
وروي عن الله أنه قال : أيها الشاب التارك شهوته من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي، فيتعين على الشاب ، ويتأكد غاية التأكد أن يتحفظ على شبابه أن يوقعه في سخط الله وأليم عقابه ، وليجعله وسيلة له وسلماً ، موصلاً إلى نيل رضوان الله وعظيم ثوابه ، وليمتثل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أشفق علينا وأرحم بنا من أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا، حيث يقول : (( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك )) .  
وقال صلوات الله عليه : ((لا تزول قدما عبد ، أي من موقف القيامة ، حتى يسئل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن شبابه فيما أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيما أنفقه ؟)) الحديث .
والشباب هو الزمن الذي يمكن فيه تحصيل الفضائل ، واقتناص العلوم ، ونيل مراتب السيادة والرياسة الدينية وغيرها ، حتى قال القائل ، مشيراً إلى ذلك :
إذا بلغ الفتى عشرين عامـاً                     وأعجـزه الفخـار فلا فخـار
وقال آخر :
إذا لم تسد في ليالي  الشباب                            فلا سدت ما عشت من بعدهنه
وهل جل عمرك إلا الشباب                             خـذ الحظ منـه ولا تهملنـه
وكان الرجال من السلف الصالح اللذين طالت أعمارهم في سبيل الله وطاعته، يحضون الشباب ، ويحثونهم على اغتنام شبابهم . ويقولون لهم : اغتنموا شبابكم من قبل أن تصيروا  إلى مثل حالنا هذا ، يعنون الكبر والضعف والعجز ، عن كثير من الأعمال الصالحة، مع أنهم في أحوالهم تلك، كانوا يسبقون الشباب في السعي إلى الله ، والجد والتشمير في طاعته .
ثم ينتقل الشاب من حال الشباب إلى حال الكهولة، وفي هذا الحال استواء العمر ، وبلوغ الأشد .
وقد قسم ابن الجوزي   العمر إلى خمسة مواسم فقال :
الموسم الأول : الصبا ، وهو إلى أن يبلغ الإنسان خمس عشرة سنة .
والثاني : الشباب ، وهو إلى أن يبلغ الإنسان خمس وثلاثين سنة .
والثالث : الكهولة ، وهو إلى أن يبلغ الإنسان خمسين سنة .
والرابع : الشيخوخة ، وهو إلى أن يبلغ الإنسان سبعين سنة .
والخامس : الكبر ، وهو إلى آخر العمر . انتهى بمعناه .
وقد قسم غيره من العلماء رحمهم الله تعالى، إلى قريب أو نحو ما ذكره .
وبعد بلوغ الأشد واستواء العمر ، ينتظر من الله إتيان الحكم والعلم لأهله ، وتغلب الإنابة والرجوع إلى الله ، على العبد الموفق ، الملحوظ بعين الله ، قال الله تعالى : [ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين]  القصص 28/14. وقال الله تعالى : [حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه] الآية  الأحقاف 46/15.
وعلى رأس الأربعين من سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوحى الله إليه، وأرسله كافة للناس بشيراً ونذيراً  .
ويكاد يتبين في هذا السن الذي هو سن الكهولة، ما الإنسان مراد به وله ، من الخير والشر والصلاح والفساد ، بأمارات وعلامات تلوح على الإنسان، وتغلب عليه ، حتى إنه بلغنا أن الإنسان إذا بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره، يمسح الشيطان وجهه ويقول : بأبي وجه لا يفلح .
ويقال أيضاً : من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره، فليتجهز إلى النار .
والأربعون : هو العمر الذي قال الله تعالى فيه : [أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير] فاطر 35/37  في أحد الأقوال. وقيل : هو الستون . ورجح .
وقال الشيخ العارف عبد الوهاب بن أحمد الشعراني في  ( البحر المورود ) : أخذ علينا العهود إذا بلغنا من العمر أربعين سنة أن نطوي فراش النوم إلا غلبة. ولا نغفل عن كوننا مسافرين إلى الآخرة في كل نفس، حتى لا يكون لنا في الدنيا قرار قط. وأن نرى الذرة الواحدة من عمرنا بعد بلوغ الأربعين، تعدل مائة عام قبل ذلك. وكذلك لا يكون لنا بعد الأربعين راحة، ولا مزاحمة على وظيفة، ولا فرح بشىء من الدنيا . كل ذلك لضيق العمر بعد الأربعين، وعدم مناسبة الغفلة والسهو واللعب لمن أشرف على معترك المنايا .
وقد كان الإمام مالك يقول : أدركنا الناس وهم يتفقهون إلى الأربعين، فإذا بلغوا أربعين سنة، اشتغلوا بالعمل بما علموا ، ولم يبق لهم فراغ إلى الالتفات لشيء من الدنيا .

ولما بلغ الإمام الشافعي رحمه الله  أربعين سنة، صار يمشي على العصا، فإذا قيل له في ذلك يقول : لأذكر أني مسافر. انتهى. ووالله إني صرت أرى نفسي الآن مثل الطائر المحبوس في القفص، فخرج كله من القفص إلى الهواء، وصار معوقاً بكعبه في القفص فقط، فحكمي الآن كذلك ليس عندي بقايا شهوة للإقامة في الدنيا، وليس أحد من أصحابي في حل أن يعطيني شيئاً من الدنيا صدقة، أو يذكر لي شيئاً من أحوالها، إلا ما يلزمني شرعاً، وبيني وبينه الله، إن ذكر لي شيئاً منها غير ما لزمني، وأقول : حسبي الله والله يجعل كل إخواني كذلك ، آمين . انتهى .
وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى، قرأت في بعض الكتب : أن مناديا ينادي من السماء الرابعة كل صباح : أبناء الأربعين أنتم زرع قد دنا حصاده أبناء الخمسين ماذا قدمتم ؟ وماذا أخرتم ؟ أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة خذوا حذركم .
ثم ينتقل الكهل من حال الكهولة إلى حال الشيخوخة. وهو من الخمسين إلى السبعين على ما ذكره ابن الجوزي . وقد قال الله تعالى : [ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون] . غافر 40/67
وفي هذا السن من هذا العمر، تظهر على الإنسان أوائل الضعف، وتراجع القوى، والتراجع: رجوع الشيء إلى ورائه فيرجع بعد القوة إلى الضعف، وفيه الوقت الذي سماه صلى الله عليه وسلم معترك المنايا وهو من الستين إلى السبعين .
وقد قال الله عليه الصلاة والسلام : حصاد أمتي بين الستين والسبعين . وفي ذلك السن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه توفي وسنه ثلاث وستون على الصحيح. وكذلك أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم .
وأما عثمان رضي الله عنه فعاش إلى أن جاوز الثمانين . وقد قال الله تعالى : [ أولم نعمركم ما يتذكّر فيه من تذكر  وجاءكم النذير] فاطر 35/37  فقيل : إن ذلك العمر هو الستون كما سبق .
و النذير هو القرآن أو الرسول أو الشيب. وفي الحديث : أعذر الله إلى امرئ أخر الله أجله حتى بلغ الستين. ومعنى أعذر الله إليه ، أي لم يترك له عذراً يعتذر به في أنه عاجله الأجل، وقصرت به مدة العمر .
ثم إن هذه الأمة من أقصر الأمم أعماراً، وقد كان الرجل من الأمم السابقة يعمر الألف وما قاربها أو زاد عليها.
قال بعض العلماء : كان المحتلم من الأمم السالفة لا يحتلم حتى يجاوز الثمانين . وروي أن بعض بني آدم توفي لمائتي سنة ، فترحمت عليه الخلائق لقصر عمره . وروي أن إبراهيم الخليل عليه السلام . اختتن وهو ابن ثمانين سنة، حين أمره الله بالاختنان .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استقصر أعمار أمته من بين سائر الأمم، سأل الله لهم وتضرع إليه، من حيث إنه إذا قصرت أعمارهم ، لم تطل أيامهم في طاعة الله، أي والعمل لآخرتهم ، فتقل بسبب ذلك حظوظهم من ثواب الله والدرجات العلا ، فأطاعاه الله ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، تطويلاً لأعمارهم ، وتضعيفاً لثوابهم وحسناتهم ، حتى يصير الواحد منهم إذا قام فيها بطاعة الله يصير كأنه قام ألف شهر، وذلك أكثر من ثمانين سنة .
فمن قام في ليلة القدر اثنتى عشرة سنة، كان كمن عاش في طاعة الله ألف سنة أو أكثر، فتأمل حساب ذلك، فإنه ظاهر وذلك الذي أعطاه الله هذه الأمة ببركات رسوله، وعظم كرامته عليه ومن شدة اعتنائه صلى الله عليه وسلم بأمته وحرصه على حب الخير لها .
وفي هذا السن الذي هو الشيخوخة، يغلب على الإنسان الرجوع إلى الله، وشدة العناية بالتزود للآخر، والزهد في الدنيا وغاية التشمير، والجد في العمل بالطاعة لمن وفقه الله، وهو وقت الوقار و الخشوع، و مجانبة اللهو والهزل بالمرة .
ولذلك كان الذي يميل من المشايخ إلى خلاف ذلك، مستقبح الحال سيء الطريقة ، مستنكر السيرة .
وفي الحديث الصحيح : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . فعد منهم الشيخ الزاني. فصارت هذه الفاحشة القبيحة من كل أحد ، أقبح منه وأفحش، لما هو عليه من كبر السن. وكونه في مظنة الخوف من الله تعالى و الخشية، وحال الوقار و الحياء من الله تعالى.
وفي هذا السن، يغلب ظهور الشيب ويعم، وهو نور المسلم كما ورد ، وفي الحديث : من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً .
وقد بلغنا أن أول من شاب إبراهيم الخليل عليه السلام فلما رأى الشيب قال : يا رب ما هذا ؟ فقال له ربه : هذا هو الوقار، فقال: رب زدني منه .
والشيب مذكر، أي مذكر بقرب الأجل ، وطيّ بساط الأمل ، ومؤذن بقرب الرحيل ، وسرعة التحويل . ويقال : الشيب مظنة الأجل، وطريدة الأمل ويقال أيضاً : ما أقبح غشيان اللمّم إذا ألم الشيب باللمّم .
وقال الخطيب بن نباته : ألا إن الشيب ثغر الحياة الذي لا يمكن سداده، ولا يصلح الدهر فساده، وهو نور طالع بأفول النسم سائر بالأشخاص إلى محل الرمم، فلا تحرقوا –رحمكم الله – نور مشيبكم بنار ذنوبكم . انتهى .
وقال عليه السلام : قال الله تعالى : وعزتي وجلالي وفاقة خلقي إلي أني لأستحي من عبدي وأمتي يشبان في الإسلام أن أعذبهما ، ثم بكى فقيل : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : أبكي ممن يستحي الله منه، وهو لا يستحي من الله .
ومن المندوب إليه توقير ذي الشيبة المسلم ، وقال عليه الصلاة و السلام: (( من إجلال الله إجلال الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، والإمام المقسط وهو العادل)).
وقال عليه الصلاة و السلام : (( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر )) . وقال عليه الصلاة والسلام : (( ما وقر شاب شيخاً إلا قيض الله له في سنه من يوقره )) .
وقال الإمام الغزالي رحمة الله تعالى : وفي ذلك بشارة بطول العمر مع ما فيه من الأجر . انتهى .
ويستحب تغيير الشيب و خضابه : إما بالصفرة، وإما بالحمرة، ويحرم بالسواد إلا لمجاهد في سبيل الله، إرهاباً للكفار، وتهييباً لهم .
ثم ينتقل الإنسان من حال الشيخوخة إلى حال الهرم والكبر، وهو من السبعين إلى آخر العمر على ما قاله ابن الجوزي، ولا يزال يسمى الإنسان شيخاً وإن جاوز ذلك السن إلى أن يموت .
وفي هذا السن من العمر، يستولي على الإنسان الضعف، ويغلب عليه وعلى جميع حواسه وجوارحه وقواه. قال الله تعالى : [ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ] . الروم 30/45
ومنه يرد إلى أرذل العمر الذي قال فيه عز من قائل : [ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ]  الحج 22/5 وهو الخرف، واضطراب العقل، ومنه استعاذ عليه السلام فقال في دعائه: وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر. واستعاذ من سوء الكبر في غير ما حديث.
ويقال في الزبور: من بلغ السبعين اشتكى من غير علة. وروي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قالوا : يا رسول الله ما أعمار أمتك ؟ قال ((مصارعهم ما بين الستين إلى السبعين)). قالوا: يا رسول الله فأبناء السبعين، قال: قلَّ من يبلغها من أمتي. فرحم الله أبناء السبعين. ورحم الله أبناء الثمانين. وقد قيل :
إذا كانت السبعون داءك لم يكن                        لدائك إلا أن تموت طبيـب
وإن أمرءاً قد سـار سبعين حجة                         إلى منهل من ورده لقريب
وقيل أيضاً :
وما صاحب السبعين والعشر بعدها                     بأقرب ممن حنكته  القوابل
ولكن  أمالا   يـؤملهـا    الفتى                           وفيهن للراجين حق وباطل
وقيل أيضاً :
من  عاش   أخلقت   الأيام   جدته                 وخانه  ثقتاه  السمع  والبصر       
وقيل أيضاً :
تمر   بنا   الأيـام  تترى    وإنما                          نساق إلى  الأجداث والعين تنـظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى                     ولا  زائل   هذا  المشيب   المكدر
وقيل أيضاً :
لذة العيش صحة وشباب                      فإذا  وليا  عن  المرء   ولى
وإذا الشيـخ  قال  أفٍ فما ملّ                الحياة وإنما الضعف ملا
ودخل معن بن زائدة على المأمون. فقال له : إلى أي حال صيرك الكبر ؟ قال له : إلى أن أعثر ببعرة وتقيدني شعرة. قال: كيف حالك في المأكول و المشروب والنوم ؟ قال : إن جعت جردت وإن أكلت ضجرت، وإن كنت في ملأ نعست وإذا صرت إلى فراشي أرقت. قال : كيف حالك مه النساء  ؟ قال : أما القباح فلست أريدهن، وأما الملاح فلسن يردنني، قال : لا يحل أن يتشاب مثلك، أضعفوا رزقه وألزموه منزله، تركب الناس إليه ولا يركب إلى أحد. انتهى  ذكره في ربيع الأبرار .
وأعلم أن طول العمر في طاعة الله تعالى، محبوب ومر غب فيه. قال عليه السلام : خيركم من طال عمره وحسن عمله .
وقال عليه الصلاة والسلام : لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسن فلعله يزداد وإما مسئ فلعله يستعتب، أي يتوب ويعتذر.
إلا أنه عليه الصلاة والسلام قد استعاذ من الرد إلى أرذل العمر، وهو الخرف واضطراب العقل، كما تقدم .
وخير العمر: بركته، والتوفيق فيه للأعمال الصالحة، والخيرات الخاصة و العامة. وقد يبارك الله لبعض عباده المصطفين في أعمارهم القصيرة، حتى تكون أكثر خيراً وأعم نفعاً من أعمار غيرهم الطويلة. مثل الإمام الشافعي رحمه الله، فإنه لم يبلغ من العمر إلا أربعاً وخمسين سنة. والإمام حجة الإسلام توفي وله من السن خمس وخمسون سنة. ومثل الإمام القطب الشريف عبدالله بن أبي بكر العيدروس باعلوي توفي وله أربع وخمسون سنة. ومثل الإمام النووي فإنه توفي وسنه دون الخمسين. ومثل الإمام الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز توفي وسنه دون الأربعين سنة.
وغير هؤلاءمن الأئمة كثير، لم تطل أعمارهم، وقد نشرت لهم من الخيرات وجرت على أيديهم من البركات، ما عم في البلاد والعباد، ونفع الله بهم الحاضر والباد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وهذه الأمة المحمدية عظيمة البركة، ولها من الله مكانة ليست لغيرها من الأمم، وهي بأسرها قصيرة الأعمار والمدة بالنسبة إلى غيرها من الأمم الماضية، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
ثم إن آخر هذا العمر الذي هو الكبر، أن يمرض الإنسان فيموت، هذا هو الغالب، أو يموت بغير مرض. وذلك نادر وهو مع ندرته واقع، وإنما ندرته بالنسبة إلى غلبة من يموت عن مرض .
قال حجة الإسلام، في أثناء كلام ذكره في الإحياء، في الاحتراز من طول الأمل، ونسيان قرب الأجل. فإن قلت : فإن الموت في الأكثر لا يكون إلا عن مرض وقلّ ما يكون فجأة، فاعلم أن الموت قد يكون فجأة، فإن لم تمت فجأة فإن المرض لا يكون إلا فجأة، وإذا مرضت عجزت عن الأعمال الصالحة التي هي زاد الآخرة. انتهى بمعناه .
واعلم أن قصر الأمل، والإكثار من ذكر الموت، أمر مرغب فيه، مندوب إليه، وأن طول الأمل، ونسيان الموت أمر مكروه، قد ورد التحذير عنه. قال الله تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله . ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون . وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ] . المنافقون 63/9-11
وقال تعالى : [ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ]. الحديد 57/16
وقال تعالى : [ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ]  الجمعة 62/8 الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات )) الحديث . 
وسئل عليه السلام : هل يحشر  مع الشهداء أحد غيرهم ؟ فقال : ((من يذكر الموت في كل يوم وليلة عشرين مرة )).
وسئل عليه السلام عن الأكياس من الناس من هم ؟ فقال: ((أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً. أولئك الأكياس،  ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)) وقال عليه السلام: (( الموت أقرب غائب ينتظر )) الحديث .
فإذا كان الموت أقرب غائب ينتظر، كان الحزم والأخذ بالأحوط، هو الاستعداد له والتهيؤ لمجيئه في كل حال ووقت  يمكن مجيئه وقدومه فيه، وجميع الأحوال و الأوقات، يمكن مجيئه وهجومه فيها .
قال الإمام حجة الإسلام ، رحمه الله في البداية : واعلم أن الموت لا يهجم في وقت مخصوص، وحال مخصوص، وسن مخصوص، ولابد من هجومه، فالاستعداد له أولى من الاستعداد للدنيا .
وقال أيضاً في موضع آخر من البداية : ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل وحلول الموت القاطع للأمل، وخروج الأمر عن الاختيار، وحصول الحسرة والندامة، بطول الاغترار. انتهى .
  وقد كان السلف الصالح، من لو قيل له: إنك ميت غداً، لم يجد موضعاً للزيادة من العمل الصالح، لما هو عليه من غاية الإقبال على الآخرة، والاشتغال بالأعمال الصالحة .
 وقال بعضهم لبعض من استوصاه: انظر فكل شئ تحب أن يأتيك الموت وأنت تعمله فالزمه الآن، وكل شيء تكره أن يلقاك الموت وأنت تعمله، فاتركه الآن .
وفي الحديث : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وعد نفسك في أهل القبور)). وقال عليه السلام : ((مالي وللدنيا، وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف، فرفعت له شجرة، فقال تحتها ساعة، ثم راح وتركها)). الحديث .
 وفي الإكثار من ذكر الموت، واستشعار قرب نزوله، فوائد جليلة، ومنافع كثيرة، منها الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير منها، وملازمة الأعمال الصالحة التي هي زاد الآخرة، ومجانبة السيئات والمخالفات، والمبادرة بالتوبة إلى الله تعالى منها، إن كان قد قارفها.
 وفي النسيان ذكر الموت، وإطالة الأمل، أضداد هذه الفوائد، وهذه المنافع، من شدة الرغبة في الدنيا، وشدة الحرص على جمع حطامها، والتمتع بشهواتها، والاغترار بزخارفها، وتسويف التوبة من الذنوب، والتكاسل عن الأعمال الصالحة.
 وقد قال السلف الصالح رحمهم الله : من طال أمله ساء عمله .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( ينجو أول هذه الأمة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالحرص وطول الأمل )) .  
وقال علي كرم الله وجهه : أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة. انتهى.
ولا خيربحال فيما ينسى الآخرة من الآمال،  وهو الأمل الذي استعاذ منه عليه الصلاة والسلام، فقال : أعوذ بك من كل أمل يلهيني. ومن دعائه صلوات الله عليه : وأعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، ومن حياة تمنع خير الممات، ومن أمل يمنع خير العمل.
فإذا غلب على قلب الإنسان استشعار طول البقاء في الدنيا، غلب عليه الاهتمام لها، والسعي لجمعها، حتى يغفل عن الاخرة وعن التزود لمعاده فيبغته الموت وهو على ذلك، فيلقى الله مفلساً من الأعمال الصالحة، فيندم ويتحسر، حيث لا ينفعه التحسر فيقول : [ يا ليتني قدمّت لحياتي ] ، و[رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ] .
ثم إذا مرض الإنسان فينبغي له أن يأخذ في التوبة، والإكثار من الاستغفار ومن الذكر لله، والاعتذار إليه من سالف إساءاته وغفلاته، فإنه لا يدري لعله يموت من مرضه ذلك، ولعله قد حضره الأجل، فيختم عمله وأيام عمره بالخيرات فإن الأعمال بخواتيمها.
والأمراض مذكرات بالآخرة، وبالرجوع إلى الله تعالى، وليوص بما يحتاج إلى الوصية به، مما يهمه من أمور آخرته ودنياه، سيما من حقوق الخلق وتبعاتهم، فإنها شديدة والخلاص منها عسير.
وليكن في مرضه على غاية ونهاية من حسن الظن بالله تعالى. قال عليه الصلاة والسلام : ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى )). وليكن ذلك هو الغالب على قلبه، والمستولي عليه، فإنه تعالى يقول : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني .
ودخل صلوات الله وسلامه عليه على مريض شاب يعوده فقال : كيف تجدك ؟ فقال : أرجو ربي، وأخاف ذنوبي، فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما اجتمعا في قلب مسلم في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو ، وآمنه مما يخاف )) .
ومع ذلك فينبغي أن يكون حال الرجاء هو الغالب على المريض ، سيما إذا ظهرت عليه علامات الموت، وقرب حضور الأجل، ليموت على حسن الظن بالله، وقوة الرجاء في كرمه وسعة رحمته وحب لقائه .
وفي الحديث : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه . وقد جاء في معناه : أن العبد المسلم إذا حضره الموت بشر برحمة الله وفضله فأحب لقاء الله ، وأحب الله لقاءه، وأن المنافق إذا حضره الموت بشر بعذاب الله ، فكره لقاء الله ، وكره الله لقاءه .
فالمؤمنون المتقون يبشرون برحمة الله عند خروجهم من الدنيا ، فتكاد أرواحهم أن تطير من أجسادهم شوقاً إلى ربهم وحب لقائه ، حين تسلم عليهم الملائكة ، وتبشرهم بدخول الجنة ، وأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قال الله تعالى : [ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون : سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ] .
وقال تعالى : [ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتـنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ] إلى قوله تعالى : [ نزلا من غفور رحيم ] .
وينبغي للمريض أن يحترز من النجاسات أن تصيبه في بدنه أو في ثيابه، فتمنعه من الصلاة ، وليحذر كل الحذر من ترك الصلاة، وليصل على حسب حاله، قاعداً  أو مضطجعاً ، أو كيف أمكنه، ولا يختم عمله بالإضاعة لعماد الدين الذي هو الصلاة .
وينبغي لمن حضره من أهله وأصحابه أن يحثوه على ذلك، ويعاونوه ويذكروه به .
وليعلم أن فرض الصلاة لا يسقط عنه ما دام عقله معه. وليكثر من قول : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فقد ورد أن من قالها أربعين مرة ومات من مرضه ذلك ، مات شهيداً . وليكثر من قراءة سورة الإخلاص .
ومن الكلمات التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن من قالها في مرضه ثم مات من ذلك المرض لم تطعمه النار، وهي لا إله إلا الله ، والله أكبر ، لا إله إ الله وحده لا شريك له ، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد ، لا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم إن المريض إذا غلب عليه المرض، وظهرت عليه أمارات قرب الموت، كان الذي ينبغي لحاضريه من أهله وأقاربه : أن ينظروا فإن رأوا عليه شيئاً من مخايل الجزع، وشدة الخوف ، فليذكروا له محاسن عمله، وسعة رحمة ربه، وعظيم عفوه عن المذنبين ، وتجاوزه عن المقصرين ، فقد كان السلف يستحسنون مثل ذلك، مع المحتضرين من حاضريه، وربما التمس المحتضر منهم مثل ذلك من حاضريه .
          ومن المتأكد المأمور به ، أن يلقنوه لا إله إلا الله لقوله عليه الصلاة والسلام : (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله . فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )) . فإذا قالها فلا ينبغي أن يعاد عليه، إلا إن تكلم بكلام آخر .
وينبغي أن يقرأ عليه سورة يس المباركة، لقوله عليه الصلاة والسلام : (( اقرءوا على موتاكم سورة يس )) . يقال : إن ذلك يسهل طلوع الروح . وللموت كرب وسكرات . وقد تسهل وتهون على بعض المؤمنين .
وفيما يروي عن ملك الموت عليه السلام أنه قال : إني بكل مؤمن شفيق رفيق . وقد يحضر الموتى في حال قبضهم أنواع من الفتن والعياذ بالله .
فلذلك ينبغي الإكثار لمن يحضرهم ، من قراءة القرآن ، وأحاديث الرجاء وذكر أحوال الصالحين عند خروجهم من الدنيا .
وفي بعض الآثار ، أن الشيطان لعنه الله ، أقرب ما يكون من العبد عند وفاته حرصاً منه على أن يفتنه، ولكن [إنما سلطانه على اللذين يتولونه واللذين هم به مشركون ] [يثبت الله اللذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء].
وقد اشتد خوف السلف الصالح ، رحمهم الله ، من سوء الخاتمة ، ولهم في ذلك أخبار وحكايات ، يطول ذكرها . وقد ورد في ذلك ما يقتضي الخوف البالغ ، مثل قوله عليه السلام : ((فوالذي لاإله  غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )) الحديث .
وقال عليه السلام: (( إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة )) ومثل ذلك كثير .
قالوا : وأكثر من يخشى عليه سوء الخاتمة ، والعياذ بالله ، المتهاون بالصلاة ، والمدمن لشرب الخمر ، والعاق لوالديه ، والذي يؤذي المسلمين ، وكذلك المصرون على الكبائر والموبقات ، الذين لم يتوبوا إلى الله منها ، ويكاد يدل لذلك قوله تعالى : [ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ] .
فينبغي للمسلم : أن يرجو من فضل الله ، أن لا يسلبه نعمة الإسلام ، من بعد أن أنعم عليه بها ابتداء من غير وسيلة منه ، ويخاف مع ذلك من التغير ، لتقصيره في الشكر على هذه النعمة التي هي أعظم النعم .
وقد كان بعض السلف يحلف بالله : أنه ما آمن أحد على إسلامه أن يسلبه إلا سلبه . وينبغي أن لا يزال سائلاً من الله تعالى ، متضرعاً إليه ، أن يرزقه حسن الخاتمة .
وقد ذكر عن إبليس ، لعنه الله أنه قال : قصم ظهري الذي يسأل الله حسن الخاتمة ، أقول : متى يعجب هذا بعمله أخشى أنه قد فطن.
اللهم إنا نسألك بنور وجهك ، وبحقك عليك ، حسن الخاتمة عند الممات ، لنا ولأحبابنا وللمسلمين، يا أرحم الراحمين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب ، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين .
ومن السنة أن يضجع المحتضر على يمينه ، مستقبل القبلة ، فإذا قضى نحبه ، فينبغي أن تغمض عيناه ، فإنه يشخص ببصره عند ذلك ، وفي الحديث : إن البصر يتبع الروح ، ويكثر عند ذلك حاضروه من الاستغفار له ، والترحم عليه ، والدعاء فإن الملائكة يؤمنون على ما يقولون ، وفي البكاء رخصة ، والصبر خير منه ، وأفضل .
  وأما النياحة والندب، وهو التعديد ، وطرح التراب على الرأس ، ولطم الخدود، وشق الجيوب ، فجميع ذلك محرم شديد التحريم وقد وردت الأحاديث الصحيحة  بالنهي عنه ، والوعيد عليه .
  ويكره تمني الموت والدعاء به ، لضر ينزل بالإنسان ، من مرض أو فقر أو نحو ذلك من شدائد الدنيا فإن خاف فتنة في دينه جاز له تمنيه، وربما ندب ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لابد فاعلاً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي )) . وقال عليه السلام : (( لا يتمنين أحدكم الموت إما محسن فلعله يزداد، وإما مسئ فلعله يستعتب )) أي يتوب ويعتذر .
ثم إن الموت أمر مكتوب على جميع الأنام، وقضاء محتوم بين الخاص والعام، وقد سوى الله فيه بين القوي والضعيف، والوضيع والشريف، وقهر به الجبابرة ، وقصر به القياصرة ، وكسر به الأكاسرة. وجعله للمؤمنين المتقين تحفة، وأي تحفة، وزلفة وأي زلفة، وللكافرين والمنافقين حسرة، وأي حسرة وأخذة وأي أخذة .
فسبحانه من ملك جبار منفرد قهار ، قد توحد بالدوام والبقاء ، وتنزه عن الموت والفناء ، فهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء ، قال عز من قائل : [كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ] .
وقال تعالى : [كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ] وقال تعالى : [كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] .














خاتمة هذا العمر
في أشياء تتصل بما تقدم وتنعطف عليه


عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المولود حتى يبلغ الحنث، ما عمله من حسنة كتبت لوالديه، وإن عمل سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم ، أمر الله سبحانه الملكين اللذين معه يحفظانه ويسددانه، فإذا بلغ الأربعين سنة في الإسلام ، آمنه الله من ثلاث : الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة، خفف الله عنه حسابه، فإذا بلغ ستين سنة، رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب، فإذا بلغ سبعين سنة، أحبه أهل السماء فإذا بلغ ثمانين سنة، كتب الله سبحانه حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين سنة ، غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان أسير الله في الأرض، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ، كتب الله له ما كان يعمل في صحته من الخير، وإن عمل سيئة، لم تكتب عليه)) .
ذكر هذا الحديث الشيخ أحمد بن علي بن أبي القاسم اليمني ، في الأربعين التي جمعها، في غفران ما تقدم من الذنوب وما تأخر .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه)). وقال عليه الصلاة والسلام : ((إذا أراد الله بالعبد خيراً غسّله ، قيل : وما غَسله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح قبل موته )) الحديث .
وقال عليه الصلاة والسلام، وقد مر عليه بجنازة : مستريح ومستراح منه. قالوا يا رسول الله ما المستريح ؟ وما المستراح منه ؟ فقال : العبد المؤمن يستريح من تعب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله ، والفاجر يستريح منه العباد والبلاد ، والشجر والدواب . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : يا أبا ذر إن الدنيا سجن المؤمن، والقبر أمنه، والجنة مصيره، يا أبا ذر إن الدنيا جنة الكافر ، والقبر عذابه، والنار مصيره .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه، ليلقى ربه وهو حسن الظن به، وإذا كان حياً فخوفوه. وعن علي رضي الله عنه قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، ثم تلا: [فما بكت عليهم السماء والأرض] .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( من وافق موته عند انقضاء رمضان دخل الجنة ، ومن وافق موته عند انقضاء عرفة، دخل الجنة، ومن وافق موته عند انقضاء صدقته دخل الجنة )) . وقال عليه السلام : ((مـن مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعـة ، أجير من عـذاب القبر، وجاء يوم القيـامة وعليه طابع الشهداء)).

  

















العمر الثالث
 



 











 

 

العُمرُ الثّالِثُ

وَهوَ منْ حين خُروج الإنسَان مِنَ الدُّنيَا بالمَوت،
إلى حِين يُبعَثُ مِن قَبرهِ بالنّفخ في الصُّور .

وهذا هو البرزخ، قال الله تعالى: [ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون] .
فإذا مات العبد المسلم، وتحقق موته فينبغي الأخذ في تجهيزه إلى قبره، بغسله وتكفينه ، والصلاة عليه، وينبغي أن يراعى في ذلك الاتباع والأخذ بما ورد في السنة النبوية .
وينبغي أن يعلم بموته أهله وأقاربه وجيرانه وأصحابه ، وأهل الخير والصلاح ، ليدعوا له ويترحموا عليه، ويشهدوا الصلاة على جنازته .
ويستحب لمن بلغه موت أخيه المسلم ، أن يقول بعد الاسترجاع : اللهم اجعل كتابه في عليين، واكتبه عندك من المحسنين، واخلفه في أهله في الغابرين، واغفر لنا وله يارب العالمين .
ويدعو له ويثني عليه بالخير، فقد قال عليه الصلاة و السلام : (( اذكروا محاسن موتاكم ، وكفوا عن مساويهم )) . وقال عليه السلام : (( أنتم شهداء الله في الأرض ، فمن أثنيتم عليه خيراً، كان كذلك )) . الحديث بمعناه .
ولا ينبغي الإفراط في الثناء والمجازفة فيه بما يوقع في الكذب وما يقاربه .
ثم إن البرزخ منزل بين الدنيا والآخرة. وهو بالآخرة أشبه بل هو منها، ولكنه موطن الغلبة فيه والظهور للأارواح، وللأمور الروحانية، والأجسام فيه تابعة، ومندرجة في الأزواح وهي أعني الأجسام مشاركة للأرواح، فيما هي فيه من نعيم وسرور، أو عذاب وغموم.
والأرواح باقية، وأما الأجسام فتبلى وتتلاشى، لا يبقى منها إلا عجب الذنب، ومنه يركب الخلق عند البعث، كما ورد في الحديث .
وقد استثني من ذلك أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم أحياء في قبورهم، وكذلك الشهداء في سبيل الله قال الله تعالى: [ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون] .
وفي الأخبار الصحيحة : أن أرواحهم تكون في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة ، وتأوى إلى قناديل معلقة بالعرش. وورد أن نسمات المؤمنين تكون في طير بيض، تعلف من ثمر الجنة.
وفي تشييع جنازة المسلم، والصلاة عليه، وحضور دفنه فضل وثواب كثير. وفي الحديث الصحيح : ((إن من شيع جنازة مسلم حتى يصلي عليها، كان له قيراط من الأجر . فإن بقي معها ، حتى يحضر دفنها ، كان له قيراطان ، والقيراط مثل جبل أحد)) . الحديث .
وورد أن من شيع جنازة أخيه المسلم ، أمر الله الملائكة أن تشيع جنازته وتصلي عليه إذا مات .
وينبغي الإسراع بالميت وتعجيله إلى قبره . فقد قال عليه الصلاة والسلام : ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال فإن كانت صالحة قالت : قدموني قدموني ، وإذا كانت غير صالحة قالت : ياويلها إلى أين تذهبون بها ؟)) وقال عليه الصلاة والسلام : ((أسرعوا بالجنازة ، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه. وإن تكن سوى ذلك ، فشر تضعونه عن رقابكم)) .
وللميت شعور ومعرفة ، بمن يغسله ويكفنه ، ويدليه في قبره . وقد ورد أن روحه بيد ملك ، يقف بها بالقرب منه ، ويمشي بها مع جنازته . وأنه يسمع ما يثنى به عليه من خير أو شر، فإذا وضع الميت في قبره فمن المستحب أن يقول الذي يضعه فيه : باسم الله وعلى ملة رسول الله، وأن يحثو من يدنو من القبر ثلاث حثيات ، ويقول مع الأولى: [ منها خلقناكم] ومع الثانية: [وفيها نعيدكم] ومع الثالثة: [ومنها نخرجكم تارة  أخرى] .
ويصب عليه التراب قليلاً قليلاً برفق، فإذا سوي عليه التراب، فينبغي  أن يمكث عنده الحاضرون ساعة، يتلون القرآن، ويستغفرون للميت، ويدعون له بالتثبيت، فإنه حينئذ يسأل كما في الحديث، أي يسأله الملكان : منكر ونكير ، اللذان هما فتانا القبر، يسألان الميت بعدما يدفن على الأثر: من ربك ؟ وما دينك ومن نبيك ؟
فمن ثبته الله قال : الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيي . ومن أزاغه الله حار وتردد ، على وفق ما كان عليه في الدنيا، من الشك والزيغ والإضاعة لأمر الله، وارتكاب محارمه، فيقول : هاه ، هاه لا أدري. كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فعند ذلك يضربانه ، ويضيق عليه قبره ، ويملأ عليه عذاباً .
وأما المؤمن المثبت، المستقيم على الإيمان والطاعة في حياته، فإنهما يبشرانه و يوسع له في قبره، ويملأ عليه نوراً ونعيماً، وتحيط به أعماله الصالح ، من الصلاة والصدقة والصيام، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى ، فيدفـعن عنه ما يقصده من المخاوف ولأهوال .
وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار )) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه )) .
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذا حضر القبر يبكي، حتى تبتل لحيته، فقيل له : إنك تذكر الجنة والنار، فلا تبكي هذا البكاء، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجي منه صاحبه ، فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه ، فما بعده أشد منه )) .
وقال عليه الصلاة والسلام:  إن للقبر ضغطة، ولونجي أحد منها لنجى سعد بن معاذ، وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن.
ويقال : إن أكثر عذاب القبر من ثلاثة أشياء : الغيبة والنميمة، وقلة التحفظ من البول، وفي الحديث : عامة عذاب القبر من البول، وحديث الرجلين اللذين سمعهما صلى الله عليه وسلم، يعذبان في قبرهما وأمر بجريدة من النخل فجعلت على قبريهما، وقال : لعله يخفف عنهما ما دامتا رطبتين، وأنهما يعذبان ، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر كان لا يستبرئ من البول ، الحديث .  وهو الحديث صحيح مشهور .
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة من عذاب القبر، وأمر بها في الدعاء الذي بعد التشهد من كل صلاة، وفي أذكار المساء والصباح . فعذاب القبر حق، ونعيمه كذلك .
فالنعيم في القبر لأهل الإيمان والطاعة، والعذاب في القبر لأهل الكفر والنفاق والفجور والمعصية . وكل من الفريقين يتفاوتون في النعيم والعذاب، تفاوتاً كثيراً، على حسب تفاوتهم فيما كانوا عليه في الدنيا، من موجبات النعيم والثواب، أو موجبات العذاب والعقاب .
غير أن تعلق نعيم القبر أو عذابه بالأرواح، ووقوعه عليها، أكثر وأظهر من تعلقه بالأجسام، ووقوعه عليها مع أنهما أعني الروح والجسم ، يشتركان في نعيم القبر أوعذابه .
وفي المسألة إشكال واختلاف، والحق فيها ما ذكرناه من اشتراك الروح والجسد في نعيم القبر وعذابه إن شاء الله تعالى .
ومما ينفع الله به الميت في قبره، ويدفع به عنه الدعاء له ، والاستغفار ، والتصدق عنه . وقد وردت في ذلك الأخبار والآثار الكثيرة ، ورؤيت فيه المنامات الصالحة عن الصالحين والأخيار .
وفي الحديث : إن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمي انفلتت نفسها، ولو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها أن أتصدق عنها ؟ فقال عليه السلام : نعم . فحفر بئراً وقال : هذه عن أم سعد . الحديث .
وقال رجل : يا رسول الله إن أبويّ قد ماتا، فهل بقي شئ أبرهما به ؟ قال : أربع : الدعاء لهما والاستغفار، وإنفاذ عهدهما، وبر أصدقائهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بواسطتهما .
وروي عنه عليه الصلاة والسلام لولا الأحياء لهلكت الأموات . أي لما يصل إليهم، من دعائهم، واستغفارهم، والترحم عليهم . وقال عليه السلام : (( أمتي أمة مرحومة ، تدخل قبورها بذنوب كالجبال، وتخرج من القبور، وقد غفر لها باستغفار الأحياء للأموات)). الحديث .
ويروي أن هدايا الأحياء للأموات، من الصدقات، والدعاء، وقراءة القرآن تأتيهم بها الملائكة في أطباق من نور، مخمرة بمناديل من سندس، وتقول لأحدهم : هذه الهدية بعث بها إليك فلان ، فيسره ذلك ويفرح به .
وبلغنا أنه رؤي بعض الموتى في المنام فسئل عن حاله فقال : استقبلني ملك بشهاب من نار ليحرق به وجهي، فقال فلان من الأحياء : رحم الله فلاناً، فطفئ ذلك الشهاب .
ومن أعظم ما يهدى إلى الموتى بركة وأكثر نفعاً قراءة القرآن العظيم وإهداء ثوابه إليهم .
وقد أطبق على العمل بذلك المسلمون، في الأعصار والأمصار، وقال به الجماهير من العلماء والصالحين، سلفاً وخلفاً، ورويت فيه أحاديث غير أنها ضعيفة ،كما قال الحافظ السيوطي رحمة الله، والأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال وذلك منها أي من الفضائل .
ومن أنفع ما يهدي للموتى من القرآن، وكل القرآن نافع مبارك، إحدى عشرة من سورة الإخلاص المعظمة . وقد رؤي في ذلك منامات مباركة .
فينبغي للإنسان أن يقرأ هذا العدد، من هذه السورة الشريفة، إما كل ليلة أو كل يوم، أو أكثر من ذلك، أو أقل، ولو في كل ليلة جمعة، ويهدي ثواب ذلك لوالديه ومشايخه وذوي الحقوق عليه .
ولا ينسى موتاه من دعائه واستغفاره وصدقاته فينساه من بعده إذا مات وصار إلى ما صار إليه من قبله؛ فإنّ من ذَكَرَ ذُكِر ، ومن نَسِي نُسِي ، والبر سلف والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
واعلم أن زيارة القبور أمر مندوب إليه، وقد أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نهى عنها، وفيها منافع وفوائد للحي الزائر، وللميت المزور . قال عليه السلام : (( زوروا القبور فإنها تذكر الموت )) ، وقال عليه السلام : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة )) .
وقال عليه السلام : (( ما من رجل يزور قبر أخيه ، ويجلس إليه الا استأنس به وردت عليه روحه حتى يقوم )) وقال عليه السلام : (( آنس ما يكون الميت في قبره، إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا )) .
فينبغي للزائر إذا دخل المقبرة أو مرّ بها أن يقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين، غداً مؤجلون، وأتاكم ما توعدون، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون . أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع . أسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم اغفر لنا ولهم .
ويتأكد ندباً الزيارة ليلة الجمعة ويومها، وكذلك ليلة السبت إلى طلوع الشمس من يومه، وكذلك يوم الاثنين، فإنه يقال: إن أرواح الموتى ترجع إلى قبورهم في هذه الأوقات، وقد ورد في ذلك آثار.
وينبغي للزائر للقبور، أن يكثر لهم في حال زيارته إياهم من الاستغفار والدعاء والترحم عليهم، ويقرأ ما يتيسّر من القرآن ، ويهدي ثوابه إليهم، وأن يعتبر ويتعظ بهم، ويتذكر أنه عن قريب صائر إلى مثل ما صاروا إليه .
وإذا أتى قبر والديه وأقربائه وذوي الحقوق عليه، فينبغي له أن يطمئن عندهم ويستكثر من الاستغفار والدعاء لهم؛ فإنهم يفرحون بذلك، ويسرون به .
وكذلك إذا زار قبور الصالحين، فيكثر من الدعاء عندها، فإن منهم من يكون الدعاء عند قبره مستجاباً ، وقد جرب ذلك ، حتى إن أهل بغداد يسمون قبر السيد الإمام موسى بن الإمام جعفر الصادق ، الترياق المجرب ، أي لاستجابة الدعوات ، وانكشاف المهمات . وكذلك قبر معروف الكرخي، سمي لذلك، وهو ببغداد أيضاً .
ومن السادة آل أبي علوي، من كان يجلس عند قبر سيدنا الفقيه المقدم، الجلوس الطويل ، وهو في حر الشمس، بحيث لو عصرت ثيابه من كثرة العرق لخرج منها، وهو لا يشعر بذلك من كثرة الاستغراق في الدعاء، نقل ذلك عن الشيخ عبد الله بن علوي وغيره .
وأما التمسح بالقبور، والتقبيل لها فغير مستحب بل هو مكروه، وأشد كراهة منه الطواف بها .
وذكر بعضهم : أنه إذا لم يمكن للزائر الوقوف تجاه وجه الميت ، كان  الوقوف جهة رأسه أولى، وزعم أن الميت يشعر بالواقف تجاه وجهه، أكثر من شعوره به إذا وقف في جهة رأسه أو غيرها. والله اعلم .
واعلم أن أعمال الأحياء تعرض على الموتى، من أهليهم وأقاربهم، فإن رأوا خيراً فرحوا به واستبشروا، ودعوا لهم بالتثبيت والاستقامة . وإن رأوا غير ذلك حزنوا وساءهم ما رأوه، ودعوا لهم بالهداية والتوفيق للخير والعمل الصالح .
وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم نوراً وإشراقاً، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم .




 

 

 

 








 

خَاتِمة هذا العُمرُ

في أشيَاء تتعَلّق بمَا تَقدَّم وتتّصِل بهِ

اعلم أن الخلق يجتمعون في البرزخ، في الوقت الذي بين النفختين، لأنه لا يبقى في ذلك الوقت من الخلائق، إلا من لا يموت. قال الله تعالى : [ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ] .
وهذه هي النفخة الأولى، التي يموت بها كل حي من المخلوقين ، ولا يبقى إلا الله الحي القيوم الذي لا يموت، وهذه هي القيامة الأول ، وبعدها تكون القيامة الثانية التي لا يحيى بها كل ميت بإذن الله تعالى، وذلك قوله تعالى : [ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون] وبين النفختين أربعون سنة.
وأما الذين استثناهم الله في قوله : [ إلا من شاء الله ] فقد اختلفت فيهم أقوال المفسرين فقيل : هم الملائكة . وقيل : الأنبياء وقيل : الشهداء ، ورجح هذا القول وقيل غير ذلك .
وقال عليه السلام : يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين، قال الراوي : لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً، فيبعث الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه، فيطلبه فيهلكه .
ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة .
ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير، أو قال : إيمان، إلا قبضته، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل، لدخلت عليه، حتى قبضته، فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفاً ، ولا ينكرون منكراً، فيمثل  لهم الشيطان فيقول : ألا تستحيون ، فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك داراً رزقهم حسن عيشهم .
ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد ، إلا أصغى لِيتا ورفع ليتا . فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال : فيصعق الناس . قال : ثم يرسل الله، أي ينزل مطراً كأنه الطل، فتـنبت منه أجساد الناس. 
ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون .
ثم يقال : أخرجوا بعث النار، فيقال : من كَم كَم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، قال : فذلك [يوم يجعل الولدان شيبا] ، وذلك [يوم يكشف عن ساق].
اللِّيت : صفحة العنق، ويلوط حوضا إبله : أي يكينه ويصلحه .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله )) . وفي الحديث آخر : (( فيبقى أشرار يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول: أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟! وقال عليه الصلاة والسلام : يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذن بيده اليمنى، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرض بشماله ثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟
وقال عليه الصلاة والسلام : يدرس الإسلام كما يدرس الثوب، حتى لا يُدْرَى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ، ويشتري بكتاب الله تعالى في ليلة ، فلا يبقى في الأرض آية ، ويبقى طوائف من الناس منهم الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها .
وقال عليه الصلاة والسلام : إنكم لا ترون الساعة حتى ترون قبلها عشر آيات، أولها طلوع الشمس من مغربها، ثم الدخان، ثم الدجال ، ثم الدابة، ثم ثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وخروج عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج ، ويكون آخر ذلك ناراً تخرج من اليمن من قعر عدن .
واعلم أن وقت مجيء الساعة أمر تفرد الله تعالى بعلمه، فليس يعلمه إلا هو، كما قال تعالى: [ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ] وقال تعالى: [ وعنده علم الساعة ] .
وإنما يتعلق علم الخلائق بأماراتها وأشراطها التي تدل على اقترابها، وهي كثيرة جاءت بها الأحاديث الصحيحة، وقد ظهر الكثير منها، ولم يبق فيما يظهر إلا الآيات العامة منها، مثل طلوع الشمس من مغربها، والدجال لعنه الله ، ودابة الأرض، ونزول عيسى عليه السلام وأمثال ذلك .
                                                 
                                         












العمر الرابع
 















 

 


العُمرُ الرّابعُ

وَهوَ مِنْ حِين خُروج الإنسَان مِن قَبْره للبَعْثِ
وَالنّشُور، إلى حِين دُخول أهل الجنَّةِ في الجنَّةِ،
وَدُخول أهل النَّار في النَّار

وذلك أنه يأمر الله عز وجل إسرافيل عليه السلام أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. قال الله تعالى : [ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ] .
وقال تعالى : [ ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ].
وقال تعالى : [ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربّي لتبعثّن ، ثم لتنبؤن بما عملتم، وذلك على الله يسير ] .
وقال تعالى: [ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إنَّ الله سميعٌ بصير]
وقال تعالى: [ أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير ، قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير ] .

وقال تعالى: [ ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شئ قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ] .
وقال تعالى: [ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير ] .
وقال تعالى: [ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ] .
وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله كيف يعيد الله الخلق ، وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : أو ما مررت بوادي قومك جدبا ، ثم مررت به يهتز خضراً ؟ قال : نعم . قال : فتلك آيته في خلقه .
وذكر القرطبي رحمه الله في كتاب التذكرة، في حديث طويل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في طائفة من أصحابه وساق الحديث بطوله، إلى قوله جلَّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه : (( لله الواحد القهار، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات)) فيبسطها بسطاً، ثم يمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً .
ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في الأرض المبدلة، في مثل ما كانوا فيه من الأول. من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها .
ثم ينزل الله عليكم ماء من تحت العرش يقال له : الحيوان فتمطر السماء عليكم أربعين يوماً، حتى يكون الماء من فوقكم اثني عشر ذراعاً .
ثم يأمر الله بالأجساد فتنبت كنبات الطراثيث ، وكنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادكم، فكانت كما كانت، يقول الله تعالى : ليحيى حملة العرش ، فيحيون .
ثم يقول : ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيأمر الله إسرافيل، فيأخذ الصور، ثم يدعو الله تعالى الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نوراً، والأخرى مظلمة فيأخذها الله فيلقيها في الصور.
ثم يقول لإسرافيل : انفخ نفخة البعث، فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول الله عز وجل : وعز تي وجلالي، ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، ثم تدخل في الخياشيم، فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ .
ثم تنشق الأرض عنكم . وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فتخرجون منها شباباً أبناء ثلاث وثلاثين. واللسان يومئذ بالسريانية، [ سراعاً إلى ربهم ينسلون ، مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسير ] ذلك يوم الخروج، ((وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً )) الحديث .
والصور : قرن عظيم من نور، لا يعلم قدر عظمه إلا الله تعالى، والطراثيث، جمع طرثوث، نبات يؤكل .
وفي الحديث : أنه يبلى من الإنسان كل شيء إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق، وعجب الذنب عظم صغير جداً في آخر الصلب .
فإذا أراد الله جلت قدرته أن يبعث الخلق أمطر السماء مطراً غزيراً، يشبه مني الرجال، فينبتون من حيث دفنوا، كما ينبت الزرع، ثم يبعث الله إسرافيل عليه السلام، ويأمره ان ينفخ في الصور نفخة البعث، فترجع الأرواح إلى أجسادها فيحيون بإذن الله تعالى، وينشرون، وتنشق عنهم الأرض، وتبعثر القبور، ثم تحشر الأجساد والأرواح إلى الله تعالى، إلى موقف يوم القيامة .
قال الله تعالى :[ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً ، وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً] الآيات. وقال تعالى : [ يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير].
وقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ((يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه))، وقال صلى الله عليه وسلم : (( يحشر الناس حفاة عراة غرلا ، النساء مختلطات بالرجال )) ، قالت عائشة رضي الله عنها واسوأتاه ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ينظر بعضهم إلى بعض ‍‍‍‍‍‍ فقال صلى الله عليه وسلم : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( يحشر الناس أجوع ما كانوا قط ، وأعطش ما كانوا قط ، وأعرى ما كانوا قط وأنصب ما كانوا قط ، فمن أطعم لله أطعمه الله ، ومن سقى لله سقاه الله ، ومن كسا لله كساه الله ، ومن عمل لله كفاه الله ، فإذا خرجوا من قبورهم ، أمروا بالمسير إلى أرض المحشر ، وبقال : أنها الأرض المباركة والأرض المقدسة بالشام ، فتسوقهم الملائكة إليها )) .
وقد ورد أن الله عز وجل يبعث ناراً من قعر عدن، فتسوق الناس إلى أرض المحشر، وقيل : من برهوت واد أسفل حضرموت، فتسير تلك النار معهم حيث ساروا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتمسي معهم حيث أمسوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، ويكون سيرها كسير الإبل، وتتمثل للناس عند ذلك أعمالهم من صالح، فيتبع صاحبه، ويؤنسه ويكون معه، ومن سيْ عمله فيوحشه ويوبخه ، وربما ركبه وكلفه أن يحمله على ظهره، قال الله تعالى : [يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون] .
وقال تعالى: [وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون].
ويجيْ مع كل إنسان حفظته من الملائكة الذين كانوا يحفظون عليه عمله في حياته الدنيا .
قال الله تعالى : [ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد] .
وتظهر على المجرمين دلالة أعمالهم السيئة التي كانوا عملوها في الدنيا، وماتوا ولم يتوبوا منها إلى ربهم تعالى .
حتى ورد أن أكلة الربا، تعظم بطونهم جداً، فيقومون تارة، ويقعون أخرى من عظم بطونهم، وأن الزناة تعظم فروجهم، حتى يسحبونها على الأر ، وشربة الخمر يحشرون وكؤوسها في أيديهم .
وأهل الكذب والغيبة والنميمة، تطول ألسنتهم حتى تبلغ صدورهم، ومانعي الزكاة، تتمثل لهم أموالهم في صور حيات هائلة، يطوقون بها .
ويحشر المتكبرون على الناس في صور الذر، يطؤهم البر والفاجر، إلى غير ذلك .
قال الله تعالى: [يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام] .
وفي الحديث : إن الناس يحشرون على ثلاث طوائف : ركبان، ومشاة على أقدامهم، وعلى وجوههم . قال عليه الصلاة والسلام : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم .
وروي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قلت ، يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل : [يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً] فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم .
ثم أرسل عينيه بالبكاء، ثم قال : يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً، قد ميزهم الله من جماعات المسلمين، وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنزير، وبعضهم منكسون أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها. وبعضهم عُمي يترددون، وبعضهم صمٌّ بكمٌ لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعاباً، يقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشد نتناًمن الجيفة، وبعضهم يلبسون جلاليب سابغة من القطران .
فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام . وأما الذين على صورة الخنازير، فأهل السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون على رؤوسهم ووجوههم فأكلة الربا. وأما العمي، فمن يجور في الحكم، وأما الصم البكم، فالذين يعجبون بأعمالهم . وأما الذين بمضغون ألسنتهم ، فالعلماء والقضاة الذين يخالف قولهم فعلهم وأما المقطعة أيديهم وأرجلهم ، فالذين يؤذون الجيران. وأما المصلبون على جذوع من النار، فالسعاة بالناس إلى السلاطين . وأما الذين أشد نتناً من الجيفة، فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من أموالهم، وأما الذين يلبسون الجلاليب، فأهل الكبر والفخر والخيلاء . انتهى . ذكر هذا الحديث القرطبي ، رحمة الله في التذكرة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يحشر الناس على أرض بيضاء غراء كقرص النقى ، ليس فيها علم لأحد )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( يحشر الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفدهم البصر)) الحديث .
وذلك هو موقف القيامة، فإذا اجتمع فيه الخلائق، من الجن والإنس والشياطين والبهائم والوحوش والسباع، ثم تنزلت الملائكة عليهم السلام بأمر الله، وأحاطوا بأهل الجمع، صفا خلف صف، فلا يستطيع المجرمون والظالمون هرباً ولا فراراً، ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً قال الله تعالى:[يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان] إلى قوله تعالى : [ونحاس فلا تنتصران] .
ويزدحم أهل الموقف، ويموج بعضهم في بعض، وتدنو الشمس من رؤوسهم حتى تكون على قدر ميل .
قال الراوي : لا أدري أهو ميل المسافة من الأرض، أو الميل الذي يكتحل به. فحينئذ ينزل بالناس من الكرب والحر والعطش، ما لا يعلمه إلا الله، ويبلغ منهم عظيماً، ويعرق الناس، حتى يذهب عرقهم في الأرض أربعين ذراعاً .
قال عليه الصلاة والسلام : تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة، فيعرق الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه كعيبه، ومنهم من يبلغ نصف ساقيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه ومنهم من يبلغ فخذيه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ فاه، وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه، ومر بيده على  رأسه صلى الله عليه وسلم هكذا .
وقال صلى الله عليه وسلم المرء  في ظل صدقته يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله:
إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفارقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما نتفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه. معنى في ظله أي في ظل عرشه .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( من أنظر معسراً أو وضع له ، أظله الله في ظله )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ [ إذا الشمس كورت ] [ وإذا السماء انفطرت ] [ وإذا السماء انشقت ] )).
فإذا طال الوقوف على أهل الموقف، وعظم الكرب عليهم، تشاورا فيما بينهم، فيمن يأتونه فيشفع لهم إلى ربهم، في أن يفصل بينهم، ويريحهم مما هم فيه فيأتون إلى آدم عليه السلام، فيحيلهم على نوح عليه السلام، ويحيلهم نوح على إبراهيم عليه السلام، ويحيلهم إبراهيم على موسى عليه السلام، ويحيلهم موسى على عيسى عليه السلام، ويحيلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه : أنا لها أنا لها، ويذهب إلى ربه فيستأذن ثم يسجد له ويحمده، ثم يؤمر بأن يرفع رأسه، وأن يشفع فيشفع.
والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة ومشهورة. ويقال : إن ذلك هو المقام المحمود، الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون . قال تعالى : [ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ] .
وبلغنا أن أطفال المسلمين، الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، يؤذن لهم أن يسقوا آباءهم فيتخللون الجمع لطلب آبائهم، ليسقوهم، وبالناس من العطش ما لا مزيد عليه .
حتى إن بعض الصاحين كان قد عزم على ترك الزواج، فرأى في منامه أنه في وقف القيامة، وبه من العطش ما يجل عن الوصف، ورأى أطفالاً وبأيديهم آنية وفيها الماء وهم يسقون واحداً، ويدعون واحداً . فاستسقاهم فقالوا : إنما نسقي آباءنا  فلما أصبح طلب التزوج على رجاء أن يرزقه الله ولداً، فيموت في حال طفولته، ليكون ممن ُيسقي في ذلك الموقف العظيم كربه وأهواله .
نسأل الله اللطف والعافية بفضله آمين .
ويشتد الكرب، وتعظم الأهوال على أهل الموقف، حتى بلغنا أن الكافر يقول : رب ارحني ولو إلى النار .
فإذا شفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، في أن يفصل بين عباده، ويريحهم مما هم فيه، أمر الله الملائكة الذين هم حملة العرش العظيم، فيحملون عرش الرحمن إلى الموقف ويجاء بالجنة  فتجعل عن يمين العرش، ويؤمر بالنار أعاذنا الله منها فتجعل على يسار العرش، وتعرض الخلائق على الله تعالى للحساب.
فمنهم من لا يحاسب، وهم السابقون، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يناقش في الحساب، ومن نوقش الحساب عُذّب. ويعطى الناس كتبهم بأيمانهم ، وبشمائلهم ، ومن وراء ظهورهم .
ويسأل الله تعالى المرسلين عن تبليغ الرسالة إلى أممهم ويسأل الأمم : هل بلغهم المرسلون ما أرسلوا به إليهم؟ قال الله تعالى : [فلنسألهن الذين أرسل إليهم ولنسألهن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين] . وحينئذ تبيض وجوه تسود وجوه. قال الله تعالى :[يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ] إلى قوله تعالى : [ ففي رحمة الله هم فيها خالدون] .
وما من أحد إلا ويوقفه الله بين يديه، فيسأله عن عمله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر شماله، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة .
وقال صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيما أبلاه ؟ وعن عمره فيما أفناه ؟ وعن ماله من أين أكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وفي رواية : وعن علمه فيما عمل فيه؟
وفي ذلك الموطن، تشهد على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وجلودهم بما عملوا بها. وفي بعض وجوه التفسير : أن الجلود هي الفروج . قال الله تعالى : [ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ] وقال تعالى : [ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ] وقال تعالى : [ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ] .
وكذلك تشهد بقاع الأرض بما عملوا عليها من خير أو شر قال الله تعالى : [ يومئذ تحدث أخبارها] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أتدرون ما أخبارها ؟ هو أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل عليها، فتقول : عمل كذا في يوم كذا)) . الحديث .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدني الله العبد المؤمن، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، حتى إذا خاف أنه قد هلك . قال له سبحانه : قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم إن يوم القيامة وإن كان كما وصف من الطول والشدة، فقد يهونه الله، ويخففه على المؤمن التقي، حتى يكون كمقدار الصلاة المكتوبة يصليها . وفي راوية : كمقدار ما بين الظهر والعصر. كذلك ورد في الحديث .
ومن أشد المواطن كربا على أهل الموقف، حين يأمر الله بالنار فيؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا دنت من أهل الموقف ، سمعوا لها زفيراً وشهيقاً ، وزمجرة وأصواتاً مزعجة هائلة ، فعند ذلك يجثوا الخلائق على الركب، ويشفق الأنبياء،  ويخاف البراء، حتى إن كلا من الرسل الكرام، عليهم السلام يقول : يا رب نفسي نفسي، لا أسألك غيرها، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يزال يقول : أمتي أمتي .
ويروي : أنه يتقدم إلى النار فيزجرها عن الخلائق، وأنها تؤمر بأن تطيع له، فتعود إلى الانقياد على الملائكة الآخذين بأزمتها، حتى يجعلوها بأمر  الله، عن يسار عرش الله كما تقدم .
ويحرر الحساب ويقتص حتى فيما بين البهائم . كما ورد : أنه يقاد للشاة الجماء من القرناء .
وورد أن الله تعالى إذا اقتص للبهائم بعضها من بعض، يقول لها : كوني تراباً وعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً، كما في الآية الكريمة .

ثم ينصب الميزان لوزن الأعمال. قال الله تعالى :[ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين]. وقال تعالى : [والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون].
فتوزن الحسنات والسيئات. فمن رجحت حسناته على سيئاته فاز وسعد، ومن رجحت سيئاته على حسناته خاب وخسر، ومن استوت حسناته وسيئاته، فقيل : يوقف على الأعراف بين الجنة والنار، ثم يصير إلى الجنة برحمة الله تعالى .
وورد أن ملكاً واقف على الميزان. فإذا رجح ميزان العبد، نادى : ألا إن فلان بن فلان رجح ميزانه، وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. وإذا خف ميزان العبد، نادى : ألا إن فلان بن فلان خف ميزانه، وشقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً .
وحديث صاحب التسعة والتسعين سجلاً من الخطايا. وهو من هذه الأمة مشهور .
وينصب الصراط على متن جهنم، ويؤمر الناس بالجواز عليه. وقد ورد أنه أحد من السيف، وأدق من الشعر. فيجوز الناس بأعمالهم. فمن كان أكمل إيماناً وأسرع في طاعة الله، خف على الصراط، وجاز كالبرق الخاطف، وكالريح وكالطير، وكأجود الخيل والركاب، وكأشد رجل تجري بهم أعمالهم. ومنهم من يحبو، ومنهم من يزحف، ومنهم من تلفحه النار، ومنهم من يقع فيها.
وأول من يجوزه، الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكل منهم يومئذ يقول : رب سلم سلم. وأول من يجوز منهم : محمد صلى الله عليه وسلم. ومن الأمم : أمته .
وترسل الأمانة والرحم، فتقومان حول الصراط، وفيه دحض ومزلة، وكلاليب كشوك السعدان، تأخذ من أمرت بأخذه .
ويرد المؤمنون حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشربون منه، فيذهب ما بهم من العطش. وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأطيب من المسك، وأحلى من العسل. فيه ميزابان، يصبان من الكوثر، عرضه مسيرة شهر، وطوله كذلك، وحوله أباريق كعدد نجوم السماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً .
واختلف العلماء : هل الحوض بعد الصراط، وقبل دخول الجنة، أو هو قبل الميزان والصراط، والأمر محتمل. وتعرف هذه الأمة من بين سائر الأمم، لأنهم غر محجلون من آثار الوضوء. كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويذاذ عن الحوض أقوام، بعد ما يراهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرفهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال. فيقول عليه الصلاة والسلام : إنهم من أصحابي فيقال له : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك .
ويؤذن في الشفاعة، فيشفع النبيون والصديقون، والعلماء والصالحون والمؤمنون كل على حسب جاهه ومنزلته عند الله تعالى، حتى إنه يشفع رجل من هذه الأمة، في مثل ربيعة ومضر. ويشفع الرجل، في الرجل والرجلين .
وأول من يؤذن له في الشفاعة : محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام : ((أنا أول شافع وأول مشفع )) الحديث. فهو أعظم الأنبياء شفاعة وجاها عند ربه وله شفاعات كثيرة .

وأولها وأعظمها شفاعته صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء قال عليه الصلاة والسلام : ((لا أزال أشفع حتى أعطى صكاكاً برجال قد أمر بهم إلى النار )) . وقال عليه الصلاة والسلام : (( لا أزال أشفع ، حتى يقال لي : مالك لا تدع لغضب ربك في أمتك من بقية)).
فمن شفاعاته صلى الله عليه وسلم : أن يشفع لقوم من أمته قد دخلوا النار، فيخرجون منها ولقوم منهم، في زيادة رفع درجات من الجنة إلى غير ذلك من الشفاعات، حتى يقول لربه، ائذن لي فيمن قال : لاإله إلا الله، فيقول له سبحانه : إن ذلك ليس إليك، ولكن وعزتي لا أجعل من آمن بي يوماً من الدهر، كمن لم يؤمن بي ولعل المشار إليهم بذلك : أهل القبضة التي يقبضها أرحم الراحمين من النار. والله أعلم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قلت : يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال صلوات الله عليه : أسعد الناس بشفاعتي، من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه.
وعن زيد بن أرقم، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال لاإله إلا الله مخلصاً دخل الجنة. قيل : يا رسول الله وما إخلاصها؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله .
وعن أنس رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل ذلك إن شاء الله. قال : فأين أطلبك؟ قال : أول ما تطلبني عند الصراط، قال: فإن لم ألقك على الصراط ؟ قال : اطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطىء هذه الثلاثة المواضع .
واعلم أن من أشد الأشياء وأشقها في موقف يوم القيامة : ظلم العباد، فإنه الظلم الذي لايتركه الله، وفي الحديث : الظلم ثلاثة : ظلم لا يغفره الله، وهو الشرك، وظلم لا يتركه الله، وهو ظلم الناس بعضهم لبعض . وظلم لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه .
وقال صلى الله عليه وسلم : أتدرون من المفلس من أمتي؟ فقالوا :  المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه السلام : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار.
وورد أن الإنسان يسره يوم القيامة أن يكون له الحق على أبيه أو ابنه، حتى يأخذ منه ويقاضيه فيه. وفي الحديث : من كانت عليه لأخيه مظلمة، فليتحللها منه، من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات، إن كانت له حسنات أخذ من حسناته، وإلا أخذ من سيئاتهم، فطرح فوق سيئاته، ثم طرح في النار .

ثم اعلم أن يوم القيامة يوم عظيم، كما قال تعالى : [ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين] وفيه مواقف طويلة ثقيلة، وأهوال شديدة.
وقد وصف الله في كتابه العزيز، من أحوال ذلك اليوم وأهواله، ما يطول ويهول. ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديثه من ذلك كذلك، ووصف السلف الصالح، من أمر ذلك اليوم على حسب ما بلغهم عن الله ورسوله .
وقد جمع العلماء في كتبهم ومؤلفاتهم التي ألفوها في أخبار يوم القيامة وأحواله وأهواله شيئاً كثيراً كذلك. مثل كتاب ذكر الموت وما بعده من الأحياء لحجة الإسلام الغزالي رحمة الله، وكتاب الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة، له أيضاً .
وكتاب التذكرة للقرطبي رحمه الله. كتاب شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور، وكتاب البدور السافرة في أحوال الآخرة، للحافظ السيوطي رحمه الله .
وقد ذكرنا من ذلك غرره وعيونه وجمله، وما لا غنى عن الاطلاع عليه والعلم به، فمن اكتفى به كفاه، ومن أراد زيادة الاطلاع عليه والاتساع في ذلك العلم، فعليه بالنظر في هذه الكتب التي ذكرناها، وما في معناها، مما لم نذكره من المؤلفات التي ألفت في هذه العلوم، على انفرادها أو مع غيرها، وبالله الإعانة والتوفيق .


خَاتِمة هذا العُمْر
في أشيَاء تتعَلّق بمَا تَقدَّم، وَتتّصِل بهِ

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة )) . الحديث .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً )) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة ، وبأول ما يقولون له . قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : يقول الله تعالى للمؤمنين : هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا ربنا. قال : وما حملكم على ذلك؟ فيقولون : رجاء عفوك ورحمتك ورضوانك. فيقول : فإني قد أوجبت لكم رحمتي )) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( لما خلق الله الجنة، أرسل جبريل إلى الجنة، فقال : انظر إليها وإلى ما أعددت فيها فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله فيها لأهلها، قال : فرجع إليه، وقال : فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال : فارجع إليها ، فانظر ما أعددت فيها لأهلها ، قال : فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره ، فرجع إليه فقال : فوعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها وإلى ما أعددت فيها لأهلها، فإذا هي تركب بعضها بعضاً، فرجع إليه فقال : وعزتك لا يسمع بها أحداً فيدخلها، فأمرها فحفت بالشهوات، فقال : ارجع إليها ، فقال : فوعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد )) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيضع في النار أصبعه ، ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مرّ بك نعيم قط ؟ فيقول لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا ، من أهل الجنة ، فيضع أصبعه في الجنة فيقال
له : يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ وهل مرّ بك شدة قط ؟ فيقول لا والله ما مرّ بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط )) .
وعن عائشة رضي الله  عنها، أنها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال: (( أما في ثلاثة مواطن، فلا يذكر أحد أحداً عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال، هاؤم اقرءوا كتابيه، حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه؟ أم في شماله ؟ أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( وإذا صار أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ، ثم يذبح ، ثم ينادي منادٍ : يا أهل الجنة لا موت ، ويا أهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم))
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أهل الجنة عشرون ومائة صنف : ثمانون من هذه الأمة ، وأربعون من سائر الأمم )).
وقال عليه الصلاة والسلام: (( لم أر كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، إلا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة )) .
وقال عليه الصلاة والسلام:  ((أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ، وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي ، ولواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ، يطوف عليّ ألف خادم ، كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور )). صلى الله عليه وسلم ، وزاده فضلاً وشرفاً ، وكرامة لديه .









العمر الخامس
 










 

 


العُمرُ الخامِسُ

وَهوَ مِنْ حِين دُخول أهْل النَّارِ في النَّارِ،
وَدُخول أهْل الجنَّة في الجَنَّةِ، إلى الأبَدِ
الّذي لاَ غايَة له وَلاَ نِهَايَة

وهذا العمر أطول الأعمار مطلقاً، وهو أحسن الأعمار وأطيبها، وخيرها وأنعمها في حق أهل الجنة، وأشر الأعمار وأنكدها وأتعبها وأشقاها في حق أهل النار.
ونبدأ في هذا العمر، بذكر النار وأهلها، لأن عليها ورود المؤمنين المتقين قبل دخولهم إلى الجنة.
قال الله تعالى : [ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً ] .
وقال تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] .
وقال تعالى : [ سأصليه سقر ، وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ] .
وقال تعالى : [ فأنذرتكم ناراً تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ] .
وقال تعالى : [ كلا لينبذن في الحطمة ، وما أدراك ما الحطمة . نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة ] .
وقال تعالى: [ إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا.]
وقال تعالى: [ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ] .
وقال تعالى : [ والذين كفروا لهم نار جهنم لا ُيقْضَى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ، وهم يصطرخون فيها ، ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل . أو لم نعمركم ما يتذّكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ] .
وقال تعالى : [ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ]
إلى قوله تعالى : [ اخسئوا فيها ولا تكلمون ] .
وقال تعالى : [ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون . لايفتر عنهم وهم فيه مبلسون ] إلى قوله تعالى : [ إنكم ماكثون ] .
والآيات في ذكر النار، ووصف أحوال أهلها فيها كثيرة منتشرة جداً، نشير منها إلى شيء يسير لقصد التنبيه والتذكير.
قال عليه الصلاة والسلام : (( ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، قيل : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً ، كلهن مثل حرها )).
وقال عليه الصلاة والسلام : (( أوقد على النار جهنم ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : إن أهون أهل النار عذاباً : (( من له نعلان وشراكان من نار ، يغلي منهما دماغه ، كما يغلي المرجل ، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً ، وإنه لأهونهم عذاباً )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ((يا أيها الناس ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون في النار، حتى تسيل دموعهم على وجوههم ، كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء، فتتقرح العيون ، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( يلقى على أهل النار الجوع ، فيعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بطعام ، فيغاثون ذي غصة ، فيذكرون أنهم كانوا يتجرعون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب ، فيرفع إليهم الحميم ، بكلاليب الحديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم ، قطعت ما في بطونهم . فيقولون : ادعوا خزنة جهنم . فيقولون : ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا : بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . قال : فيقولون : ادعوا مالكاً ، فيقولون : يا مالك ليقض علينا ربّك ، قال : إنّكم ماكثون )) .
قال الأعمش : نبئت أن بين دعائهم وإجابة ملك إياهم ألف عام .
قال فيقولون : ادعوا ربكم ، فلا أحد خير لكم من ربكم، فيقولون :ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين. ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال : فيجيبهم تعالى : اخسئوا فيها ولا تكلمون. قال : فعند ذلك ييأسون من كل خير. وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل .
وقد ورد أن في النار حيات مثل أعناق البخت، وهي الإبل الخرسانية، وعقارب أمثال البغال الموكفة، تلسع اللسعة، فيجد ألم حمتها أربعين خريفاً ولو أن دلوا من الغساق أهريق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا، ولو قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، ولو أن رجلاً من أهل النار خرج إلى الدنيا، لمات أهل الدنيا من نتن ريحه وتشويه خلقه.
وإن أبواب النار سبعة كما قال سبحانه وتعالى : [ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ] وهي سبع طبقات، بعضها فوق بعض .
الأولى منها: جهنم ويقال : إنها لعصاة الموحدين. والثانية : سقر . والثالثة : لظى. والرابعة : الحطمة. الخامسة : السعير. والسادسة : الجحيم . والسابعة : الهاوية وهي السفلى ، وليس لها قعر ولا منتهى .
وقد حشيت الطبقات السبع بالعذاب الشديد، والنكال الفظيع، والخزي الوبيل. وإن كانت متفاوتة في ذلك بحيث إن كل طبقة أشد عذاباً من التي فوقها أعاذنا الله منها ووالدينا وأحبابنا والمسلمين بمنّه وكرمه.
ثم اعلم أن أهل النار قسمان: قسم منهما هم الذين يدخلونها من عصاة أهل التوحيد. وهذا القسم لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها بالشفاعة، وبرحمة الله تعالى بعضهم قبل تمام العقوبة، وبعضهم بعد ذلك، وهم متفاوتون .
ويروي أن آخرهم خروجاً منها، وأطولهم فيها مكثاً، يخرج بعد سبعة آلاف سنة ، وذلك عمر الدنيا فبما يقال .
ولا يخلد في النار موحد البتة، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، كما في الأحاديث الصحيحة .
والقسم الآخر من أهل النار هم الكافرون باله ، والمشركون والمنافقون الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم، ويضمرون الكفر في قلوبهم .
وأنواع الكافرين بالله كثيرة، فمنهم اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وكلهم خالدون في النار أبد الآبدين، قال الله تعالى : [إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملآئكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون].
وقال تعالى : [ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] وقال تعالى :[إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ].
وقال تعالى: [أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار].
وقد ورد أن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد، وغلظ جلده اثنان وأربعون ذراعاً، وأن الكافر يسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يطؤه الناس، يعظم الله أجساد الكافرين في النار حتى يضاعف لهم العذاب، ويعظم عليهم النكال والعقاب.
ثم إذا خرج عصاة الموحدين من النار، ولم يبق فيها أحد من أهل التوحيد أغلقت أبوابها على الكافرين وأطبقت عليهم ، قال الله تعالى :[ إنها عليهم مؤصدة في عمدٍ ممدة] .
ومنهم من يجعل في تابوت يملأ عليه ناراً، ثم يغلق عليه، فلا يزالون كذلك أبداً سرمداً، مخلدين في عذاب الله وغضبه وسخطه، إلى غير نهاية ولا غاية، نسأل الله العافية ، والوفاة على الإسلام، ونعوذ بالله من أحوال أهل النار .
*  *  *











ذكرُ الجَنّةِ وَنَعيمَها

وَمَا أعَدّ الله لأهْلِهَا فيهَا منْ أنوَاع الكرَامة


اعلم أن الآيات والأخبار في ذكر الجنة كثيرة ومنتشرة، لا يأخذها الحصر ولا يأتي عليها الذكر، فنشير إلى طرف منها قريب موجز، يحصل به التذكير والتعريف، بجمل ذلك : قال تعالى : [وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ] إلى قوله تعالى :[ وهم فيها خالدون ] .
وقال تعالى : [وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة  زمراً ] إلى قوله تعالى :[وقيل الحمد لله رب العالمين] وقال تعالى :[ولمن خاف مقام ربه جنتان ] إلى قوله تعالى :[تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ] .
وقال تعالى: [والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم] إلى قوله تعالى : [ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ] وقال تعالى: [إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً ] إلى قوله تعالى : [ كان سعيكم مشكوراً].
وقال تعالى : [ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ] إلى قوله تعالى: [ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون] وقال تعالى : [إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون] إلى قوله تعالى: [فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم] وقال تعالى: [ مثل الجنة التي وعد المتقون] إلى قوله تعالى: [ومغفرة من ربهم] .
قال تعالى : [ جنّات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ] إلى قوله تعالى: [ولا يمسّنا فيها لغوب ] وقال تعالى : [ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ] إلى قوله تعالى: [ولدينا مزيد ] وقال تعالى : [ إن المتّقين في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )). واقرءوا إن شئتم : [ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءاً بما كانوا يعملون ] وقال عليه الصلاة والسلام : (( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم  وبين أن يروا ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن )).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن في الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض )) . والفردوس أعلاها درجة، منها تتفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها . ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة إطلعت على أهل الأرض ، لأضاءت ما بينها ، ولملأت ما بينها ريحاً ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها )). النصيف : الخمار .
وقال عليه الصلاة والسلام : ((في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام وما يقطعها ، ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب)) وقال عليه الصلاة والسلام : ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلاً في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يرى بعضهم بعضاً ، يطوف عليهم المؤمن )) .
وقال أبو هريرة ، رضي الله عنه : قلت يا رسول الله : مم خلق الخلق؟ قال : من الماء . قلت: الجنة ما بناؤها ؟ قال: لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ومِلاطها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يفنى ولا يموت، ولا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه . والملاط هو الطين الذي يجعل بين اللبنتين .
وقال عليه السلام : (( أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على مثل القمر ليلة البدر . والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان ، على كل واحدة منهما سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من ورائها . وقال عليه السلام : يدخل أهل الجنة الجنة مرداً جُرداً مكحلين أبناء ثلاثين سنة أو ثلاث وثلاثين سنة )) .
وقال عليه السلام يوماً لأصحابه : ((ألا شمروا للجنة ، فإنّ الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة يتلألأ وريحانه تهتز ، وقصر مشّيد ، ونهر مطرد، وفاكهه كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبدي في حياة ونضرة في دار عالية سليمة بهية . قالوا : نحن المشمرون لها يا رسول الله. قال : قالوا : إن شاء الله تعالى )).
وقال عليه السلام : ((نخل الجنة ، جذوعها من زمرد أخضر ، وكرمها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ، ليس فيها عجم )).
وقال عليه السلام : ((إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ، ولا يتفلون ، ولا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون . قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتقديس والتحميد. وفي رواية : التكبير كما يلهمون النفس)) .
وقال عليه السلام : ((إن الرجل من أهل الجنة يعطى قوة مائة رجل ، في الأكل والشرب الجماع والشهوة)) .
وقال عليه السلام : ((يناد منادٍ يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبئسوا أبداً)) .
وذلك قوله تعالى : [ ونودوا أنّ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ] .
وسئل عليه الصلاة والسلام : ما الكوثر ؟ قال ذاك نهر أعطانيه الله. يعني في الجنة، أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر ، قال عمر : إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكلها أنعم منها .
وقال عليه الصلاة والسلام : ((لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بي فقال : يا محمد أقرئ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر )).
وقال عليه السلام : ((إنّ في الجنة لغرفاً ، يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، فقام إليه أعرابي فقال : لمن يا رسول الله ؟ قال لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام)) .
وقال عليه السلام : ((إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربّنا وسعديك، والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضي يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك ، فيقول : أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب أي شئ أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبداً )).
وقد ورد أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، و هوخمسمائة سنة، وأن أنهار  الجنة تجري من غير أخدود على وجه أرضه، وأن طول كل واحد منهم ستون ذرعاً ، على طول أبيهم آدم ، وإن أدنى أهل الجنة من يعطى مثل الدنيا عشر مرات ، ويكون له ألف خادم ، واثنتان وسبعون زوجة من الحور العين ، وينظر في نعيمه وما أعد الله له من الكرامة، مقدار ألف سنة وإن ساق كل شجرة في الجنة من ذهب، وإن أبواب الجنة ثمانية، وعدد درجاتها بعدد آيات القرآن الكريم، جعلنا الله بفضله وكرما من أهلها آمين .




خاتمة هذا العمر

وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى، في رؤية المؤمنين لربّهم تبارك وتعالى في الجنة، وفي ذكر شئ مما ورد في سعة رحمة الله الرؤوف الرحيم، الجواد الكريم .
قال الله تعالى : [ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ] جاء في تفسيرها أن الحسنى هي الجنة، وأن الزيادة هي النظر إلى الله عز وجل.
وقال الله تعالى : [ وجوهُ يومئذ ناضرة إلى ربّها ناظرة ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا دخل أهل الجنة الجنة قال تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، قال : فيكشف الحجـاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربّهم عز وجل )) ، وفي رواية : ثم تلا هذه الآيـة : [للذين أحسنوا وزيادة ] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرنا إلى القمر ليلة البدر، فقال: (( إنكم سترون ربّكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوها )). ثم قرأ: [ فسبح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ] . ويعني بالصلاتين : صلاة الصبح وصلاة العصر .
وعن أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله أكلنا نرى الله مخلياً به يوم القيامة؟ قال : نعم. قلت : وما آية ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به ؟ قلت: بلى. قال : فالله أعظم ، إنما هو خلق من خلق الله عز وجل ، يعني القمر .
وقال عليه الصلاة والسلام : إنّ أهل الجنة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا ، فيزورون ربّهم، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب ومنابر من فضة . ويجلس أدناهم _ وما فيهم أدنى _ على كثبان المسك والكافور وما يرون أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً.
قال أبو هريرة: يا رسول الله هل نرى ربّنا؟ قال : نعم، هل تمارون في رؤية الشمس والقمـر ؟ قلنا : لا. قال : كذلك لا تمارون في رؤية ربّكم ، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محضرة، حتى يقول للرجل منهم : يا فلان ابن فلان ، أتذكر يوم قلت كذا و كذا ، فيذكره بعض عثراته في الدنيا، فيقول : أفلم تغفر لي ؟ فيقول : بلى . فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذ . فبينما هم كذلك إذ غشيتم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط. فيقول ربّنا : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، فخذوا ما شئتم ، فيأتون سوقاً قد حفت به الملائكة لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب ، فنحمل ما اشتهينا، ليس يباع فيه ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا ً.
قال : فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة، فيلقى من هو دونه _ وما فيهم أدنى _ فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثهما، حتى يخلع عليه ما هو أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها . ثم ننصرف إلى منازلنا، فتتلقانا أزواجنا، فيقلن مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال أكثر مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، وحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا.
وأعظم النعيم وأفضله وأجله وأكمله: النظر إلى وجه الله الكريم، في دار الكرامة والنعيم .
منّ الله علينا بذلك فضله وكرمه، وجوده وإحسانه ووالدينا، وأحبابنا والمسلمين برحمته، إنه أرحم الراحمين .
*     *     *
                       

 
 
ذكر شَيْءٍ مِمّا وَرَدَ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللهِ

قال الله تعالى: [ ورحمتي وسعت كل شيء ] وقال تعالى: [ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم] وقال تعالى : [ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ] الآية. وقال تعالى: [ قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم ]. وقال تعالى : [ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن لله مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة ، بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وادخر تسعة رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة )) .
ويروي : أنه إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتاباً من تحت العرش فيه إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيخرج من النار مثل أهل الجنة .
          وقال عليه الصلاة والسلام: (( يتجلى الله عز وجل لنا يوم القيامة ضاحكاً فيقول: أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس منكم واحد، إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً.))
وقال عليه الصلاة والسلام : (( إن الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها )) .
وقال عليه السلام : (( ليغفرن الله مغفرة ، يتطاول لها إبليس رجاء أن تناله )) يعني يوم القيامة. وإبليس لعنة الله، لا تناله مغفرة الله بحال، لأنه من القانطين الآيسين من مغفرة الله ورحمته، وهو رأس المشركين ومقدمهم .
وقد قال تعالى : [ إنّ الله لا يغفر يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ] الآية .
وقال عليه السلام : (( من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، حرم الله عليه النار )) .
وقال عليه السلام : ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة: يا أمة محمد، أما ما كان لي قِبَلكم فقد وهبته لكم، وبقيت التبعات التي بينكم، فتواهبوها وادخلوها الجنة برحمتي .
وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا المؤلف المبارك إن شاء الله تعالى والبركة من الله، والفضل والخير بيد الله، والأمر كله لله. ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[ ربّنا تقبل منّا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ] [ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ]. [ ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين]
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله ، الأمين على وحيه و تنزيله .
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الهداة المهتدين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وعلينا معهم وفيهم ، برحمتك يا أرحم الراحمين .

تّم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه .
وكان الفراغ من إملائه ، بكرة يوم الأحد التاسع والعشرين من شهر شعبان سنة 1110 عشر ومائة بعد الألف من الهجرة على مهاجرها أفضل الصلاة ، وأزكى السلام .
والحمد لله ربّ العالمين .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق