لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية الإمام عبد الوهاب الشعراني الجزء 6
-
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم)
أن نستعد لفهم إشارات الحق تعالى بتلطيف الكثائف حتى نحس إذا استخرنا ربنا بما هو
الأولى لنا من فعل ذلك الأمر أو تركه فإن من كان غليظ الحجاب لا يحس بشيء من ذلك
ولهذا نقول له استخر ربك فيقول قد استخرته فلم يترجح عندي أمر ولو أنه كان رقيق
الحجاب لأدرك ما فيه الخيرة له من فعل أو ترك ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى
شيخ يسلك به حتى يمزق حجب عوائده ولا يصير له عن الله عائق بل يفهم مراد الحق
تعالى بأول وهلة وهذا أمر عزيز الوجود ولذلك عول غالب الناس على استشارة بغضهم بعضا
لا سيما إشارة الفقراء ولكن يحتاج أيضا إلى تلطيف حجاب حتى يعرف طريق الخيرة لذلك
العبد من طريق كشفه وإلا فإشارته معكوسة وربما أشار على أحد بأمر فكان فيه هلاكه
فيكون على المشير الإثم في ذلك مثل من يفتي في دين الله بغير علم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول:
لا ينبغي لأحد أن يشير على أحد بشيء إلا إن كان مطمح نظره اللوح المحفوظ الذي لا
تبديل فيه فإن لم يكن مطمح نظره ما ذكر فليقل له استخر ربك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول:
الاستشارة بمنزلة تنبيه النائم فترى الإنسان يكون جازما بفعل شيء فيشاور فيه بعض إخوانه
فيقول له إن فعلت كذا حصل لك كذا فينحل عزمه عنه في الحال فلو قال له إنسان بعد
ذلك افعل كذا لا يرجع إلى قوله
وسمعته أيضا يقول: لا تستشر محب الدنيا
في شيء من أمور الآخرة فإن تدبيره ناقص لحجابه بالدنيا عن الآخرة ولا تستشر أيضا
محب نعيم الآخرة من الزهاد والعباد في شيء من الأمور المتعلقة بالأدب مع الحق
تعالى فإنه محجوب بذلك عن الحق وعن حضرته الخاصة واستشر كمل العارفين بالله في
أمور الدنيا والآخرة فإنهم قطعوا المرتبتين ووصلوا لحضرة الحق وعرفوا آدابها
ودرجات أهلها في الأدب وفي المثل السائر: استعينوا على كل حرفة بصالح من أهلها
فتأمل ذلك واعمل عليه
وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول:
لا ينبغي لمن كان مشغوفا بحب الدنيا أن يفعل شيئا برأيه ولا باستخارته بل يسأل أهل
الخير عن ذلك ويفعل ما يشيرون به عليه ولو كان من أكابر ملوك الدنيا فإن صحة الرأي
إنما تكون لمن زهد في الدنيا وشهواتها والولاة غارقون في حب الدنيا مع زيادة السكر
الحاصل لهم من لذة الأمر والنهي والحكم ولذلك طلب الملوك العادلون أن يكون لهم
وزراء لأن رأي الوزير ربما كان أكمل وأتم من الملوك لكون الوزير أنقص حكما وتصريفا
منهم فلذلك قل سكره وقال العارفون لا يعرف الشيء إلا من زهد فيه وفي الحديث: [[حبك
للشيء يعمي ويصم]]
ولولا ظهور عيب الدنيا للزاهد ما زهد
فيها
فاعمل يا أخي على جلاء مرآتك بإشارة شيخ
مرشد إن أردت أن تعرف مراد الحق وطريق الخيرة فيما تفعله في المستقبل وإنما شاور
صلى الله عليه وسلم أصحابه امتثالا لأمر الله تعالى بقوله {وشاورهم في الأمر}
وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أتم خلق
الله تعالى رأيا وأوسعهم علما وعقلا فكانت مشاورته لهم تمييلا لخاطرهم لا عملا
بإشارتهم من غير أن يظهر له صلى الله عليه وسلم وجه الحق في ذلك ولذلك قال تعالى
له {فإذا عزمت على أمر} يعني على فعل ما أشاروا عليك به: {فتوكل على الله} لا على
مشورتهم على أنه لا يقدح في كماله صلى الله عليه وسلم عدم التفاته إلى أمور الدنيا
كما قال في مسألة تأبير النخل: [[أنتم أعلم بأمور دنياكم]]
يعني التي لا وحي عندي من الله فيها
فافهم
قال بعض العارفين: ولم يمت صلى الله عليه
وسلم حتى صار أعلم الناس بأمور الدنيا اه
فشاور في جميع الأمور التي تحبها نفسك من
يكون زاهدا فيها من العارفين لا من المتعبدين فإن المتعبد ربما نفرت نفسه من
الأشياء بحكم الطبع ونفر غيره عنها كذلك ولو كان فيها مصلحة له كما يقع فيه كثير
من ترك الكسب واشتغل بالعبادة وقنع بما يتصدق الناس به عليه فتراه يأمر الناس كلهم
بترك الأسباب والكسب كذلك يقول لهم ربكم يرزقكم وغاب عنه أن اعتماد مثله على الخلق
لا على الله تعالى ولو أن هذا الشخص شاور عارفا فقال له عليك بالكسب واعتمد على
الله لا على الكسب واعتق نفسك من تحمل منن الخلائق
بل قال بعض مشايخ العرب لما ظن أنه متوكل
أنا ما ولاني أحد من الفقراء هذه الوظيفة وإنما ولاني الله تعالى فقال له شخص من
قرناء السوء أنت والله من الأولياء فقلت له لا يكون من الأولياء إلا إن صرح بهذا
القول بين يدي الباشا الذي ولاه وقال له في وجهه أو قال لمن يبلغه ليس لك علي جميل
أو ليس للباشا علي جميل وما ولاني إلا الله فقال متى قلت ذلك عزلني وسلب نعمتي قلت:
فإذن قولك إنك معتمد على الله دون الخلق افتراء على الله تعالى وازدراء بطائفة
الفقراء لا غير
قلت: وقد رأيت بعض الأكابر من العارفين
يشهد الله تعالى كل يوم في جميع ما يتحرك به أو يسكن ويقول اللهم إن كنت تعلم أن
جميع حركاتي وسكناتي في هذا اليوم خير لي فاقدرها لي ويسرها لي وإن كنت تعلم أنها
شر لي فاصرفها عني واصرفني عنها وقال من واظب على ذلك كان في أمان من الله تعالى
أن يمكر به اه
قال البيهقي ويعيد صلاة الاستخارة
والدعاء ثانيا وثالثا وأكثر حتى ينشرح صدره لشيء اه. {والله غفور رحيم}
- روى مالك والشيخان وغيرهما مرفوعا: [[من
اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في
الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن
ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب
بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر]]
وفي رواية: [[لهما مثل المهجر]]
وفي رواية للبخاري: [[المستعجل للجمعة
كالمهدي بدنه]] الحديث
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا: [[تقعد
الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون الأول والثاني والثالث حتى إذا خرج الإمام
رفعت الصحف]]
وروى الطبراني والأصبهاني وغيرهما مرفوعا:
[[إن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخر عن الجنة وإنه لمن أهلها]]
والأحاديث في ترتيب درجات الذاهبين إلى
الجمعة كثيرة
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا:
[[من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة
وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغى]]
ومعنى لغى خلي من الأجر وقيل أخطأ وقيل
صارت جمعته ظهرا وقيل غير ذلك قاله الحافظ المنذري
وروى البخاري والترمذي عن يزيد بن أبي
مريم قال: لحقني عبادة بن رفاعة ابن رافع وأنا أمشي إلى الجمعة فقال أبشر فإن خطاك
هذه في سبيل الله قال فإني سمعت أبا عيسى يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: [[من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار]]
وفي رواية للبخاري: [[حرمه الله على
النار]]
وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة
في صحيحه مرفوعا: [[من اغتسل يوم جمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه
ثم خرج حتى أتى المسجد فركع ما بدا له ولم يؤذ أحد ثم أنصت حتى يصلي كان كفارة لما
بينه وبين الجمعة الأخرى]]
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم في صحيحه مرفوعا: [[من
غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ
كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها]]
وفي رواية للطبراني: [[كتب له بكل خطوة
عشرون حسنة فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مائتي سنة]]
قال الخطابي رحمه الله قوله [[غسل واغتسل
وبكر وابتكر]] اختلف الناس في معناه فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المتظاهر الذي
يراد به التوكيد ولفظه مختلف ومعناه واحد ألا تراه يقول في هذا الحديث ومشى ولم
يركب ومعناهما واحد وإلى هذا ذهب الأثرم ؟ ؟ صاحب أحمد وقال بعضهم معنى " غسل
" غسل الرأس خاصة وذلك لأن العرب لهم لمم وشعور وفي غسلها مؤونة [مشقة] فأراد
غسل الرأس من أجل ذلك وإلى هذا ذهب مكحول وقوله: واغتسل معناه غسل سائر الجسد وذهب
بعضهم إلى أن معنى [[غسل]] أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة ليكون أملك لنفسه وأحفظ
في طريقه لبصره ومعنى [[بكر]] أدرك باكورة الخطبة وهي أولها ومعنى [[ابتكر]] قدم
في الوقت وقيل معنى بكر تصدق قبل خروجه قاله ابن الأنباري وتأول في ذلك ما روى في
الحديث من قوله: [[باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها]]
وقال أبو بكر بن خزيمة من قال في الخبر
غسل واغتسل يعني بالتشديد فمعناه جامع فأوجب الغسل على زوجته أو أمته واغتسل ومن
قال غسل يعني بالتخفيف أراد غسل رأسه واغتسل فغسل سائر الجسد كما في الحديث الصحيح
مرفوعا: [[اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنبا]] الحديث. والله
أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نواظب على المبادرة إلى
حضور صلاة الجمعة بحيث نصلي السنة التي قبلها قبل صعود الإمام المنبر اهتماما بأمر
الله تعالى لنا بقوله {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا
البيع}
يعني الشراء ولو كنتم محتاجين إلى ذلك
إلا أن تبلغوا مرتبة الاضطرار
وسمعت سيدي علي الخواص يقول: يدخل الناس
في الجنة على حسب سرعة مبادرتهم لحضور الجمعة وحسب بطئهم فمن حضر المسجد أولا دخل
الجنة أولا ومن حضر ثانيا دخل الجنة بعده وهكذا. اه ويقاس الجمعة في ذلك المسارعة
لكل خير. والله أعلم
وهذا العهد قد صار غالب الناس يخل به فلا
يكادون يحضرون إلا بعد أن يصعد الإمام المنبر وبعضهم يفوته سماع الخطبتين وبعضهم
تفوته الركعة الأولى وبعضهم يفوته ركوع الثانية فيصليها ظهرا وكل ذلك أصله قلة
الاهتمام بالدين ولو أنه وعد بدينار إن حضر قبل الوقت لترك كل عائق دون ذلك وربما
كان تخلف بعضهم للهو واللعب والوقوف على حلق المخبطين والمسخرة وربما كان تخلفه
حتى عمم عمامة تعجبه فصار يهدمها ويبنيها حتى فرغ الخطيب بل رأيت من شرع في
تعميمها من طلوع الشمس فلم يزل يهدمها ويبنيها حتى صلوا من الجمعة ركعة وذلك ربما
يكون معدودا من الجنون نسأل الله اللطيف
وكان سيدي محمد بن عنان يستعد لحضور
الجمعة من عصر يوم الخميس فلا يزل مراقبا لله تعالى حتى يحضر المسجد ولكل مقام
رجال {والله غفور رحيم}
- روى الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما
مرفوعا: [[أن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم
الأضحى ويوم الفطر وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه ما سأل ما لم
يسأل حراما]]
وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[إن
فيه يعني يوم الجمعة لساعة لا يوافقها مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه]]
الحديث
وروى أبو يعلى وغيره مرفوعا: [[أن يوم
الجمعة وليلة الجمعة أربعة وعشرون ساعة ليس فيها ساعة إلا ولله فيها ستمائة ألف
عتيق من النار]]
رواه البيهقي مختصرا بلفظ: [[لله في كل
جمعة ستمائة ألف عتيق من النار]]
زاد في رواية [[كلهم استوجبوا النار]]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا أن النبي
صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: [[فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم
يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه وأشار بيده يقللها]]
وزاد وفي رواية للترمذي وابن ماجه: [[قالوا
يا رسول الله أية ساعة هي ؟ قال حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها]]
وفي رواية للترمذي والطبراني مرفوعا: [[التمسوا
الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس]]
وفي رواية لابن ماجه على شرط الشيخين: [[هي
آخر ساعات النهار فقال عبدالله بن سلام: إنها ليست ساعة صلاة ؟ قال بلى إن العبد
إذا صلى ثم جلس لم يحبسه إلا الصلاة فهو في صلاة]]
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا: [[بعد ذكر
يوم الجمعة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له]]
وروى الأصبهاني مرفوعا: [[الساعة التي
يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس أغفل ما
يكون الناس]]
قال الإمام أحمد: وأكثر الأحاديث في
الساعة التي ترجى فيها استجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر وقال: وترجى بعد الزوال
وقال ابن المنذر: روينا عن أبي هريرة أنه
قال: هي من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس
وقال الحسن البصري وأبو العالية: هي عند
زوال الشمس
وعن عائشة أنها من حين يؤذن المؤذن لصلاة
الجمعة
وفي رواية عن الحسن أنه قال: هي إذا قعد
الإمام على المنبر حتى يفرغ
وقال أبو بردة: هي الساعة التي اختار
الله فيها الصلاة
وبالجملة فالأقوال في ذلك كثيرة ولا يعرف
الساعة حقيقة إلا أهل الكشف. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نستعد لساعة الإجابة التي
في يوم الجمعة ونقلل الأكل والشرب ونمنع اللهو واللغو والغفلة والذي أعطاه الكشف
أن الساعة نحو خمس درج فينبغي أن لا يغفل العبد إلا بمقدار نحو درجتين ليبقى له من
الساعة نحو ثلاث درج الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وهذه الساعة مبهمة في اليوم
كليلة القدر في ليالي رمضان وتنتقل بيقين كما يؤيده الأحاديث والأخبار التي تأتي
آخر العهد وكما أعطاه الكشف فتارة تكون في بكرة النهار وتارة تكون في آخر النهار
وتارة تكون بعد الزوال إلى أن تنقضي الصلاة وهو الأغلب
وبالجملة أهل الحجاب ومحبة الدنيا في
غفلة عن مثل هذا المشهد لا سيما طائفة المجادلين ومن يعبد الله على جهل وإنما
خصصنا معظم الخير الذي يرجى في ساعة الإجابة بمن يشعر بها تحصيلا للقيام بآداب
العبودية الظاهرة وإلا فقد ورد: [[من أشغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى
السائلين]]
فافهم وإن كان ولا بدلك من الاشتغال بذكر
أو قرآن فينبغي ذلك بحضور مع الله تعالى لا كما عليه الطائفة الذين يعبدون الله
وقلبهم غافل عن الله تعالى فيفوتهم الحضور الذي هو قوت الأرواح وربما اشتغل أحدهم
بالقرآن أو الذكر ومرت عليه الساعة ولم يشعر بها
فاعمل يا أخي على جلاء مرآة قلبك لتدرك
ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائل لوسع الكرم الإلهي فيها ولا تطلب معرفتها بلا
جلاء فإن ذلك لا يكون وكم من نفحات للحق في الليل والنهار والناس في غفلة عنها
وقد أخبرني شيخنا عن الشيخ أحمد بن
المؤذن بناحية منية أبي عبدالله أنه جلس مراقبا الله تعالى لمدة أربعين سنة لا يضع
جنبه الأرض وكان أولياء عصره يقولون: ما ترك هذا قطرة مدد تنزل من السماء في ليل
أو نهار إلا وله فيها حظ ونصيب
وأخبرني سيدي علي الخواص أن سيدي عيسى بن
نجم خفير بحر البرلس مكث مراقبا لله تعالى بوضوء واحد مدة سبع عشرة سنة فلم تنزل
قطرة مدد من السماء إلا وله فيها نصيب فإن لم تستطع يا أخي دوام المراقبة كالقوم
فواظب على الساعات التي ورد فيها التجلي الخاص والله يتولى هداك
- روى الطبراني وغيره مرفوعا: [[من اغتسل
يوم الجمعة كفرت عنه ذنوبه وخطاياه]]
وفي رواية للطبراني مرفوعا ورواته ثقات: [[إن
الغسل يوم الجمعة ليسل الخطايا من أصول الشعر استلالا]]
وروى ابن خزيمة في صحيحه والطبراني
مرفوعا: [[من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى]]
وفي رواية لابن حبان في صحيحه: [[من
اغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهرا من الجمعة إلى الجمعة]]
وروى مسلم وغيره مرفوعا: [[غسل الجمعة
واجب على كل محتلم]]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن: [[إن هذا يوم
عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء يوم الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم
بالسواك]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نواظب على غسل الجمعة
صيفا وشتاء ولا نتركه إلا لعذر شرعي وفي ذلك من الأسرار ما لا يذكر إلا مشافهة
وكان الإمام الشافعي يقول: ما تركت غسل
الجمعة في شتاء ولا صيف ولا سفر ولا حضر وهذا العهد يخل به كثير من الناس حتى بعض
الفقراء وطلبة العلم فتراهم يتساهلون به ويستثقلونه إما كسلا أو لعدم سماحة نفوسهم
بفلوس الحمام
ومن الحكمة الظاهرة في الغسل انتعاش
الأعضاء بالماء حتى يصير بدنه كله حيا فيناجي الله بكل عضو فيه ولذلك أمرنا الشارع
بالغسل قبل الذهاب إلى الجمعة لنصلي على أثر الغسل ولو أمرنا بالغسل أول ليلة
الجمعة ربما تخلل ذلك معصية أو غفلة فيموت البدن وإذا مات فما يبقى يناجي ربه
ويتضرع إليه على الوجه المطلوب من العبد فتأمل ذلك. والله تعالى أعلم
- روى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه
مرفوعا: [[من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه
ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما]]
وروى أيضا مرفوعا: [[يحضر الجمعة ثلاثة
نفر: فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها. ورجل حضرها يدعو الله فذلك إلى الله فإن شاء
قبله وإن شاء رده. ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي
كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول: [[من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن ننصت لسماع الخطيب حتى لا
يفوتنا سماع شيء من الوعظ الذي يمكننا سماعه وأن نأخذ كل كلام سمعناه من الواعظ في
حق أنفسنا كما نأخذه في حق غيرنا وهذا العهد قد أكثر الناس الإخلال به حتى بعض
فقراء هذا الزمان وطلبة العلم يتلاهون عن سماع كلام الخطيب وإن سمعوا ذلك أخذوه في
حق غيرهم من الظلمة وأعوانهم دون أنفسهم وغاب عنهم أنهم ظلموا أنفسهم بالوقوع في
المعاصي المتعلقة بالله وبخلقه وما أحد منهم سلم منها بل بعضهم يرى نفسه على
الخطيب وأنه لا يحتاج إلى سماع وعظه ويقول: جميع ما قاله الخطيب معروف وبعضهم يقول:
الإنصات سنة ويؤدي إلى حرام وذلك أننا نسمع منه الوعظ ولا نعمل به وهذا جهل عظيم
من هذا القائل ولو فتح هذا الباب لأدى إلى كراهة سماع كلام الله تعالى وكلام رسوله
صلى الله عليه وسلم لكون الناس عاجزين عن العمل بذلك على التمام ولا قائل بذلك
فاخضع يا أخي لله تعالى واسمع الوعظ من
الخطيب فإنه على لسان الحق لا سيما إن خاطبك بنحو قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}
و{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} فإنك المخاطب بذلك قطعا من الحق
على لسان ذلك الخطيب ولو كشف الله لغالب الخلق لرأوا في نفوسهم جميع الذنوب
والقبائح إما فعلا وإما قولا وصلاحية ولكنهم قد صاروا في غمرة ودعوى ومقت حتى لا
يكاد أحد منهم يتعظ بوعظ واعظ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
- روى النسائي والبيهقي مرفوعا والحاكم
موقوفا وقال صحيح الإسناد: [[من قرأ سورة الكهف في الجمعة أضاء له من النور ما بين
الجمعتين]]
ولفظ الدارمي موقوفا: [[من قرأ سورة
الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق]]
وفي إسناده أبو هاشم والأكثرون على
توثيقه
وروى ابن مردويه في تفسيره بإسناد لا بأس
به مرفوعا: [[من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت أقدامه إلى عنان
السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين]]
وروى البيهقي والأصبهاني مرفوعا: [[من
قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له]]
وفي رواية: [[من قرأ حم الدخان في ليلة
أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك]]
وفي رواية للطبراني والأصبهاني أيضا
مرفوعا: [[من صلى بسورة الدخان في ليلة بات يستغفر له سبعون ألف ملك]]
وفي رواية أخرى لهما مرفوعا: [[من قرأ حم
الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة]]
وروى الأصبهاني مرفوعا: [[من قرأ سورة يس
في ليلة الجمعة غفر الله له]]
وروى الطبراني مرفوعا من قرأ السورة التي
يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس]]. والله
تعالى أعلم
- (أخذ علينا العهد من رسول الله صلى
الله عليه وسلم) أن نواظب على قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها وكذلك نواظب
على قراءة آل عمران ويس وحم الدخان اهتماما بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لنا
بذلك سواء أعقلنا سر تخصيص هذه السور بليلة الجمعة أم لم نعقل ذلك ولو أن العقول
تحمل سر ذلك لأوضحناه للناس ولكن من الأدب كتم ما كتمه الشارع وإظهار ما أظهر من
إضاءة النور والمغفرة ونحو ذلك والله حليم حكيم
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[بني
الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان]]
وروى الطبراني مرفوعا: [[الزكاة قنطرة
الإسلام]]
وروى أبو داود مرسلا والطبراني والبيهقي
مرفوعا متصلا قال الحافظ المنذري والمرسل أشبه: [[حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا
مرضاكم بالصدقة]]
يعني النافلة والأحاديث في الزكاة كثيرة
مشهورة. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نرغب إخواننا أصحاب
الأموال بأن يعطفوا على فقراء بلدهم ويخرجوا زكاتهم ونبين لهم مرتبة الزكاة من
الدين والإيمان فربما كان المانع لهم من إخراج زكاة أموالهم جهلهم بما ورد فيها من
الآيات والأخبار لقلة مجالستهم للعلماء فإذا بينا لهم مرتبة وجوب الزكاة ولم
يخرجوا هجرناهم وجوبا لقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فإخوانكم في الدين}
ومفهومه أن من لم يقم الصلاة ولم يؤد
الزكاة فليس هو من إخواننا في الدين ولا يخفى حكمه فوالله لقد صارت أفعال غالب
الخلق كأفعال من لا يؤمن بيوم الحساب ولا بما توعد الله تعالى عليه عباده فإن من
لم يكن عنده ما توعده الله عليه أو وعده من الأمور المغيبة عنه كالحاضر فإيمانه
مدخول
وتأمل يا أخي لو أن السلطان أوقد نارا
لمانع الزكاة وقال إن لم تخرج زكاتك أحرقتك في هذه النار كيف يخرجها ولا يتوقف
أبدا ؟ ولو قال له صديقه لا تخرج زكاتك لا يطيعه وذلك لشهود النار وتعذيبه بها
عاجلا غير آجل فهكذا فليكن الأمر فيما توعد به الحق تعالى عباده على لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم
ثم تأمل يا أخي في تسمية الله تعالى
إخراج الإنسان حق الله تعالى في ماله زكاة: أي نمو وزيادة تعرف أن ذلك إنما هو
امتحان لمن يدعي الإيمان وتصديق الله تعالى فيما أخبر به هل يصدقه في زيادة المال
إذا أخرج حق الله منه ويكون في شهوده كالزيادة أم لا ؟ وتأمل لو جلس يهودي بشكارة
ذهب وقال لكل من مر عليه من المؤمنين كل من أعطى هذا الفقير درهما أعطيته دينارا
كيف يتزاحم الناس على إعطاء هذا الفقير لأجل زيادة العوض ؟ وقد قال الله تعالى: {مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}
وقال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} وقال صلى الله عليه وسلم ما نقص مال من
صدقة]]
فليمتحن المدعي للتصديق بكلام الله
ورسوله نفسه فإن رآها لا تمل من الإعطاء أبدا للفقراء ولو طلبوا منه جميع ما معه
أعطاه لهم فليحكم لها بكمال الإيمان وإن رآها تمل من ذلك فليحكم عليها بنقص
الإيمان وربما كان أحدهم يعطي الفقراء لكثرة ما جرب من إضعاف التوسعة عليه كما
أعطى فهذا عبد تجربة فربما كان الحاث له على العطاء كون الحق تعالى يخلف عليه
أضعاف ما أعطى والمؤمن الكامل من أعطى عباد الله تعالى امتثالا لأمر الله لا لعلة
إخلاف الله عليه ولا غير ذلك اللهم إلا إن يريد بكثرة الإعطاء كثرة الإنفاق في
مرضاة الله تعالى فهذا لا مانع منه وربما كان الإنسان يخف عليه إعطاء الدينار
للسائل أول مرة ثم إذا طلب منه السائل دينارا ثانيا أعطاه ولكن ببعض ثقل ثم إذا
سأله ثالثا أعطاه بثقل لكن أعظم من الثاني وهكذا حتى ربما لا يصل إلى الدينار
العاشر ومعه بقية داعية للعطاء فلو أن مثل هذا كان كامل الإيمان لكان آخر دينار في
الخفة عليه كأول دينار على حد سواء في الخفة
وقد أخبرني الشيخ جمال الدين ابن شيخ
الإسلام زكريا أن الشيخ فرجا المجذوب لقيه ومعه أربعون نصفا فسأله الشيخ فرج نصف
فأعطاه ثم سأله آخر فأعطاه فما زال يسأله حتى بقي معه نصف واحد من الأربعين فقال
أعطني النصف الآخر فقال: يا شيخ فرج أنا محتاج إليه فقال: قد كتبت لك وصولا على
شموال اليهودي بتسعة وثلاثين دينارا فقال: قف خذ النصف الآخر فقال ما رضيت قال
الشيخ جمال الدين: فبينما أنا جالس في أثناء النهار فإذا يهودي يدق الباب فقلت له
من هذا فقال يهودي فقلت له أدخل فقال: إن والدك كان أعطاني أربعين دينارا قرضا وما
بيني وبينه إلا الله تعالى وقد عجزت عن دينار منها فأبرئ ذمتي ووضع الدنانير بين
يدي فمن ذلك اليوم ما سألني الشيخ فرج شيئا ومنعته إياه قال سيدي جمال الدين:
فندمت أني ما كنت أعطيته النصف الآخر فإنه عوض لي في كل نصف واحد أربعين نصفا ثم
قال تبت إلى الله تعالى أن أحدا من أولياء الله يطلب مني شيئا ولا أعطيه له اه
فانظر يا أخي كيف صار إيمان سيدي جمال
الدين في آخر نصف من توقفه ولو أنه كشف حجابه لم يتوقف في آخر نصف بل كان يعطيه من
غير توقف قال سيدي جمال الدين: ثم إني لقيت الشيخ فرجا بعد ذلك فذكرت له القصة
فقال: إنما فعلت ذلك معك لأمرنك على معاملة الله تعالى فإذا كنت وأنا عبد قد وفيت
لك أضعاف ما أعطيتني فالحق تعالى أولى بذلك {ومن أوفى بعهده من الله}. فقلت له لأي
شيء ما قلت لي أعطني درهما أعطك بدله دينار ؟ فقال: كانت تبطل فائدة الامتحان لأنه
حينئذ يصير العوض مشهودا لك ولا تظهر ثمرة المحنة إلا إذا لم يذكر الممتحن العوض
وأوهمه أنه لا يعوض عليه بدل ذلك شيئا اه
فاعلم أن الواجب على العبد أن يعطي الله
ما أمره به محبة في ربه تعالى لا طلبا للعوض الدنيوي أو الأخروي فإن ذلك سوء أدب
وجهل بعظمة الله تعالى
فأخرج يا أخي زكاتك طوعا وامتثالا لأمر
ربك وإن لم تطاوعك نفسك فاتخذ لك شيخا يرقيك إلى كمال الإيمان فهناك لا تتوقف على
توعده لك بحرقك بالنار إن لم تخرج زكاتك فإنك تصير كمن آمن كرها فلا يصح إيمانك
والله يتولى هداك
- روى الإمام أحمد واللفظ له وأبو داود
والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[العامل على الصدقة بالحق لوجه
الله تعالى كالغازي في سبيل الله تعالى حتى يرجع إلى أهله]]
وفي رواية للطبراني مرفوعا: [[العامل إذا
استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته]]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مرفوعا: [[خير
الكسب كسب العامل إذا نصح]]
وروى الإمام أحمد مرفوعا وفي إسناده
مجهول: [[ستفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله
تعالى وأدى الأمانة]]
وروى أبو داود مرفوعا: [[من استعملناه
على عمل فرزقناه رزقا فأخذ فوق ذلك فهو غلول]]
وفي رواية لمسلم وأبي داود وغيرهما
مرفوعا: [[من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم
القيامة]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نساعد الفقراء بالعمالة
إذا طلب منا الفقراء أن نكون عمالا لهم على الزكاة إلا إذا لم نثق بنفوسنا في جميع
ذلك وإعطائه للفقراء من غير غلول فإن خفنا ذلك تركنا العمالة تقديما لمصلحة نفوسنا
على مصلحة الغير وهذا العهد يخل به كثير من الفقراء والعلماء ويقولون: أي شيء لنا
في ذلك ؟ فإن شاءوا يعطون الفقراء وإن شاءوا يمنعوهم وغاب هؤلاء عن قول الله تعالى:
{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}
يعني اطلبها منهم ولا تتوقف على أنهم
يعطونها لك بغير سؤال فإن المال محبوب للنفوس وقليل من الناس من يوق شح نفسه فكان
على هذا القدم سيدي الشيخ أبو بكر الحديدي رحمه الله تعالى فكان يأخذ من الناس
الزكاة بالإلحاح ويعطيها للفقراء والمساكين فقيل له إنهم يصيرون يكرهونك فقال سوف
يحبوني في الآخرة حين يرون ثواب أعمالهم اه
وقد قال أخي أفضل الدين لشخص مرة لا تترك
فعل الخير ولو خفت أن يذمك الناس فقال له سيدي علي الخواص ولو ذموك وفرغوا من الذم
اه
فافعل يا أخي كل شيء ندبك الشرع إليه ولا
تتعلل بعذر عادي من حياء أو خوف ذم فإن العذر لا يقبل إلا إن كان شرعيا كخوفه على
نفسه من الغلول لما يعلم من شدة محبة نفسه للدنيا وميله إليها فروض يا أخي نفسك
مدة قبل دخولك في جباية الأموال والله يتولى هداك
- روى الشيخان واللفظ للبخاري مرفوعا:
اليد العليا خير من اليد السفلى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله. قال
الخطابي وقد اختلف الناس في المراد باليد العليا فقال بعضهم هي المنفقة والأشبه أن
يكون المراد بها المتعففة لأنها أوضح من حيث المعنى. والله تعالى أعلم
وروى البزار مرفوعا: [[إن الله تعالى يحب
الغني المتصدق والفقير المتعفف]]
وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا: [[أول
ثلاثة يدخلون الجنة: الشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيف متعفف ذو
عيال]]
وروى الطبراني مرفوعا: [[ومن يقنع يقنعه
الله]]. وفي رواية له مرفوعا: [[عز المؤمن استغناؤه عن الناس]]
وروى الشيخان مرفوعا: [[ليس الغنى عن
كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس. والعرض كل ما يقتنى من المال وغيره]]
وروى مسلم وغيره مرفوعا: [[اللهم إني
أعوذ بك من نفس لا تشبع]]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[إنما
الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب]]
وروى الشيخان مرفوعا: [[ليس المسكين الذي
ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا
يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس]]
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا: [[قد
أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه]]. والكفاف من الرزق ما كف عن السؤال
مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا: [[يا
ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تستكثر فشر لك ولا تلام على كفاف]]
يعني أن تطلب من الدنيا ما يكفيك ويغنيك
عن سؤال الناس. وروى البيهقي مرفوعا: [[القناعة كنز لا يفنى]]. قال الحافظ المنذري
ورفعه غريب وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا: [[من أصبح آمنا في سربه معافى في
بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها]]. والمراد بسربه: نفسه. وروى
البخاري وابن ماجه وغيرهما مرفوعا: [[لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة حطب على
ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه]]. وروى
البخاري مرفوعا: [[ما أكل أحد طعاما خير له من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله
داود كان يأكل من عمل يده]]. قال بعضهم كان يضفر الخوص ويعمل أدراع الحديد. وروى
أبو داود والترمذي: [[أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال:
أما في بيتك شيء ؟ فقال بلى حلس ؟ ؟ نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب ؟ ؟ نشرب فيه الماء
فقال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال: من
يشتري هذين ؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا ؟ فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ
الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر
بالآخر قدوما فائتني به فلما أتاه به شد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا
بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم
فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك
من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي
فقر مدقع ولذي غرم مفظع ولذي دم موجع]]. والمدقع هو الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء
يعني الأرض التي لا نبات بها والغرم هو الذي يلزم صاحبه أداؤه يتكلف فيه لا في
مقابلة عوض والمفظع هو الشديد الشنيع والدم الموجع هو الذي يتحمل عن قريبه أو
حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول. ولو لم يفعل قتل
قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يكون سدانا ولحمتنا
القناعة والتعفف والأكل من الكسب الحلال بطريقة الشرع الشامل لمد اليدين بالدعاء
إلى حضرة الله تعالى إذا عجزنا عن عمل الحرفة المعتادة ولا نأكل بديننا وهذا العهد
لا يعمل به على وجهه إلا من سلك الطريق على يد شيخ وإلا فلا يشم من العمل به رائحة
فإن العبد ما لم يصل إلى معرفة الله تعالى لا يصح له في القناعة والتعفف قدم وذلك
أنه إذا عرف الله تعالى فمن لازمه الرضا به من الكونين ولا يطلب قط فيهما نعيما
غير مجالسة الحق جل وعلا ولا يبالي بما فاته منهما إذا كان الحق تعالى له عوضا من
كل شيء وأما من لم يصل إلى معرفة الله تعالى فمن لازمه شراهة النفس لأن الدنيا
مشهودة فلذلك كان هذا العهد يخل به كثير من الناس في هذا الزمان حتى لا يكاد
الإنسان يرى متعففا ولا قانعا ولا متورعا في اللقمة أبدا بل غالب الفقراء يقولون
وخلق لكم وغيرهم يقول هات لنا ولا تفتش وبعضهم يقول الحرام علينا هو ما لم تصل
يدنا إليه وهذا كلام لا يجوز لمؤمن أن يتلفظ به لئلا يسمعه بعض العوام فيتبعه على
ذلك
ومن هنا قال العارفون: يجب على من لم يكن
لديه ورع أن يتفعل في التورع فإن لم يكن له نية صالحة في الورع فربما صلحت نية من
يتبعه في الورع وقالوا أيضا: يجب على العالم إذا لم يعمل بعلمه أن يعمله لمن يعمل
به
وقالوا إذا رأيت عالما لا يعمل بعلمه
فاعمل أنت به يحصل لك وله الخير. [[والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه]]
ثم لا يخفى أن من أقبح الصفات عدم تعفف
العالم والصالح وطلبهما من الولاة جوالي أو مسموحا أو مرتبا على بساط السلطان ثم
يطلبان بعد ذلك تمشية شفاعتهم عندهم في أمور المسلمين وهذا أمر لا يتم لهم فإن شرط
الشافع العفة والورع عما بأيدي الولاة فإنهم إذا رأوه زاهدا فيما رغب فيه ملوكهم
فضلا عنهم عظموه ضرورة وأحبوه وقبلوا شفاعته وتبركوا به وقد كثر طلب الدنيا من
طائفة الفقراء وغيرهم وصاروا يسافرون من نحو مصر إلى بلاد الروم والعجم ويتعللون
بضيق المعاش وربما يكون أحدهم كاذبا لأن عنده في بلده ما يكفيه الكفاية اللائقة
بأمثاله وكان من الأدب لكل من عمل رئيسا في الناس أن يرد جميع ما يعرضه عليه أعوان
الظلمة والسلطان ويقول لهم: أعطوه لمن هو أنفع مني للمسلمين من الجند الذين
يسافرون في التجاريد ونحوهم فأما أنا فجالس أذكر الله تعالى في زاويتي أو أشتغل
بعلم ما أحد يعمل به والأمر في زيادة من حيث قلة العمل بالعلم فكيف أزاحم عسكر
السلطان على ماله
فاسلك يا أخي طريق الفقراء والعلماء
الذين مضوا ولا تتبع أهل زمانك تهلك
وقد بلغنا عن أبي إسحاق الشيرازي أنه
كانت تعرض عليه الأموال فيردها مع أن القمل سائح على وجهه ورأسه ولحيته وعليه فروة
كباشية ؟ ؟ وكان يتغذى بماء الباقلا فيفت الكسرة اليابسة ويغمسها بماء الفول رضي
الله تعالى عنه فاعلم ذلك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى
يقول: لله تعالى رجال يجمعون المال ولا يظهرون قناعة ويلحون في السؤال ثم يعطون كل
شيء حصل بأيديهم لمن هو محتاج إليه ولا يذوقون منه شيئا
فإياك يا أخي والمبادرة بالإنكار عليهم
وبعضهم يجمع من الدنيا عنده حتى لا
تستشرف نفسه لما في أيدي الناس أو يقف لهم على باب وكان على ذلك سفيان الثوري رضي
الله تعالى عنه
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى
عنه يقول: إذا ضاق على فقير أمر معيشته فليسأل الله تعالى في تيسير رزق حلال مما
قسمه الله تعالى له ولا يعين جهة ليكون ذلك معدودا من جملة الرزق الذي لا يحتسبه
فإن كان شيء جاء باستشراف نفس فهو غير مبارك فيه كما صرحت به الشريعة ثم نقل عن
الشبلي أنه كان إذا جاع مد يده وسأل الله تعالى وقال هذا كسب يميني
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى
يقول: لا ينبغي لفقير أن يأكل مما وعده به أحد لأن نفسه تصير متشوقة إليه حتى يحضر
وجاءه مرة إنسان وقال قد خرجت لكم عن
قنطار عنب فأرسل معي أحدا يحمله فأبى وقال لا نحب أن نأكل إلا ما لم يكن في حسابنا
فإذا خرجت بعد ذلك عن شيء للفقراء فلا تعلمهم به قبل حضوره إن طلبت أنهم يأكلون
منه
وبلغنا عن إبراهيم أنه فقد الحلال فسف من
التراب مدة أربعين يوما حتى وجد الحلال اللائق بحاله ومقامه
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى
يقول: ينبغي لكل مؤمن في هذا الزمان إذا حضر عنده طعام أو شراب أن لا يأكل منه حتى
يقول بتوجه تام: اللهم إن كان في هذا الطعام شبهة حرام فاحمني منه وإن لم تحمني
منه فلا تجعله يقيم في بطني وإن جعلته يقيم في بطني فاحفظني من المعاصي الناشئة من
أكله فإن لم تحفظني منها فمن علي بالتوبة النصوح فإن لم تمن علي بالتوبة فالطف بي
ولا تؤاخذني يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين
وكان يقول: لا ينبغي لفقير السؤال حتى
يبيع آلات الدار الزائدة على الضرورة كالطراحة والمخدة والعمامة الزائدة والثوب
الزائد والأواني كلهم حتى نعله الزائد
وكان يقول لا ينبغي لفقير في هذا الزمان
إذا وجد الحلال الصرف أن يشبع منه بل يأكل بقدر سد الرمق فقط خوفا أن يقع في
الحرام. وسمعته أيضا يقول: ليست القناعة أن تأكل كل ما وجدته ولو كسرة يابسة كل
يوم وإنما القناعة أن تطوي الثلاثة أيام فأكثر مع وجود الأكل عندك. ولعل مراده رضي
الله عنه الطي الذي لا يضر الجسم فإن جوع المحققين إنما هو اضطرار لا اختيار وذلك
لأن الكامل يجب عليه إعطاء كل ذي حق حقه من جسمه أو غيره ولا يظلم شيئا من رعيته
سواء الجوارح وغيرها. وبالجملة فلا بد لمن يريد العمل بهذا العهد من شيخ يسلك به
حتى يخرجه من حضرات الاتهام ويدخله حضرات اليقين فيعرف إذ ذاك أن ما قسمه الله
تعالى لعبد لا يمكن أن يفوته وما لم يقسمه له لا يتبعه نفسه
ومن هذا الباب أيضا الأقدار الجارية على
العبد فإنها لا تخلو عن كون ذلك الأمر الذي دافع العبد الأقدار في عدم وقوعه مقدرا
أو غير مقدر فإن كان مقدرا فلا فائدة في المدافعة إلا تعظيم انتهاك محارم الله
تعالى لا غير وقد كلف الله تعالى العبد بذلك وجعل له الثواب فيه سواء كان مقدرا أو
غير مقدر حتى أنه لو كشف له أن الله تعالى كتب عليه الزنا أو شرب الخمر لا يجوز له
المبادرة إلى ذلك لأنها مبادرة إلى ما يسخط الله تعالى فيجب عليه الصبر حتى يقع
ذلك في حالة غفلة أو سهو كما أشار إليه خبر: [[إذا أراد الله تعالى إنفاذ قضائه
وقدره سلب من ذوي العقول عقولهم]]. يعني عقولهم الحافظة عن الوقوع لا عقول التكليف
فافهم لئلا يؤدي إلى إبطال الحدود كلها فتأمل في هذا المحل واعمل به
وقد كان أخي الشيخ عبدالقادر رحمه الله
تعالى على هذا القدم فأرسلت مرة أن يجعل على مقثأة البطيخ حارسا حتى يحضر له
بالمركب يوسقه فأرسل يقول: لي المؤمن لا يحتاج إلى مثل ذلك فإن ما قسمه الله تعالى
لأهل الريف أن يأكلوه لا يقدر أحد يحمل منه إلى مصر بطيخة واحدة وما قسمه الله
تعالى لأهل مصر لا يقدر أحد من أهل الريف يأكل منه بطيخة واحدة ومن كان إيمانه
كذلك لا يحتاج إلى حارس. هذا في ملك الإنسان نفسه أما مال الغير فيجب على الحارس
حفظه وإن لم يحرسه إثم ولم يستحق أجره فافهم والله يتولى هداك
- روى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا: [[من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته
ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله تعالى له برزق عاجل أو آجل. وفي رواية
للحاكم: أرسل الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى آجل]]. وفي رواية للطبراني
مرفوعا: [[من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس وأفضى به إلى الله كان حقا على الله أن
يفتح له قوت سنة من حلال]]. والله تعالى أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق