-
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم)
أن نقرض كل من استقرضنا من المحتاجين سواء كان مشهورا بحسن المعاملة أم لا امتثالا
لقول الله تعالى: {أقرضوا الله قرضا حسنا}. ومن أقرض الله تعالى من الخلق لا يطلب
جزاء
واعلم يا أخي أن الله تعالى لم يأمر
بالقرض إلا الأغنياء فهم الذين فازوا بلذة خطاب الله تعالى بقوله لهم: {أقرضوا}.
وأما الفقراء ففاتتهم تلك اللذة وذلك الأجر ومن هنا سارع الأكابر من الأولياء إلى
التكسب والتجارة والزراعة والحرفة ليفوزوا بلذة ذلك الخطاب لا لعلة أخرى من طلب
ثواب أو غيره قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة}. فوصفوا بالرجولية لأجل أكلهم من كسبهم وإقراضهم من فواضل كسبهم كل
محتاج ومفهومه أن من لا كسب له والناس ينفقون عليه فهو من جنس النساء وإن كان له
لحية كبيرة وسجادة وعذبة ومرقعة وشفاعات عند الحكام وغير ذلك وليس له في الرجولية
نصيب قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء}
واعلم أن طلب التلذذ بخطاب الله تعالى
كما ذكرنا محمود بالنسبة لمن هو تحته في المقام وإلا فلله تعالى رجال يتوبون من
التلذذ بخطاب الله تعالى إلا على وجه الشكر لا غير فإن من كان الباعث له التلذذ
بخطاب الله تعالى فهو عبد لذته لا يكون عبد الله تعالى. وقد أخبرني أخي أفضل الدين
رحمه الله أنه كان يقوم الليل مدة كذا وكذا سنة وهو لا يشعر به أحد قال: فكنت أظن
بنفسي الإخلاص في ذلك فسمعت هاتفا يقول: إنما تقوم الليل للذة التي تجدها حال
مناجاتك ولولا هي ما قمت للحق بواجب عبوديته قال: فاستغفرت الله تعالى وتجردت من
تلك اللذة وعلمت أن تلك اللذة تجرح في إخلاصي فالحمد لله رب العالمين
فاعلم أنه لا يقدح في شيخ الزاوية أن
يكون تاجرا ولا زراعا بل ذلك أكمل له. فإياك يا أخي أن تنكر على فقير الكسب
والتجارة والزراعة أو معاملة الناس أواخر عمره وتقول فلان كان من الصالحين أول
عمره وقد ختم عمره بمحبة الدنيا وشهواتها بعد أن كان زاهدا فيها وفي أهلها فربما
يكون مشهد ذلك الفقير ما قلناه أو غير ذلك من النيات الصالحة فإن زهد الكمل ليس هو
بخلو اليدين من الدنيا وإنما هو بخلو القلب ولا يتحقق لهم كمال المقام إلا بزهدهم
فيما بأيديهم وتحت تصريفهم من غير حائل يحول بينهم وبين كنزه. وأما زهدهم مع خلو
اليد فربما يكون لعلة الفقر. وقد قالوا: من شرط الداعي إلى الله تعالى أن لا يكون
متجردا عن الدنيا بالكلية بأن تخلو يده منها وذلك لأنه يحتاج ضرورة إلى سؤال الناس
إما بالحال وإما بالمقال وإذا احتاج إلى الناس هان عليهم وقل نفعهم به بخلاف ما
إذا كان ذا مال يعطي منه المحتاجين من مريده وغيرهم فإن فقد الحال الذي يميل به
قلوب المريدين إليه كان معه المال يميلهم إليه به ومن لا حال له ولا مال لا ينفعه
المقال وفي الحديث: عز المؤمن استغناؤه عن الناس وشرفه في قيام الليل. وممن جاهد
نفسه بالتجرد عن الدنيا زمانا طويلا ثم مسك الدنيا من أشياخ العصر وتاجر فيها
الشيخ عبدالرحيم البيروتي والشيخ علي الكازروني نفعنا الله ببركاتهما فأساء الناس
بهما الظن وأخرجوهما عن دائرة الفقراء والحال أنهما الآن أكمل مما كانا عليه في
بدايتهما على ما قررناه آنفا. فإياك يا أخي وسوء الظن بأهل الطريق أو بمن لبس
الزيق والله يتولى هداك: {وهو يتولى الصالحين}. ومن محك صدق من طلب الدنيا لله
تعالى طلبا للفوز بلذة خطابه أن لا يشح بشيء منها على محتاج إليه لأن من أحب شيئا
وتلذذ به أحب تكراره ومتى تكدر من كثرة السائلين لما عنده فهو كاذب في دعواه أنه
يحب الدنيا للالتذاذ بخطاب الله أو لنفع عباد الله فاعلم ذلك واخرج بقولنا أن لا
يشح ما لوشح ومنع لحكمة شرعية فإن ذلك لا يقدح في صدقه. {والله غفور رحيم}
- روى مسلم والطبراني مرفوعا: [[من سره
أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه]]. وفي رواية
للطبراني: [[من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت ظل عرشه فلينظر
معسرا]]. وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم
فقالوا أعملت من الخير شيئا ؟ قال: لا قالوا تذكر قال: كنت أداين الناس فآمر
فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر فقال الله تجاوزوا عنه]] ومعنى
تجوزوا عن الموسر: أي خذوا ما تيسر معه بقرينة الحديث الآتي. والله أعلم. وفي
رواية للشيخين: [[كان رجل يداين الناس وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه
لعل الله أن يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه]]. وفي رواية للنسائي مرفوعا: [[أن
رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله خذ ما تيسر واترك ما عسر
وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا فلما هلك قال الله له ؟ هل عملت خيرا قط ؟ قال لا إلا
أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما
عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا قال الله تعالى قد تجاوزت عنك]] وروى الإمام أحمد
وغيره مرفوعا: [[من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله كل يوم مثله صدقة فإذا حل
فأنظره فله كل يوم مثليه صدقة]]. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وروى مسلم
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا: [[من نفس عن مؤمن كربة من كرب
الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله
عليه في الدنيا والآخرة]]. وروى الترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا: [[من أنظر معسرا أو
وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله]]. ومعنى وضع له: أي
ترك له شيئا مما له عليه. وروى ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعا: [[من أنظر معسرا
إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته]] والأحاديث في ذلك كثيرة. والله تعالى
أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا كان لنا دين على معسر أن
ننظره ونضع عنه امتثالا لأمر الشارع صلى الله عليه وسلم وطلبا لمرضاته فإنه لا
يأمرنا قط إلا بما فيه النفع لنا في الدنيا والآخرة لكن بشرط الإخلاص لنهيه صلى
الله عليه وسلم عن الرياء والسمعة فربما سامح أحدنا المعسر ببعض ما عليه بحضرة
الناس ليقال ولو أنه لم يعلم به إلا الله تعالى لربما كان يثقل عليه ولا ينشرح له
صدره فلينتبه من يفعل المعروف لمثل ذلك ويفتش نفسه التفتيش المبرئ للذمة فمن حاسب
نفسه في هذه الدار خف حسابه في الدار الآخرة وإن وقع له حساب فإنما هو في أمور لم
يحاسب نفسه عليها في دار الدنيا. واعلم أنه ليس مراد الحق تعالى بالحساب إلا إقامة
الحق على العبد وبيان فضله وحلمه عليه لا غير وإلا فالعبد ليس معه شيء يدفعه لسيده
فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك: {وهو يتولى الصالحين}
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[ما من
يوم يصبح على العباد إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا
خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا]]. ولفظ رواية ابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[ما
من يوم يصبح على العباد إلا وملك بباب من أبواب الجنة يقول: من يقرض اليوم يجد غدا
وملك بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا]]. وكذلك رواه الطبراني
إلا أنه قال: بباب السماء. قلت: قال بعض المحققين: والمراد بقول الملك اللهم أعط
ممسكا تلفا. أي إنفاقا في وجوه الخير لأن الملك من عالم الخير فلا يدعو بفساد كما
يقال فلان أتلف نفسه وماله في مرضاة الله تعالى وأما على ما يتبادر إلى الأذهان
فالمتلف لماله إنما عليه الإثم وهو يدعو بالإثم فافهم. والله تعالى أعلم
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[قال الله
تعالى أنفق أنفق عليك]]. وروى مسلم والترمذي مرفوعا: [[ابن آدم إنك إن تبذل الفضل
خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف]]. والكفاف ما كف من الحاجة إلى الناس
مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة والفضل ما زاد على قدر الحاجة
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[مثل
البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما فجعل
المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما
هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها]] قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جنته يوسعها. والجنة بضم الجيم والنون: كل ما
وقى الإنسان وتضاف إلى ما يكون منفعة وقلصت: أي انجمت وتشمرت وهو ضد استرخت
وانبسطت. قال الحافظ المنذري: والمراد بالجنة هنا الدرع لأنه يجن المرء ويستره
ومعنى الحديث: أن المنفق كلما أنفق طالت عليه وسبغت حتى تستر بنان رجليه ويديه
والبخيل كلما أراد أن ينفق لزقت كل حلقة بمكانها فهو يوسعها ولا تتسع شبه صلى الله
عليه وسلم نعمة الله ورزقه بالجنة. وفي رواية بالجبة بالباء الموحدة فالمنفق كلما
أنفق اتسعت عليه النعم وسبغت ووفرت حتى تستره سترا كاملا شاملا والبخيل كلما أراد
أن ينفق منعه الحرص والشح وخوف النقص فهو يمنعه طلبا للمزيد والسعة زيادة على ما
عنده فلا تزيد النعم عليه ولا تتسع ولا يستر بها ما يريد ستره. والله أعلم
وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لقيس بن سلع الأنصاري: أنفق ينفق الله عليك قالها ثلاث مرات. وكان
يقلل النفقة فأنفق فصار أكثر أهله مالا
وروى البزار بإسناد حسن والطبراني: أن
النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبر من تمر فقال ما هذا يا بلال ؟
قال أعددته لأضيافك قال: أما تخشى إن يكون لك دخان من جهنم أنفق يا بلال ولا تخش
من ذي العرش إقلالا. وفي رواية للطبراني: أما تخشى أن يكون لك بخار في جهنم
وروى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لأسماء بنت أبي بكر: لا توكي فيوكأ عليك. وفي رواية لهما: أنفقي ولا تحصي
فيحصي الله عليك. قال الخطابي ومعنى لا توكي لا تدخري والإيكاء: سد رأس الوعاء
بالوكاء وهو الرباط الذي يربط له. يقول لا تمنعي ما في يدك فيقطع الله مادة بركة
الرزق عليك
وروى البزار والحاكم وقال صحيح الإسناد
عن بلال قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال مت فقيرا ولا تمت غنيا.
[فقلت ؟ ؟] وكيف لي بذلك ؟ قال: ما رزقت فلا تخبأ وما سئلت فلا تمنع. فقلت: يا
رسول الله وكيف لي بذلك ؟ قال: هو ذاك أو النار
وروى الطبراني بإسناد حسن أن طلحة بن
عبيدالله جاءه مال كثير في يوم فقال لغلامه أدع لي قومي فدعاهم فقسمه عليهم ولم
يبق لنفسه شيئا وكان أربعمائة ألف
وروى الطبراني أن عمر بن الخطاب أرسل
أربعمائة دينار مع الغلام إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال للغلام تلبث عنده في البيت
ساعة لتنظر ما يصنع فذهب بها الغلام إليه وقال أمير المؤمنين يقول لك اجعل هذه في
بعض حوائجك فقال وصله الله ورحمه ثم قال تعالى يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى
فلان وبهذه الخمسة أيضا إلى فلان حتى أنفذها كلها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره
فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال اذهب بهذه إلى معاذ ابن جبل وقف في البيت
ساعة حتى تنظر ما يصنع فذهب بها الغلام وقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في
بعض حاجاتك فقال رحمه الله ووصله ثم قال تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا
وإلى بيت فلان بكذا فاطلعت امرأة معاذ فقالت ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في
الخرقة إلا ديناران فأرسلهما إليها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال إنهم
أحوج بعضهم من بعض
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن سهل
قال: كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير فوضعها عند عائشة فلما
كان عند مرضه قال: يا عائشة ابعثي بالذهب إلى علي. ثم أغمي عليه وشغل عائشة حتى
قال ذلك مرارا كل ذلك ويغمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشغل عائشة ما به
فبعث إلى علي فتصدق بها وأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديد الموت ليلة
الاثنين فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائها فقالت: اهدي لنا في مصباحنا
من عكتك السمن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في حديد الموت
وروى الطبراني والإمام أحمد ورجاله رجال
الصحيح عن أبي ذر قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي قال: إن كل ذهب أو فضة
أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله. وقالت له الجارية يوما دعني
أثبت عندنا هذه السبعة دنانير لما ينوبك من الحوائج أو لما ينزل بك من الضيوف فأبى.
وفي رواية للطبراني مرفوعا: من أوكأ على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان
جمرا يكوى به
وروى أبو يعلي والبيهقي عن أنس ورواته
ثقات قال أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائرا فلما كان من
الغد أتت الخادم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهك أن ترفعي شيئا
لغد فإن الله تعالى يأتي برزق غد
وروى ابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أنس
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا: إني
لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشيت أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه. والغرفة
العلية
وروى البزار مرفوعا: ما أحب أن لي أحدا
ذهبا أبقى صبح ثالثة وعندي منه شيء إلا شيئا أعده لدين
وروى الإمام أحمد والطبراني أن رجلا توفى
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصفة فلم يوجد له كفن فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: انظروا إلى داخل إزاره فوجدوا دينارا أو دينارين فقال:
كيتان أو كية من نار. وفي رواية: فوجدوا دينارا فقال: كية من نار. قال الحافظ المنذري:
وإنما جعل صلى الله عليه وسلم ذلك الدينار أو الدينارين كيتين أو كية من نار لأنه
ادخر مع تلبسه بالفقر ظاهرا وشارك الفقراء فيما يأتيهم من الصدقة والأحاديث في ذلك
كثيرة. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن ننفق جميع ما دخل يدنا من
المال على أنفسنا وعيالنا وأصحابنا وغيرهم ولا ندخر منه شيئا إلا لغرض صحيح شرعي
لا تلبيس فيه وكذلك نبادر بالصدقة لكن بنية صالحة من غير تهور فيها وعلى السائل
الصبر حتى تحرر النية ولا ينبغي له المبادرة إلى سوء الظن ورمينا بالبخل ولو مكثنا
شهرا حتى نجد لنا نية صالحة وهذا العهد يخل به كثير من الناس فلا المعطي يتربص حتى
يجد نية ولا الفقير يصبر: وخلق الإنسان عجولا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى
سلوك على يد شيخ ناصح يخرجه من شح الطبيعة إلى حضرة الكرم حتى لا يشح على محتاج
إلا لحكمة دون بخل ومن لم يسلك فلا سبيل له إلى العمل به ولو صار من أعلم الناس
فإن العلم بمجرده محتف بآفات يتيه بها العبد عن طريق الوصول إلى العمل بما علم
ومن كلام سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله
عنه: إنما احتاج العلماء إلى شيخ يربيهم مع ذلك العلم العظيم الكثير لعدم إخلاص
نيتهم فيه ودخول الإعجاب فيه وطلب أحدهم أن يصرف وجوه الناس إليه ولو أنهم سلموا
من الآفات وأتوا حضرة العمل بلا علة لنارت قلوبهم بالعلم وأشرفوا على حضرة الله
تعالى ولهان عليهم بذل نفوسهم في مرضاة الله تعالى فضلا عن شيء من أعراض الدنيا
فلا تطمع يا أخي بهذا العهد بنفسك من غير
شيخ تقتدي به فإن ذلك لا يصح لك بل من شأنك أن تكون جموعا منوعا حتى تموت كما هو
مشاهد في غالب الناس حتى رأيت بعض الناس وهو يسأل من بعض شيوخ العرب الظلمة أن
يرتب له خبزا من صدقته فقلت له في ذلك فقال: الضرورات تبيح المحظورات فقومت ثيابه
وفرسه فوجدت ثمنها نحو ألفين ونصفا فقلت له: أين الضرورة ؟ فما دري ما يقول: فسألت
عنه بعض من يعامله فوجدت له مع الناس نحو عشرة آلاف دينار فقلت له: أتلبس على الله
ما هو مليح ؟ فقال لي: كان الواحد من الصحابة يملك العشرة آلاف دينار أو أكثر فقلت
له وكان مع ذلك لا يدخرها عن محتاج فلم يجد جوابا ولو أنه كان سلك طريق أهل الله
تعالى لأغناه الله عن السؤال بمال حلال أو بقناعة وذلك أن السالك على مصطلح أهل
الله تعالى طريقة الذكر ومن خاصيته جلاء القلب من ظلمات الرعونات النفسانية حتى
يشرف على الجزاء الجسماني أو الروحاني الذي وعد الله به المنفقين والمتصدقين في
الدار الآخرة فإذا أشرف على ذلك صغرت عنده الدنيا بأسرها فيصير يبادر لإنفاقها ولو
منعوه جهرا أنفق سرا لما يرى لنفسه في ذلك من المصلحة ولا هكذا من يعلم أحكام الله
على التقليد مع تعاطي شهوات النفوس من أكل وشرب ولباس ومركب ومنكح وغير ذلك من
الأمور التي لا تكمل له إلا بالدنيا فلا يكاد ينفق شيئا من مرضاة الله تعالى إلا
إن اكتفت نفسه من شهواتها والشهوات لا قرار لها إذ كل شهوة تجذبه إليها ولو كان له
في كل يوم مائة دينار ما كفته
واعلم يا أخي أنه قد ورد: إن العبد ليرزق
سنة في شهر فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية سنته وإن العبد ليرزق رزق شهر في
جمعه فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية الشهر وإن العبد ليرزق رزق جمعة في يوم
فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية جمعته. وهذا محمول على من كان ضعيف اليقين كما
يدل عليه نحو قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: أمسك عليك بعض مالك فهو خير
لك. وقوله لبلال: أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فافهم
فلا ينبغي لمن معه ما يزيد على حاجته أن
يتصدق به إلا إن يكون قوي اليقين من الأغنياء أو من المتجردين. أما من يأكل من كسب
ربحه فله أن يمسك رأس ماله وما بقي من ربحه ينفقه على الأقارب وغيرهم وربح الألف
الآن خمسة أنصاف كل يوم للعامل فمن لا يكفيه لنفقته ونفقة عياله وضيوفه كل يوم إلا
عشرة أنصاف فله أن يمسك الألفي دينار أو أكثر بحسب حاجته ومن يكفيه كل يوم نصف فله
أن يمسك نصفا وقس على ذلك وليس اللوم إلا على من يجمع ويمنع نسأل الله اللطف
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول:
لكل خلق من أخلاق النبوة كرب في مقابلة تركه يوم القيامة فمن لم يطعم لله جاء يوم
القيامة جيعانا ومن لم يسق الماء لله جاء يوم القيامة عطشانا ومن آذى الناس جاء
يوم القيامة يؤذي ومن لم يستر مسلما لله جاء يوم القيامة مهتوكا مكشوف السوءة على
رؤوس الأشهاد ومن لم يسامح أحدا في حقه كان يوم القيامة تحت أسر من له عليه حق ومن
ازدرى بالناس ازدري هناك وهكذا فلا يجني أحد إلا ثمرة عمله في الدنيا والآخرة كما
ستأتي الإشارة إلى ذلك في أحاديث العهد الثالث إن شاء الله تعالى
ومن وصية سيدي سالم أبي النجاء الفوي ؟ ؟
رضي الله عنه لأصحابه وهو محتضر: اعلموا يا إخواني أن الوجود كله في الدنيا
والآخرة يعاملكم بحسب ما برز منكم من الأعمال فانظروا كيف تكونون. {والله يهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم}
- وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[إذا
أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها بما اكتسب
وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا]]
وفي رواية إذا تصدقت بدل أنفقت
وروى أبو داود أن أبا هريرة سأل عن تصدق
المرأة من بيت زوجها قال: لا إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تتصدق من
مال زوجها إلا بإذنه فزاد الحافظ وزين العبدري في جامعه فإن أذن لها فالأجر بينهما
فإن فعلت بغير إذنه فالأجر له والإثم عليها
وروى أبو داود والنسائي مرفوعا: [[لا
يجوز لامرأة قط عطية إلا بإذن زوجها]]
وروى الشيخان وغيرهما عن أسماء بنت أبي
بكر قالت: يا رسول الله ما لي مال إلا ما أدخل به على الزبير أفأتصدق ؟ فقال:
تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك]]
وفي رواية لهما أنه صلى الله عليه وسلم
قال لها: ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك
وروى الترمذي بإسناد حسن أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال في خطبة عامة حجة الوداع لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا
بإذن زوجها قيل يا رسول الله ولا الطعام قال: ذلك أفضل أموالنا. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نأذن لزوجاتنا في التصدق
بما جرت به العادة من ما لنا ولا نمنعهن من ذلك طلبا لنزول الرحمة على بيتنا في
غيبتنا وحضورنا ولتدوم النعمة أيضا علينا وهذا العهد يخل به كثير من الناس فيمنع
زوجته أن تتصدق برغيف أو مغرفة طعام على فقير فيكون ذلك سببا لتضييق الرزق على أهل
البيت وكذلك لا نمنعها أن تقري الضيف في غيبتنا على طريق العرب العرباء لكن من غير
مخالطة للضيوف والأجانب وقد كان على هذا القدم سيدي الشيخ عثمان الحطاب والحافظ
الشيخ عثمان الديمي فكان كل منهما يذهب إلى بيت الآخر في غيبته ويجلس مع امرأة
أخيه وتخرج له ما يأكل وما يشرب فكانا من أولياء الله تعالى (1)
_________
(1) الخلوة محرمة بالاتفاق وهذا الكلام
يخالف طريقة الإمام الشعراني في تقديم ظاهر السنة على الرأي والتأويل ويستغرب
تعليله " فكانا من أولياء الله تعالى " إذ الأولى منه الإنكار عليهما
كدأبه رحمه الله وغفر لنا وله آمين فجل من لا يخطئ. دار الحديث
_________
لكن أنى لنا في هذا الزمان أن يظفر أحدنا
بأخ صالح يأمنه على الخلوة بعياله بحيث لا يتخلله تهمة فيه فوالله لقد قل الصادقون
الذين يؤتمنون على مثل ذلك فنوصي عيالنا أن يخرجوا للضيف ما يأكل وما يشرب مع
الخادم ولا يختلطن به
واعلم يا أخي أنه كلما كثر طعامك للناس
كلما كثرت النعمة عليك فإن الله تعالى يسوق لكل عبد من الرزق بقدر ما يعلم في قلبه
من السخاء والكرم فمنهم من يكون عنده قوت خمسة أنفس ومنهم من يكون عنده قوت عشرة
وهكذا إلى الألف نفس أو أكثر فتعرف مراتب الناس في الكرم بقدر عيالهم وقد يكون بعض
الأولياء يطلب لنفسه الخفاء والتجرد فلا يكون عنده أحد وهو في غاية الكرم ويود أن
لو كان كل من في الدنيا عائلته فمثل هذا يعطيه الله تعالى في الآخرة أجر من عال
جميع الخلق وراثة محمدية فيحصل له هذا الثواب العظيم مع الخفاء وعدم الشهرة فإن
الله هو الرزاق للعبد ومن كان هذا مشهده فكثرة العيال وقلتهم عنده سواء لا يتحمل
هما من جهتهم أبدا ولو أنهم كلهم كانوا متوجهين إلى الله دونه ما تأثر من جهتهم قط
ولا حمل هما من جهتهم أبدا وإنما يلحقه بعض كرب إذا توجهت العائلة إليه من حيث
كونه واسطة مع عدم شهودهم أن الله هو الرزاق فيقصرون أجرهم على ذلك العبد فيؤثرون
فيه الضيق والكرب حتى يصل إليهم رزقهم الذي قسمه الله لهم على يده ولو أنهم كلهم
كانوا متوجهين إلى الله دونه ما تأثر من جهتهم قط ولا حمل هما
وقد كان سيدي أحمد الزاهد يقول: وعزة ربي
لو كان أهل مصر كلهم عيالي ما طرقني هم أبدا لعلمي بأن القسمة وقعت في الأزل فلا
زيادة ونقص ولا يقدر أحد يأكل لقمة قسمت لغيره وتعويق الرزق عن العبد إنما هو
تأديب له أو اختبار أو رفع درجة. قلت: وقد من الله تعالى علينا بذلك فلو كان جميع
من في الأرض كلهم عيالي ما اهتممت لهم إلا من جهة توجههم إلى قصور بصرهم أو لكونهم
لا يستحقون ما طلبوه مني لتركهم الصلاة وتعديهم الحدود ونحو ذلك فالحمد لله رب
العالمين. ولا تصل يا أخي إلى العمل بهذا العهد إلا بالسلوك على يد شيخ مرشد يوصلك
إلى شهود ما ذكرناه وإلا فمن لازمك الاهتمام بالرزق وترادف الأوهام المكدرة عليك
حتى لا تكاد ترجع إلى شهود أن الله تعالى فرغ من قسمة الرزق إلا بعد تأمل وتفكر
وهناك تعلم أن إيمانك مدة الاهتمام بالرزق ناقص وأنه يجب عليك تجديد إيمانك كلما
حصل عندك اهتمام بالرزق ولو أنك سلكت الطريق لم يطرقك اتهام الله تعالى ولا اهتمام
بما وعد الله بحصوله لك أو لغيرك ولا منعت زوجتك من الصدقة في ليل أو نهار إلا
لعذر شرعي. فاسلك يا أخي على يد شيخ يخرجك من ظلمات الاتهام والأوهام والله يتولى
هداك: {وهو يتولى الصالحين}
- روى الشيخان وغيرهما أن رجلا قال: يا
رسول الله أي الإسلام خير ؟ قال: تطعم الطعام وتقري السلام على من عرفت ومن لم
تعرف
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن
أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله أخبرني بشيء إذا عملته دخلت الجنة قال: أطعم
الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وصل بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام
وروى أبو الشيخ مرفوعا: خياركم من أطعم
الطعام
وروى الحاكم والبيهقي مرفوعا: [[من موجبات
الرحمة إطعام المسلم المسكين]]. وفي رواية: من موجبات المغفرة إطعام المسلم
السغبان يعني الجائع
وروى الطبراني وأبو الشيخ والحاكم
والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد مرفوعا: [[من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه حتى
يرويه باعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام]]
وروى البيهقي وغيره مرفوعا: [[أفضل
الصدقة أن تشبع كبدا جائعا]]
وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا موقوفا
عن ابن مسعود والوقف أشبه قاله الحافظ المنذري: [[يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما
كانوا قط وأجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط فمن كسى لله تعالى كساه الله تعالى
ومن أطعم لله تعالى أطعمه الله تعالى ومن سقى لله تعالى سقاه الله تعالى]]
وروى أبو الشيخ مرفوعا: [[إن الله تعالى
يباهي ملائكته بالذين يطعمون الطعام من عبيده]]
وروى الطبراني أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتاه رجل فقال: ما عمل إن عملته دخلت الجنة ؟ فقال: أنت ببلد تجلب الماء قال
نعم ؟ قال فاشتر بها سقاء جديدا ثم اسق فيها حتى تخرقها فإنك إن تخرقها تبلغ بها
عمل الجنة
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مشهورون أن
رجلا قال: يا رسول الله إني أفرغ في حوض حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري
فسقيته فهل لي في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[في كل ذات
كبدا حرا أجر]]
وروى الشيخان مرفوعا: [[بينما رجل يمشي
بطريق اشتد عليه الحر فوجد بئرا ونزل فيها وشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى
من العطش فقال لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ؟ فنزل البئر فملأ
خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر له فغفر له]]. وفي رواية: فأدخله
الجنة
وروى أبو داود واللفظ له وابن ماجه
وغيرهما أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال
الماء. فحفر بئرا وقال هذه لأم سعد. وفي رواية للطبراني فقال عليك بالماء
وروى البخاري في تاريخه وابن خزيمة في
صحيحه مرفوعا: [[من حفر بئرا ماء لم يشرب منه ذو كبد حراء من جن ولا إنس ولا طائر
إلا أجره الله يوم القيامة]]. وروى ابن ماجه مرفوعا: [[من سقى مسلما شربة ماء حيث
يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة ومن سقى مسلما شربة ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما
أحياها]]. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نطعم الطعام لكل من ورد
علينا ونسقي الماء كذلك ولا نتوقف على استحقاقه لذلك إلا بطريق شرعي تخلقنا بأخلاق
الله تعالى فإنه يرزق البر والفاجر وممن أدركناه على هذا القدم الشيخ محمد بن عنان
والشيخ يوسف الحريثي والشيخ عبدالحليم بن مصلح والشيخ أبو الحسن الغمري والشيخ
محمد الشناوي الأحمدي رضي الله عنهم فكان طعامهم وشرابهم لكل وارد وكان الشيخ يوسف
الحريثي إذا لم يحضر عنده طعام لا يدع الضيف يخرج من عنده حتى يسقيه الماء. وقد
قدمنا أن السخاء هو خلق الله الأعظم
ويحتاج من يعمل بهذا العهد إلى شيخ يخرجه
من ظلمات البخل إلى حضرة الكرم ويخرجه من الآفات التي تطرق الكريم من شهود فضله
على الناس الذين يطعمهم وحب المدحة على ذلك في المدائن وقراها فقل كريم هذا الزمان
أن يخلص من هذه الورطة بل غالب الكرام وجلوا في حب المدح بالكرم وحب تفضيلهم على
أقرانهم بذلك
فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ وإلا فمن
لازمك الآفات وذلك لتطعم لله وتمنع لله وترى على الكشف وللشهود أن جميع ما أنت فيه
من النعم هو كله لله تعالى جعله الله تعالى لعباده على يديك ليس لك تعمل في تحصيله
إنما أنت خازن استأمنت الملك على أرزاق عباده فلو سجدت لله على الجمر أبد الآبدين
ما أديت شكر ذلك وقد عم غالب الفقراء في هذا الزمان العلل في أعمالهم وأخلاقهم
لقلة من يربيهم أو لقلة سماعهم لمن يربيهم فصار المطعم يطعم لعلة والمانع يمنع
لعلة وصار من لا يطعم الناس يحسد من يطعم الناس ويود أن الله تعالى يحول من ذلك
الكريم النعمة وبعضهم يقول: هو يطعم الناس من عنده إنما المنة لله تعالى في ذلك كل
ذلك يقصد أن يطفئ نور أخيه بين الناس حسدا وبغيا ولو أنهم فطموا على يد شيخ لحفظهم
الله تعالى من تلك الآفات
واعلم يا أخي أن من شأن البشر الملل ممن
يحتاج إليه فمن الأدب أن لا يطعم العبد للناس إلا ما سمحت به النفس من غير كلفة
ومن تكلف سوف يهرب فحرر النية يا أخي وأطعم الطعام واسق الماء من البحر أو من
الصهاريج أو من الآبار حسب الطاقة
وممن رأيته تحقق بهذا المقام سيدي علي
الخواص وكان أكثر ملئه الماء لقعاوي ؟ ؟ الكلاب وحيضان بيوت الخلاء. وممن رأيته
تبعه على ذلك وزاد عليه أخي العبد الصالح الشيخ أحمد الهنيدي المقيم بناحية منبوبة
تجاه بولاق بمصر المحروسة لا يمل من حفر الآبار وسقي الماء وحمله إلى الأسقية تارة
يحمله في يديه وتارة على حمارته رضي الله عنه وكان على هذا القدم جدي الشيخ نور
الدين الشعرواي كان وظيفته في كل يوم يملأ سبيل الجامع وسبيل الزاوية وسبيلا آخر
في وسط البرية يقوم لذلك من الليل فيملؤها قبل الفجر ثم يملأ المطهرة وحيضان بيوت
الخلاء كذلك قبل الفجر رضي الله تعالى عنه: كل ميسر لما خلق له
وفائدة ذكرنا مناقب الرجال إنما ليتنبه
الفقير لتخلفه عن مقامات الرجال فيعرف نقص نفسه عن العمل بأخلاقهم ولا يقنع بلبس
الصوف والجلوس على سجادة يخبط في دين الله تارة بالرأي وتارة بالوهم وتارة يتكلم
في الله بما لا يليق بجلاله وعظمته حتى إني سمعت بعضهم يقول: ما ثم موجود إلا الله
فقلت له فأنت إيش ؟ فقال كلاما والله لو كان معي شاهد آخر يشهد لذهبت به إلى حكام
الشريعة يضربون عنقه ولم يكن هذا الأمر في الأشياخ الذين أدركناهم إنما هو الزهد
والورع واتباع السنة المحمدية رضي الله عنهم أجمعين. فإياك أن تجالس من يتكلم في
الذات والصفات بغير ما صرحت به الشريعة أو تصغي لقوله والله يتولى هداك: {وهو
يتولى الصالحين}
- روى أبو داود والنسائي واللفظ له وابن
حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا: [[من استعاذ بالله فأعيذوه
ومن سألكم بالله فأعطوه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى
تعلموا أنكم قد كافأتموه]]. وفي رواية للطبراني: حتى تعلموا أنكم شكرتموه فإن الله
تعالى شاكر يحب الشاكرين. وروى الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[من
أعطى عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر]].
وفي رواية للترمذي مرفوعا وقال حديث حسن: من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله
خيرا فقد أبلغ في الثناء. وفي رواية له: [[من أسدى إليه بمعروف فقال للذي أسداه
جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء]]. وروى الإمام أحمد ورواته ثقات والطبراني
مرفوعا: [[إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس]]. وفي رواية لأبي داود والترمذي
وقال حديث صحيح: [[لا يشكر الله من لا يشكر الناس]]. قال الحافظ المنذري: روى هذا
الحديث برفع الله وبرفع الناس وروى أيضا بنصبهما وبرفع الله وبنصب الناس وعكسه
أربع روايات. وروى الطبراني وابن أبي الدنيا مرفوعا: [[من أولى معروفا فليذكره فمن
ذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره]]. وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا بإسناد لا
بأس به: [[من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله
والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر]]. وروى أبو داود والنسائي واللفظ له: قال
المهاجرون يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ؟ ما رأينا قوما أحسن بذلا للكثير
ولا مواساة في القليل منهم ولقد كفونا المؤونة قال أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم
؟ قالوا بلى قال: فذاك بذاك. والله تعالى أعلم
- (أخذ علينا
العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نشكر كل من أسدى إلينا
معروفا ونكافئه على ذلك ولو بالدعاء أدبا مع الشارع في أمره لنا بذلك وقد كثرت
الخيانة لهذا العهد من غالب الناس حتى صرت تربي اليتيم إلى أن يصير له أولاد ولا
يتذكر لك نعمة ولا يحفظ معك أدبا وصار من وقع له ذلك يحذر من يريد يفعل مثله مع
الناس فبتقدير أن المنعم من أولياء الله تعالى لا يلتفت إلى شكره فالمنعم عليه لا
يستحق ذلك كما سيأتي والكمل على الأخلاق الإلهية والله تعالى يحول النعم حين تكفر
فاشكر يا أخي من أسدى معروفا لكن من غير
وقوف معه فتراه كالقناة الجاري لنا منها الماء أو كالأجير الذي يغرف لنا من طعام
رجل غيره بأجرة جعلها له
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى
سلوك على يد شيخ مرشد حتى يصل به إلى حضرة الإحسان ويرى الأمور كلها لله تعالى
كشفا وشهودا ويصير يرى النعم من الله تعالى ببادئ الرأي ولا يضيفها إلى الخلق إلا
بعد تأمل وتفكر عكس من لم يسلك الطريق فإنه لا يكاد يشهد النعمة من الله تعالى إلا
بعد تفكر وتأمل
فاسلك يا أخي الطريق لتفوز بالأدب مع
الله تعالى ومع خلقه كما أمرك فقال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}. وقد
قرن الله تعالى السعادة بشهود الأمور كلها من الله وقرن الشر بشهودها من الخلق
ومقام الكمال في السعادة شهود الأمور كلها ببادئ الرأي من الله خلقا وإيجادا ومن
العبد نسبة وإسنادا لأجل إقامة الحدود وكأن لسان الحق تعالى يقول: من قتل نفسا
بغير حق فاقتلوه ولو شهدتم أني قدرت عليه ذلك أو أني أنا الفاعل كما قال: {فلم
تقتلوهم ولكن الله قتلهم}. فلا يسعنا إلا امتثال الأمر وكذلك الحكم على الزنا وشرب
الخمر ونحوهما فكأنه قال تعالى من ظهر من جوارحه كذا فافعلوا به كذا فيقول سمعا
وطاعة وأكثر الناس عمي عن تحقيق هذه المسألة فإما يضيفونها إلى الله تعالى فقط أو
إلى الخلق فقط لكن من يضيفها إلى الله وحده أكبر أدبا ممن يضيفها إلى الخلق وحدهم
غافلا عن الله تعالى
وقد رأيت شخصا من خطاب الجامع الأزهر رسم
له السلطان سليم بن عثمان مائة دينار لما صلى الجمعة في الجامع الأزهر وكانت نوبته
تلك الجمعة فجاءه رفيقه ومنعه عن الخطبة ذلك اليوم لأجل المائة دينار فصار الخطيب
الممنوع يحط على المانع وصرت أقول له: إن الله تعالى لم يقسم لك شيئا فيقول: هذا
قد تسبب في قطع رزقي فقلت له: ولو تسبب فليس هو بقاطع إنما هو آلة للقدرة الإلهية
والحكم لمن حرك الآلة فحكمت حكم من ضرب بعصا فصار يسب العصا أو غرف له طعام بمغرفة
فصار يمدح المغرفة ويشكرها بين الناس وينسى الفاعل بتلك الآلة فهذا حكمه على حد
سواء عند أهل التحقيق ولا يخفى ما في ذلك من قلة العقل. ثم قلت له: أين قولك في
الخطبة كل جمعة: والله ثم والله لا يعطي ويمنع ويضع ويرفع إلا الله ؟ فقال قطعتني
بالحجة ولو أن هذا سلك الطريق وبني أمره على التوحيد الكامل ما توقف في ذلك ولا
احتاج إلى مجاهد ولا عادى أحدا عارضه في طريق وصوله إلى رزقه بل كان يرى كل شيء
عورض فيه أن الله تعالى لم يقسمه له فلا يتعب نفسه. فاعلم ذلك واسلك طريق القوم إن
أردت العمل بهذا العهد على وجه الكمال لتكون من أهل السنة والجماعة والله يتولى
هداك {وهو يتولى الصالحين}
واعلم أن كفران النعم للوسائط مما يحولها
وإذا حولت فلا يقدر من كفرت نعمته أن تجري لك نعمة على يديه: {سنة الله التي قد
خلت في عباده}. لأن كفران النعمة يقطع طريقها فبتقدير أن من كفرت نعمته لا يؤاخذك
فأنت لا تستحق تلك النعمة فلا بد من وجود صفة الاستحقاق في المنعم عليه وعدم
كفرانه نعمة من كان واسطة فيها من زوج ووالد وسيد ونحوهم وقد كثر كفران النعم في
هذا الزمان من الزوجة والأولاد والأرقاء والمريدين وبذلك تعسرت عليهم الأرزاق
وكلما تأخر الزمان زاد على الناس الأمر في تعسير الأرزاق وفي تحويلها عنهم بالكلية
لقلة الشكر بالعمل من قيام الليل وغيره حتى تتورم منهم الأقدام فإن الشكر بالقول
ما بقي يكفي لغالب النعم في هذا الزمان لكون الموازين قد أقيمت فيه على الناس لقرب
الساعة وما قارب الشيء أعطى حكمه ولقلة الإخلاص في القول وقد قال تعالى في حق آل
داود: {اعملوا آل داود شكرا}. ولم يقل قولوا أل داود شكرا وهذه الأمة المحمدية
أولى بأن يشكروا بالعمل لأنهم أعظم نعمة بنبيهم وشريعتهم فليتنبه من كان غافلا عن
ذلك ليدوم الماء في مجاريه
وقد كان الشيخ عصيفير المجذوب المدفون
بخط بين السورين بمصر كلما رأى حوضا مملوء للبهائم يفتح بالوعته فيسبح على الأرض
ويقول للذي يملؤه أنت أعمى القلب فإن أهل هذا الزمان صاروا لا يستحقون رحمة ولا
نعمة لكثرة عصيانهم ومخالفتهم فقال يا سيدي: إنما هذا البهائم فقال إنها تحملهم
إلى مواضع المعاصي فكان يتكلم على لسان أحوال الزمان بلسان الحقيقة دون لسان
الشريعة لكونه مجذوبا وكان مراده مما قاله تنبيه الناس إلى المشي على طريق
الاستقامة لتدوم عليهم النعم وإلا فالحق لا يستحقون على الله تعالى شيئا مطلقا
وإنما جميع نعمه عليهم من باب الفضل والمنة. والله تعالى أعلم
- روى الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: [[كل عمل ابن آدم له إلا الصوم
فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد
أو قاتله فليقل إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من
ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر وإذا لقي ربه فرح بصومه]]. وفي رواية
لمسلم: [[كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله
تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي]]. وفي رواية
لمالك وأبي داود والترمذي: وإذا لقي الله تعالى فجزاه فرح الحديث. قلت: وإنما كان
الصائم يفرح بهذين الشيئين لأن الإنسان مركب من جسم وروح فغذاء الجسم الطعام وغذاء
الروح لقاء الله. والله أعلم. قال الحافظ: ومعنى قوله الصيام جنة بضم الجيم وما
يجن العبد ويستره ويقيه مما يخاف فقال: ومعنى الحديث: إن الصوم يستر صاحبه ويحفظه
من الوقوع في المعاصي. والرفث يطلق ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحش ويطلق
ويراد به خطاب الرجل للمرأة فيما يتعلق بالجماع. وقال كثير من العلماء: المراد به
في هذا الحديث الفحش ورديء الكلام. والخلوف: بفتح الخاء وضم اللام هو تغير رائحة
الفم من الصيام. وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا: [[الصيام لله تعالى لا يعلم ثواب
عامله إلا الله تعالى]] وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا: صوموا تصحوا. وروى
الإمام أحمد بإسناد جيد والبيهقي مرفوعا: الصيام جنة وحصن حصين من النار. وفي
رواية لابن خزيمة في صحيحه: الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال. وروى
الإمام أحمد والطبراني والحاكم ورواتهم محتج بهم في الصحيح مرفوعا: [[الصيام
والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب
والشهوة فشفعني فيه ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان]].
وروى ابن ماجه مرفوعا: [[لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم]]. وروى البيهقي مرفوعا: [[إن
للصائم عند فطره لدعوة لا ترد]]. وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه واللفظ له وابن
ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا: [[ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر]].
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: [[ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد
الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا]]. قال الحافظ: قد ذهب طوائف من
العلماء إلى أن الحديث في فضل الصوم في الجهاد وبوب على ذلك الترمذي وغيره وذهبت
طائفة إلى أن كل صوم في سبيل الله إذا كان خالصا لله تعالى. والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق