لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية
الإمام
عبد الوهاب الشعراني رحمه الله
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله
إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله سيد الأولين
والآخرين اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم
أجمعين صلاة وسلاما دائمين متلازمين أبد الآبدين آمين (وبعد) فهذا كتاب نفيس لم
يسبقني أحد إلى وضع مثاله ولا أظن أحدا نسج على منواله ضمنته جميع العهود التي
بلغتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل المأمورات وترك المنهيات (وسميته
لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية) وكان الباعث لي على تأليفه ما رأيته من
كثرة تفتيش الإخوان على ما نقص من دنياهم ولم أرى أحدا منهم يفتش على ما نقص من
أمور دينه إلا قليلا فأخذتني الغيرة الإيمانية عليهم وعلى دينهم فوضعت لهم هذا
الكتاب المنبه لكل إنسان على ما نقص من أمور دينه فمن أراد من الإخوان أن يعرف ما
ذهب من دينه فلينظر في كل عهد ذكرته له في هذا الكتاب ويتأمل في نفسه يعرف يقينا
ما أخل به من أحكام دينه فيأخذ في التدارك أو الندم والاستغفار إن لم يمكن تداركه
ثم لا يخفى عليك يا أخي أن مجموع أحكام الشريعة ترجع إلى ثلاثة أمور: أمر ونهي
ومرغوب فيه لم يصرح الشارع فيه بأمر ولا نهي وإنما رغب في فعله بالثواب أو رهب من
تركه بفوات الثواب كالوضوء على الوضوء فإن الترغيب في فعل شيء مؤذن بالرضا عن
فاعله كما أن الترهيب من فعل شيء مؤذن بعدم الرضا عن فاعله وإن كان ذلك لم يلحق
بدرجة الأمر والنهي الصريحين وعبارة الشيخ عز الدين بن عبدالسلام في قواعده الكبرى
اعلم أن كل فعل مدح في نفسه أو مدح فاعله من أجله أو وعد عليه بخير عاجل أو آجل
فهو مأمور به لكنه متردد بين الإيجاب والندب اه
وقد قسمت الكتاب على قسمين: القسم الأول
في بيان ما أخل به الناس من المأمورات. والقسم الثاني في بيان ما أخل به الناس من
اجتناب المنهيات وإنما بدأت في أول الكتاب بقسم المأمورات وأخرت المنهيات وإن كان
الواقعون في المنهيات أكثر عملا بالأصل من حيث أن الطاعات أصليه والمعاصي عارضه
وأن كل مؤمن يود أن يطيع الله تعالى ولا يعصي أمره أبدا ولكن الله تعالى في تقديره
المعاصي على عبده حكم وأسرار لا تخفى على من في قلبه نور ثم اعلم يا أخي أن طريق
العمل بالكتاب والسنة قد توعرت في هذا الزمان وعز سالكها لأمور عرضت في الطريق
يطول شرحها حتى صار الإنسان يرى الأخلاق المحمدية فلا يقدر على الوصول إلى التخلق
بشيء منها فلذلك كنت أقول في غالب عهود الكتاب وهذا العهد يحتاج من يعمل به إلى
شيخ يسلك به الطريق ويزيل من طريقه الموانع التي تمنعه عن الوصول إلى التخلق به أو
نحو ذلك من العبارات إشارة إلى أنه لا يلزم من معرفة الفقيه بالأحكام الوصول إلى
العمل بها بل يحتاج مع ذلك إلى شيخ يريه معالم الطريق كما وقع للإمام الغزالي
والشيخ عز الدين بن عبدالسلام وغيره وإنما شيدت كل عهد منه بالأحاديث الشريفة
إعلاما لك يا أخي بأن عهود الكتاب مأخوذة من الكتاب والسنة نصا واستنباطا لئلا
يطعن طاعن فيها وسد الباب الدس من الحسدة في هذا الكتاب كما وقع لي ذلك في كتاب
البحر المورود في المواثيق والعهود الذي جمعت فيه عهود المشايخ التي أخذوها علي
فإن بعض الحسدة لما رأى إقبال الناس على تلك العهود وعرف عجزه عن الوفاء بها مع
ادعائه المشيخة عمل حيلة واستعار من بعض المغفلين من أصحابي نسخة وأوهمه شدة
الاعتقاد في جنابي وكتب منها عدة عهود ودس فيها أمورا مخالفه لظاهر الكتاب والسنة
وأشاعها عني في مصر فحصل بذلك فتنة عظيمة في الجامع الأزهر وغيره وانتصر لي الشيخ
ناصر الدين اللقاني والشيخ شهاب الدين الرملي وجماعة وأجابوا عني بتقدير صحة ذلك
مني وما سكنت الفتنة حتى أرسلت للعلماء نسختي التي عليها خطوطهم ففتشوها فلم يجدوا
فيها شيئا مما دسه الحسدة وأشاعوه عني ومن تلك الواقعة ما ألفت كتابا إلا وتعرضت
فيه لما دسته الحسدة في كتبي وتبرأت فيه من كل شيء يخالف الكتاب والسنة طلبا
لإزالة ما في نفوس بعض الناس لئلا يحصل لهم الإثم بذلك فهذا كان سبب تشييدي لعهود
هذا الكتاب بالأحاديث والآثار فإن الحاسد لو دس فيه شيئا يخالف الأحاديث التي
أذكرها لا يروج له أثر عند الناس وكيف يستدل مؤلف لكلامه بالأحاديث التي يخالفه
منطوقها أو مفهومها هذا أمر بعيد فالله يحفظ هذا الكتاب من مثل ذلك إنه سميع مجيب
واعلم يا أخي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما كان هو الشيخ الحقيقي لأمة الإجابة كلها ساغ لنا أن نقول في تراجم عهود
الكتاب كلها أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعني معشر جميع الأمة المحمدية فإنه صلى الله عليه وسلم إذا خاطب
الصحابة بأمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب انسحب حكم ذلك على جميع أمته إلى يوم
القيامة فهو الشيخ الحقيقي لنا بواسطة أشياخ الطريق أو بلا واسطة مثل من صار من
الأولياء يجتمع به صلى الله عليه وسلم في اليقظة بالشروط المعروفة عند القوم وقد
أدركت بحمد الله تعالى جماعة من أهل هذا المقام كسيدي علي الخواص والشيخ محمد
العدل والشيخ جلال الدين السيوطي وإضرابهم رضي الله عنهم أجمعين ثم لا يخفى عليك
يا أخي أن من شأن أهل الله تعالى كونهم يأخذون العهد على المريد بتركه المباح
زيادة على الأمر والنهي طلب الترقية إذ المباح لا ترقي فيه من حيث ذاته وإنما هو
أمر برزخي بين الأمر والنهي جعله الله تعالى مرتبة تنفيس للمكلفين يتنفسون به من
مشقة التكليف إذ الإقبال على الله تعالى في امتثال الأمر واجتناب النهي على الدوام
ليس من مقدور البشر فأراد أهل الله تعالى للمريد أن يقلل من المباح جهده ويجعل
موضعه فعل مأمور واجتناب منهي أو مرغب في فعله أو تركه لأخذهم بالعزائم دون
الترخيصات فترى أحدهم يفعل المندوب مع شدة الاعتناء به كأنه واجب ويجتنب المكروه
كأنه حرام ويترك المباح كأنه مكروه ويفعل الأولى كأنه مستحب ويستغفر من فعل
المكروه كأنه حرام ويتوب من فعل خلاف الأولى كأنه مكروه ويتوب من ترك المندوب كأنه
واجب ومن القوم من يقلب المباح بالنية الصالحة إلى خير فيثاب عليه ثواب المندوب
كأن ينوي بأكله التقوي على عبادة الله تعالى أو بنومه في النهار التقوي على قيام
الليل عند من لم يصح عنده حديث استعينوا بالنوم في القيلولة على قيام الليل أما من
صح عنده هذا الحديث فهو مستحب أصالة لا جعلا وقد كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يسمي
النوم وردا ويقول لا أحد يوقظني من ورد النوم حتى أستيقظ بنفسي فعلم أن أهل الله
تعالى من شأنهم أن لا يوجدوا إلا في فعل واجب وما ألحق به من المندوب والأولى أو
في اجتناب منهي وما ألحق به من المكروه وخلاف الأولى فإياك يا أخي أن تبادر إلى
الإنكار عليهم إذا رأيت أحد منهم يأخذ العهد على مريد بتركه المباح وتقول كيف يأخذ
العهد على مريده بترك المباح مع أن الشارع أباحه له فإنك في واد وأهل الله في واد
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعض أهله عن فعل المباح فنهى فاطمة
رضي الله عنها عن لبس الحرير والذهب مع أنه صلى الله عليه وسلم أباحهما لإناث أمته
وقال: يا فاطمة من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ونهى صلى الله عليه
وسلم عائشة رضي الله عنها عن الأكل في يوم واحد مرتين وقال لها: أكلتان في النهار
إسراف والله لا يحب المسرفين مع أنه صلى الله عليه وسلم أباح لأمته أن يجمعوا كل
يوم بين الغداء والعشاء بل هو الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم رحمة بالضعفاء من
أمته وقد عمل القوم على نحو ذلك مع المريدين الصادقين فآخذوا المريد بتناوله
الشهوات المباحة وبوضعه جنبه إلى الأرض من غير ضرورة وبالأكل من غير جوع وبالنسيان
وبالاحتلام وكذلك آخذوه بمد رجله في ليل أو نهار إلا لضرورة إلى غير ذلك ولهم في
ذلك أدلة يستندون إليها فأما دليلهم في مؤاخذتهم المريد بأكل الشهوات المباحة فهو
كون الحق تعالى نعى أهل النار بأكلهم الشهوات بقوله تعالى {أذهبتم طيباتكم في
حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون {وقالوا ما نعاه الله تعالى
عن أهل النار وجزاهم عليه بالعذاب فالمؤمن أولى أن يتركه. وكان عبدالله بن مسعود
رضي الله عنه يقول في قوله تعالى {فسوف يلقون غيا {هو واد في جهنم يقذف فيه الذين
يتبعون الشهوات وأوحى الله تعالى إلى داود: يا داود حذر وأنذر قومك من أكل الشهوات
فإن قلوب أهل الشهوات عني محجوبة اه
والنوم كذلك بجامع الغفلة والحجاب عن
الله تعالى إلا لضرورة وأما دليلهم في مؤاخذتهم المريد بالنسيان فإنه لا يصح وقوعه
من المريد إلا بعد تعاطيه مقدمات ذلك الأمر الذي نسيه من الغفلة والتهاون به بدليل
ما قاله علماؤنا فيمن نسي الماء في رحله أو أضله فيه فلم يجده بعد الطلب فتيمم وصلى
أنه يقضي ما صلاه بالتيمم نسبوه إلى التقصير في نسيانه وإضلاله وقالوا لو صلى بنجس
لم يعلمه وجب القضاء في الجديد وإن علم به ثم نسي وجب القضاء على المذهب والنظائر
كثيرة. وكان الشيخ محي الدين بن العربي رضي الله عنه يقول إنما آخذ القوم المريد
بالنسيان لأن مبنى طريقهم على الحضور الدائم مع الله تعالى والنسيان عندهم نادر
والنادر لا حكم له مع أن القاعدة الشرعية رفع حكم النسيان إلا ما استثني كتدارك ما
نسيه من الصلاة وضمان ما أكله من طعام الغير بغير إذنه ناسيا ونحو ذلك ثم ليتأمل
ذلك الناسي في نفسه في شدة اعتنائها بتحصيل أمر الدنيا وعدم وقوعه في نسيانه كما
إذا وعده شخص بألف دينار يعطيها له في الوقت الفلان كيف يصير يتذكر ذلك لحظة بعد
لحظة حتى يأتي وقته حرصا على سحت الدنيا فأراد أهل الله تعالى من المريد أن يقلب
تلك الداعية التي عنده للدنيا ويجعلها لأمور الآخرة ليفوز بمجالسة الله تعالى في
الدارين وأما دليلهم في مؤاخذتهم المريد بالاحتلام فلأنه لم يقع منه إلا بعد
مقدمات التساهل بالنظر إلى ما لا يحل غالبا أو التفكير فيه فلما عجز عن الوصول
إليه حال النظر والتفكر أتاه إبليس في المنام ليسخر به فإن من لا يطلق بصره إلى
محرم ولا يتفكر فيه لا يحتلم أبدا ولذلك لم يقع الاحتلام إلا من المريدين والعوام
دون الأكابر فإن الأكابر إما معصومون كالأنبياء أو محفوظون كالأولياء ثم إن وقع أن
أحدا من أكابر الأولياء احتلم فإنما يكون ذلك في حليلته من زوجه أو جاريه لا فيما
لا يحل له وسببه غفلته عن تدبير جسده لما هو عليه من الاشتغال بالله تعالى أو أمر
المسلمين كما بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه احتلم في جاريته وقال: قد
ابتلينا بهذا الأمر منذ اشتغلنا بأمر المسلمين. وأما دليلهم في مؤاخذة المريد بمد
رجله من غير ضرورة في ليل أو نهار فهو علمهم بأن المريد بين يدي الله تعالى على
الدوام شعر بذلك أم لم يشعر فأرادوا منه أن يواظب على ترك مد رجله بحكم الإيمان
على أنه بين يدي الله حتى ينكشف حجابه ويشهد الأمر يقينا وشهودا وهناك يرى ضربه
بالسيف أهون عليه من مد رجله لغير حاجه بل لو خير بين مد رجله ودخول النار لاختار
دخول النار وقد بلغنا عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال: مددت رجلي بالليل
وأنا جالس أقرأ وردي وإذا بهاتف يقول يا إبراهيم ما هكذا ينبغي مجالسة الملوك.
قالوا فما مد إبراهيم رجله حتى مات بعد عشرين سنه
فعلم من مجموع ما قررناه من باب أولى أن
أهل الله تعالى لا يسامحون المريد بارتكابه شيئا من المكروهات فضلا عن المحرمات
الظاهرة أو الباطنة وأن طريقهم محررة على موافقة الكتاب والسنة كتحرير الذهب بخلاف
ما يظنه من لا علم له بطريقهم وقد أجمع أهل الله تعالى على أنه لا يصح دخول حضرة
الله تعالى في صلاة وغيرها إلا لمن تطهر من سائر الصفات المذمومة ظاهرا أو باطنا
بدليل عدم صحة الصلاة لمن صلى وفي ثوبه أو بدنه نجاسة غير معفو عنها أو ترك لمعه
من أعضائه بغير طهارة ومن لم يتطهر كذلك فصلاته صورة لا روح فيها لا حقيقية كما أن
من احتجب عن شهود الحق تعالى بقلبه في لحظة من صلاته بطلت صلاته عند القوم كذلك
وقد نبه الشارع صلى الله عليه وسلم باشتراط الطهارة الظاهرة على اشتراط الطهارة
الباطنة فأراد أهل الله تعالى من المريد أن يطابق في الطهارة بين باطنه وظاهره
ليخرج من صفة النفاق فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وفي حديث مسلم مرفوعا
أن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وكذلك أجمع
أهل الطريق على وجوب اتخاذ الإنسان له شيخا يرشده إلى زوال تلك الصفات التي تمنعه
من دخول حضرة الله تعالى بقلبه لتصح صلاته من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب ولا شك أن علاج الأمراض الباطنية من حب الدنيا والكبر والعجب والرياء والحسد
والحقد والغل والنفاق ونحوها كله واجب كما تشهد له الأحاديث الواردة في تحريم هذه
الأمور والتوعد بالعقاب عليها فاعلم أن لك من لم يتخذ له شيخا يرشده إلى الخروج من
هذه الصفات فهو عاص لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا يهتدي لطريق
العلاج بغير شيخ ولو حفظ ألف كتاب في العلم فهو كمن يحفظ كتابا في الطب ولا يعرف
ينزل الدواء على الداء فكل من سمعه وهو يدرس في الكتاب يقول أنه طبيب عظيم ومن رآه
حين يسأل عن اسم المرض وكيفية إزالته قال إنه جاهل فاتخذ لك يا أخي شيخا واقبل
نصحي وإياك أن تقول طريق الصوفية لم يأت بها كتاب ولا سنه فإنه كفر فإنها كلها
أخلاق محمدية سداها ولحمتها منها واعلم أن كل من رزقه الله تعالى السلامة من
الأمراض الباطنية كالسلف الصالح والأئمة المجتهدين فلا يحتاج إلى شيخ بل الإنسان
على نفسه بصيرة فأمعن يا أخي النظر في هذه الخطبة والكتاب واعمل به فإنك إن شاء
الله لا تضل ولا تشقى والحمد لله رب العالمين ولنشرع بعون الله تعالى في مقصود
الكتاب فنقول وبالله التوفيق. القسم الأول من الكتاب وهو قسم المأمورات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق