الباهر في حكم
النبي بالباطن والظاهر
للإمام
الحافظ جلال الدين السيوطي
بسم الله
الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الحمد لله وكفى وسلامه
على عباده الذين اصطفى.
ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث ابن عباس, عن أبي بن كعب رضي الله
عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قصة اجتماع موسى بالخضر عليهما السلام,
وما وقع للخضر من قتل الغلام وإنكار موسى عليه, وأن الخضر قال له: يا موسى, إني على
علم من علم الله سبحانه علّمنيه الله, لا ينبغي لك أن تعلمه, وأنت على علم من علم
الله علّمكه الله سبحانه وتعالى, لا ينبغي لي أن أعلمه.
قال الشيخ سراج الدين البلقيني: "هذا قد يُشكِل, فإن العلم المذكور في
الجهتين, كيف لا ينبغي علمه؟.
قال: وجواب هذا, حمل العلم على تنفيذه, والمعنى: لا ينبغي لك أن تعلمه
لتعمل به, لأن العمل به مناف لمقتضى الشرع, ولا ينبغي لي أن أعلمه فأعمل بمقتضاه,
لأنه مناف لمقتضى الحقيقة.
قال: فعلى هذا, لا يجوز للولي التابع للنبي صلى الله عليه وسلم إذا اطلع
على حقيقة, أن ينفذ ذلك على مقتضى الحقيقة, وإنما عليه أن ينقذ الحكم الظاهر"
انتهى.
وقال الإمام العلامة أحد من وصف بالاجتهاد, كمال الدين الزملكاني
الشافعي في كتابه المسمى "تحقيق الأولى من أهل الرفيق الأعلى": "ومن المعقول أن
النبي صلى الله عليه وسلم أكمل في ذاته, وأكمل في دعوته, وأكمل في معاده, وهذه خصال
الشرف.
أما أنه أكمل في ذاته: فلأن كل مقام وكل خصلة اختص بها نبي, فهو فيها أتم وأكمل. فنبوته أتم وأكمل ورسالته, وله الخلة مع المحبة, وله الكلام مع
الرؤية, وله الاصطفاء والقرب والدنو, وحسن الخَلْق والخُلُقِ, وكمال العصمة مع
المغفرة, وهو الأولى والمتبع.
فإن نظرت في مقامات العرب, فهو مخصوص من كل مقام بالقسم الأوفى, وإن نظرت
في طهارة الأخلاق وكريم الأعراق, فهو أتم وأكمل.
وقد بعث ليتم مكارم الأخلاق, وبعث من خير القرون وأطهر البيوت, فإنه
المصطفى المختار من ولد إسماعيل عليه السلام. وإمام الهدى
والعبادات, فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
فأمره بهداهم. فكل ما كان هدى لهم, فاقتداؤه به واجب, وهو معصوم من ترك الواجب, فقد
أتى بكل هدى لكل نبي قبله, فاجتمع فيه ما تفرق فيهم.
وقد أخذ عليهم الميثاق بالإيمان به وبتبعيته, ولهذا تقدم عليهم وصلى بهم,
فهو إمام الأنبياء كلهم, وناهيك بذلك شرفا وفضلا.
وأما أنه أكمل في دعوته: فإن شريعته ناسخة لشرائعهم, ودعوته عامة لهم ولأتباعهم. فهو إمام وهم
المؤتمون, وهو المتبوع وهم التابعون.
ومعجزاته أتم, لأنه ما من معجزة لنبي إلا وله مثلها وأتم في بابها, واختص
بمعجزات ليست لغيره. وكتابه أشرف الكتب وأكملها. فهو
المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ولا ينسخه شيء. ومعجزاته باقية على التأبيد, منها القرآن, ومنها ما يظهر أولا
فأولا إلى آخر الزمان.
وأما أنه أكمل في معاده: فإنه يومئذ صاحب لواء الحمد الذي يأوي تحته الأنبياء عليهم السلام,
وهوة قائدهم وشافعهم, وأول شافع, وأول مشفّع, وصاحب المقام المحمود, وأكثرهم تابعا
يوم القيامة.
وأما درجته في الجنة دار الجزاء: فهي أعلى الدرجات, فإنه صاحب الوسيلة
وهي أعلى درجة في الجنة, لا ينالها إلا هو صلى الله عليه وسلم, وأمته أفضل الأمم,
وهم الشافعون المشفعون, وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون.
وهو الرحمة للعالمين, المرفوع الذكر مع رب السماوات والأرضين. صاحب
الحوض الروي والكوثر, أمته الشهداء على الأمم يوم الحشر. لا تفنى مناقبه وفضائله, ولا يدرك من ذلك أوائله
وأواخره.
ثم قال بيانا وإيضاحا: قد ذكرنا أن جميع معجزات الأنبياء, لنبينا مثلها أو أتم. وذكرنا ذلك إجمالا, وتفصيله بتمامه يستدعي بيان كل المعجزات
التي تقدمت لكل الأنبياء, وحصر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومقابلة كل فرد
بمثله. وهذا يقتضي وضع كتاب مستقل, ولكن لا بد من تفصيل إجمالي يوضح ما
ذكرناه.
وبيانه بمقدمتين:
إحداهما: أنه قد تقرر في علم أصول الدين؛ أن مذهب أهل السنة إثبات كرامات
الأولياء, وكل معجزة لنبي, تجوز أن تقع كرامة لولي, ولم يقع في أمة من الأمم ما وقع
في هذه الأمة من الكرامات للأولياء من الصحابة والتابعين وغيرهم من بعدهم. ومن تأمل الكتب الموضوعة لذلك, وأخبار السلف الصالحين, وضح له
ما ذكرناه.
والحق؛ أن كل كرامة حصلت لولي تابع لنبي, فهي منسوبة إلى ذلك النبي
المتبوع ومضافة إليه, ومعجزة من معجزاته, لأنها إنما حصلت لذلك الولي بتبعيته لذلك
النبي وإيمانه به, وقبوله لما جاء به, وعمله بشريعته, حتى لو فرضت مخالفته له, لم
يكن جعل تلك المخالفة سببا لحصول تلك الكرامة ولو جعلها ذلك الولي حجة على مخالفته
لنبيه لأبطلنا كونها كرامة, وألحقناها بالتمويهات والأحوال الشيطانية. فلا تحصل الكرامة للتابع إلا بتبعيته, ولأن الكرامة التي تحصل
للولي, دليل على صحة ما هو عليه, مما أوجب له حصول تلك الكرامة، وهو شريعة ذلك
الرسول, فكرامته دليل على صدق نبيه في دعواه.
ولا نعني بالمعجزة إلا الأمر الخارق الدال على صدق المدعي للنبوة. ولا
يرد هذا على قولهم في حد المعجزة: أنه أمر خارق للعادة, مقرون بالتحدي, وكرامات
الأولياء ليست مقرونة بتحدي النبي صلى الله عليه وسلم فلا تكون داخلة في
معجزاته.
لأنا نقول: معنى قولهم في حد المعجزة: أنه المقرون بالتحدي, أن يكون
واقعا في زمن التحدي دليلا على الصدق, لا أنه يشترط في كل معجز أن يذكر دعوى النبوة
عند وقوعه, لانعقاد الإجماع على عدِّ كثير من الخوارق التي صدرت من النبي صلى الله
عليه وسلم معجزات له, مع أنه لم يذكر الدعوى عند وقوعها. بل اكتفى في كونها مقرونة
بالتحدي.
وأيضا فكثير من معجزاته صلى الله عليه وسلم ظهرت بعد موته, وسيظهر مما
أخبر به من المغيِّبات مما يقع في آخر الزمان, مثل نزول سيدنا عيسى ابن مريم وغيره,
ولم يخرجها وقوعها بعد موته عن أن تكون معجزات له صلى الله عليه وسلم, لدلالتها على
صدقه, ولقيام دعوته إلى يوم القيامة.
وكرامات الأولياء في هذه الأمة من هذا الباب, فإنها دالة على صدقه صلى
الله عليه وسلم واقعة في زمن دعوته, فهي معجزة له في
الحقيقة.
المقدمة الثانية: أن كل معجزة تقدمت لنبي من لدن آدم إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم معجزة له أيضا, ودليل على صدقه. لأن الأنبياء بشروا به قومهم, وأعلموهم بعموم
دعوته.
وقد قال سبحانه وتعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب
وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه, قال أأقررتم وأخذتم على
ذالكم إصري, قالوا أقررنا, قال فأشهدوا وأنا معكم من
الشاهدين}.
فقد أخذ الله ميثاقه على الأنبياء عليهم السلام بالإيمان بالنبي صلى
الله عليه وسلم ونصره, وجعله رسولا إليهم في قوله: { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنه}.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "لو كان موسى حيا, لما وسعه إلا
اتباعي". دليل على ذلك.
وكذلك نزول عيسى ابن مريم مؤيدا لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم عاملا
بها, مصليا خلف إمامنا. فكان معجزة كل نبي دليلا على صدقه
في كل ما ادعاه وأخبر به, ودعا قومه إلى الإيمان به: نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم
ونسخ شرائعهم بشريعته. فمعجزات كل نبي دليل على صدق نبينا
صلى الله عليه وسلم, فهي معجزة له أيضا.
ولا يشترط في المعجزات أن تكون صادرة على يد مدعي النبوة لنفسه عند دعواه.
بل قد تصدر خوارق تدل على صدق نبي سيظهر. كالإرهاصات التي وقعت في زمن الفترة, والأحوال التي ظهرت عند
ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم, ونشأته إلى أن أوحي إليه.
فهاتان المقدمتان, توضح لك ما ذكرناه من سعة معجزة النبي صلى الله عليه وسلم
وكثرتها. وتبين لك أن معجزات غيره له. فكيف لا يكون ما يأتي به هو أتم وأكمل وأحسن. انتهى كلام
الزملكاني.
وفي كتاب "السيف المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم" للشيخ
تقي الدين السبكي: "سأل أبو داود احمد بن حنبل عن حديث أبى بكر لما أغضبه ذلك
الرجل, فقال له أبو برزة: ألا أقتله يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا, ليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه
وسلم.
فقال أحمد: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "كفر بعد إيمان, وزنا بعد إحصان, وقتل نفس بغير نفس".
والنبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل بغير
الثلاثة.
فذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم, بمعنى: أن له أن يأمر بقتل من لا
يعلم الناس سببا يبيح دمه, وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك, لأنه لا يأمر إلا بما أمر
الله به.
وهاتان الخصيصتان ليستا لغيره صلى الله عليه وسلم, وبعد موته انسد باب
الخصيصة الثانية. وأما الأولى وهي: قتل من أغضبه, فلم
ينسد, فتقوم الأئمة بعده مقامه في استيفائه.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: ما فعله الخضر من قتله الغلام لكونه طبع
كافرا, فهو مخصوص بذلك, لأن المعلوم من الشريعة: أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين
أبوين مؤمنين.
ولو فرضنا أن بعض الأولياء أطلعه الله سبحانه على حال صبي كما أطلع
الخضر, لم يجز قتله على ما تقتضيه الشريعة.
وإن كان قد ورد عن ابن عباس, لما كتب نجدة الحروري إليه يسأله عن قتله
الصبيان, فكتب إليه ابن عباس: إن كنت الخضر تعرف المؤمن من الكافر,
فاقتلهم.
وإنما قصد ابن عباس بذلك دفع محاجة نجدة, وإحالته على شيء لا يمكن, وقطع طمعه
عن الاحتجاج بقضية الخضر عليه السلام.
وليس مقصوده أنه أن حصل ذلك, يجوز القتل, فهذا مما لا تقتضيه الشريعة.
لأن الكفر ليس بحاصل الآن, بل فيما بعد, فكيف يقتل بسبب
لم يحصل؟
والقطع بأن المولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي. وإنما تحمل قصة الخضر, على أن ذلك كان شرعا له مستقلا عند من
يرى أن الخضر نبي. انتهى كلام السبكي.
فصل
الموجب لكتابة هذه الأوراق:
أنني قررت أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جمع له بين الحكم
الظاهر والشريعة كما هو للأنبياء, وبين الحكم بالباطن والحقيقة كما هو للخضر عليه
السلام, خصوصية خصه الله بها, والمستند في ذلك, نقول العلماء وأحاديث.
أما النُّقول؛ قسمان: تفصيلية وإجمالية.
فالتفصيلية:
قال القرطبي في "تفسيره": " أجمع العلماء عن بكرة أبيهم, على أنه ليس
لأحد أن يقتل بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم خاصة"
انتهى.
وناهيك بنقل الإجماع عن هذا الإمام الجليل.
وقال ابن دحية: "اختص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان له قتل من اتهمه بالزنى من غير
إقامة بينة, ولا يجوز ذلك لغيره". ونقل ذلك الزركشي في
"الخادم".
وقال الرافعي في "الشرح"والنووي في "الروضة": " ومن خصائصه صلى الله
عليه وسلم أنه كان له أن يقضي بعلمه في الحدود, وفي غيره
خلاف".
قال القاضي جلال الدين البلقيني في حواشي "الروضة": " ظاهر كلام
الشيخين, أن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بعلمه مطلقاً سواء كان في الحدود
وغيرها, وأنه لا خلاف في ذلك".انتهى.
وهذا موافق لنقل القرطبي الإجماع؛ لأن المذاهب متفقة على أن غيره لا
يقضي بعلمه في حدود الله سبحانه وتعالى, وإنما جرى الخلاف في غيرها. فجوَّزناه نحن ومنعه بقية المذاهب, ولم يجر في النبي صلى الله
عليه وسلم خلاف لا في الحدود ولا في غيرها.
وأما النقل الإجمالي: فقد قال العلماء: ما أُوتي نبي معجزة ولا فضيلة, إلا ولنبينا صلى الله
عليه وسلم نظيرها أو أعظم منها.
وقد حكوا هذا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه, وأنه قيل له لما قال ذلك:
قد أوتي عيسى عليه السلام إحياء الموتى.
قال: فقد أوتي النبي حنين الجذع؛ وهو أعظم.
وقد شاعت
هذه المقالة, حتى إن كل من صنف في الفضائل النبوية
ذكرها.
قال بدر الدين ابن حبيب في كتاب "النجم الثاقب في أشرف المناقب" : "ولم
يعط أحد من الأنبياء عليهم السلام فضيلة مستفادة؛ إلا وقد أعطاه الله مثلها
وزيادة".
وإذا ثبت ذلك؛ فلا بد أن يكون له نظير ما كان للخضر من تنفيذ الحكم بالباطن
والحقيقة, مضافا إلى الحكم بالظاهر والشريعة الذي هو لغالب الأنبياء عليهم السلام,
فأعطي نظير ما أعطيه غالب الأنبياء, ونظير ما أعطيه الخضر. وخص بالجمع بين الأمرين من حيث أبيح له الحكم بهذا والحكم بهذا,
ولم يحظر عليه شيء.
ونزيد ذلك إيضاحاً بكلام ذكره السبكي.
قال في كتابه "التعظيم والمنة": قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس
كافة" لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة, بل يتناول من قبلهم أيضا. ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيا وآدم بين
الروح والجسد". وأن من فسره بعلم الله محيط بجميع
الأشياء.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بالنبوة, ينبغي أن يُفهم منه
أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت. ولهذا رأى آدم عليه السلام
اسمه مكتوبا على العرش" محمد رسول الله", فلا بد أن يكون ذلك معنى ثابتا في ذلك
الوقت.
ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل, لم يكن له
خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد, لأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك
الوقت وقبله, فلا بد من خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم لأجاله أخبر بهذا الخبر,
إعلاما لامته ليعرفوا قدره عند الله.........
إلى أن قال: فعرفنا بالخبر الصحيح حصول ]ذلك[ الكمال من قبل خلق آدم , لنبينا محمد صلى الله
عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى, وأنه خلق حقيقته من قبل خلق آدم, وأنه أعطاه النبوة من
ذلك الوقت, ثم أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم, وأنه نبيهم
ورسولهم.
فانظر إلى هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه
وتعالى . فإذا عُرف ذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم هو
نبي الأنبياء, ولهذا ظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه, وفي الدنيا كذلك
ليلة الإسراء صلى بهم.
ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى, وجب عليهم وعلى
أممهم الإيمان به ونصرته, وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم. فنبوته عليهم ورسالته
إليهم معنى حاصل له, فلو وجد في عصرهم, لزمهم اتباعه بلا شك. ولهذا يأتي عيسى عليه
السلام في آخر الزمان على شريعته, وهو نبي كريم على حاله, وإنما يحكم بشريعة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم, بالقرآن والسنة وكل ما فيها من أمر ونهي, فهو متعلق به
كما يتعلق بسائر الأمة, وهو نبي كريم على حاله, لم ينقص منه
شيء.
وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه أو في زمان موسى وإبراهيم
ونوح وآدم, كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم, والنبي صلى الله عليه
وسلم نبي عليهم, ورسول إلى جميعهم.
فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم, وتتفق مع شرائعهم في الأصول لأنها لا تختلف.
وتقدم شريعته صلى الله عليه وسلم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع, إما على
سبيل التخصيص, وإما على سبيل النسخ, ولا نسخ ولا تخصيص. بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة
إلى أولئك الأمم؛ ما جاءت به أنبيائهم, وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه
الشريعة, والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات.
وبهذا بان لنا معنى حديثين خفيا عنا.
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة". كنا نظن انه
من زمانه إلى يوم القيامة, فبان أنه لجميع الناس أولهم
وآخرهم.
والثاني: قوله: "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" كنا نظن أنه بالعلم, فبان أنه
زائد على ذلك على ما شرحناه". هذا كلام السبكي.
فانظر إلى قوله:" إنه لو بعث صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان كانت شريعته
في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم؛ ما جاءت به
أنبياؤهم".
فعلى هذا؛ لو بعث في زمن موسى والخضر عليهم السلام كانت شريعته صلى الله
عليه وسلم بالنسبة إلى قوم موسى؛ ما جاء به موسى عليه السلام من الحكم بالظاهر
ومقتضى الشريعة. وبالنسبة إلى قوم الخضر؛ ما جاء به الخضر
عليه السلام من الحكم بالباطن ومقتضى الحقيقة.
وإذا كان كذلك؛ فكيف يستبعد بعد وجوده صلى الله عليه وسلم وبعثه أن يكون له
الأمران, ويباشرهما بنفسه؟ هذا لا يستبعده أحد.
ونحو ما قال السبكي, قول صاحب "البردة" :
وكل آي أتى الرسل الكرام بها***فإنما اتصلت من نوره
بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها***يظهرن أنوارها للناس في الظلم
قال العلامة شمس الدين ابن الصائغ في "الرقم":
"كل معجزة جاء بها الأنبياء والمرسلون إلى الخلق دلالة على نبوتهم,
فليست إلا متصلة بهم من نوره صلى الله عليه وسلم فإن نوره كان مخلوقا قبل آدم
وانتقل إليه, ثم إلى الأصلاب إلى أن تحمل الأمهات فينتقل إليهن, وبذلك النور نظم
الله المعجزات على أنبيائه الكرام.
قال: وما أحسن ما قال الناظم في "مهموزته":
لك ذات العلوم من عالم الغيـ***ب ومنها لآدم الأسماء
وقال بعضهم في شرح قول "البردة":
وكلهم من رسول الله ملتمس*** غرفا من البحر أو رشفا من الديم
أي : علوم الأنبياء كلهم مأخوذة من علمه, وهي فيه بمنزلة غرفة من البحر, أو
مصة من المطر الغزير". انتهى.
فصل:
وأما الأحاديث فعدة.
الحديث الأول:
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه, عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت:
اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة رضي الله عنهما في غلام, فقال سعد:
يا رسول الله, هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص, عهد إلي أنه أبنه, انظر إلى
شبهه.
وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله, ولد على فراش أبي, ولده من
وليدته, فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه, فرأى شبها بينا بعتبة. فقال:
"هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش, وللعاهر الحجر, واحتجبي منه يا سودة بنت
زمعة".
قالت: فلم تره سودة رضي الله عنها قط.
وفي لفظ عند البخاري وأبي داود: "هو أخوك يا
عبد".
وفي لفظ: فما رآها حتى لقي الله.
وفي لفظ مسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: فوالله ما رآها حتى
ماتت.
قال الشيخ سراج الدين ابن الملقن والحافظ ابن حجر: استدل بهذا الحديث
على أن حكم الحاكم بالظاهر لا يحل الأمر في الباطن, فانه حكم بأنه أخو عبد بن زمعة
لقوله في الطرق الصحيحة: "هو أخوك يا عبد". وإذا ثبت انه أخو عبد لأبيه, فهو أخو
سودة لأبيها, ثم أمرها بعد ذلك بالاحتجاب منه. فلو كان
الحكم يحل الأمر بالباطن, لما أمرها بالاحتجاب منه.
قال ابن الملقن: وقد قال بعض الحنفية: لا يجوز أن يجعله صلى الله عليه
وسلم ابنا لزمعة, ثم يأمر أخته أن تحتجب منه, فهذا محال.
قال ابن الملقن: ليس بمحال, بل له وجه.
قال: وقد وقع في رواية "البخاري" في (المغازي): "هو أخوك يا عبد بن
زمعة", ووقع في "مسند احمد" و"سنن النسائي": و"احتجبي منه يا سودة, فليس لك
بأخ".
واختلف في تصحيحها, فأعلها البيهقي. وقال المنذري: أنها زيادة غير
ثابتة. ورواها الحاكم في "مستدركه", وصحح إسنادها. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: "رجال إسناد هذه الرواية رجال الصحيح إلا شيخ
مجاهد, وهو يوسف مولى آل الزبير. قال: وقد طعن البيهقي في سنده. فقال: فيه جرير.
وقد نسب {في آخر عمره؟} إلى سوء الحفظ, وفيه يوسف, وهو غير
معروف.
قال: وتعقب بأن جريرا هذا لم ينسب إلى سوء الحفظ, وكأنه اشتبه عليه
بجرير بن حازم, وبأن يوسف معروف من موالي آل الزبير.
قال: فإذا ثبت هذه الزياة, تعين تأويل نفي الأخوة عن سودة رضي الله
عنها.
قال: وقد نقل ابن العربي عن الشافعي انه أوله وقال: ولو كان أخاها بنسب
محقق لما منعها, كما أمر عائشة رضي الله عنها أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة".
انتهى.
فحاصله: انه جعله أخا لعبد بظاهر الشرع, لأن الولد للفراش، ونفى أخوته
عن سودة عملا بمقتضى الباطن, وما اطلع عليه من الحقيقة. فهذا حكم في هذه القضية
الواحدة بالظاهر والباطن معا.
الحديث الثاني:
قال النسائي: أنبأنا سليمان بن مسلم المصاحفي البلخي قال: حدثنا النضر
بن شميل قال: حدثنا حماد قال: أنبأنا يوسف ابن سعد, عن الحارث بن حاطب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال: "اقتلوه" فقالوا: يا رسول الله إنما سرق, فقال
صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه". قالوا: يا رسول الله إنما
سرق, قال: "اقطعوا يده".
فقال: ثم سرق فقطعت رجله. ثم سرق على عهد أبي
بكر حتى قطعت قوائمه كلها. ثم سرق أيضا الخامسة, فقال أبو
بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: "اقتلوه".
ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه, منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة,
فقال: أمروني عليكم. فأمروه, فكان إذا ضربه ضربوه حتى قتلوه.
أخرجه الحاكم في "المستدرك". قال: حدثني أبو
بكر محمد بن احمد بن بالويه, حدثنا إسحاق بن الحسن بن الحربي, حدثنا عفان بن مسلم,
حدثنا حماد بن سلمة, عن يوسف بن سعد, وقال: صحيح, انتهى.
ورجاله رجال الصحيح سوى يوسف بن سعد الجمحي, وهو ثقة كما قال الذهبي في
"الكاشف".
وقد أخرجه الطبراني من طريق حماد بن سلمة, به.
وأخرجه من طريق آخر عن خالد الحذّاء,عن يوسف..
وأخرجه من طريق آخر عن خالد الحذاء, عن يوسف.
وأخرجه أبو يعلى, والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنديهما". وصححه أيضا
المقدسي فأخرجه في "المختارة". وهذا من الحكم
بالحقيقة.
فقد نقل الخطابي اتفاقا على أن السارق لا يقتل بحال, وهو يدل على أنه كان
مخيرا بين الحكم بظاهر الشريعة وبباطن الحقيقة. فأمر أولا بقتله على مقتضى الحقيقة,
فراجعوه, وأمر ثانيا بقتله أيضا, فراجعوه, فأمر بقطعه على مقتضى
الشريعة.
فلما سرق الخامسة, نفذ أبو بكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله كما
صرح بإسناده إليه.
فان توهم جاهل انه إنما قتله باجتهاده, فهذا
من أعظم الجهل. ويرده أمران:
الأول: تصريح أبي بكر باستناده إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله,
ولا يكون الاجتهاد مع وجود النص.
والثاني: أن الخطابي قال: إنه لم يذهب أحد من الفقهاء إلى أن السارق يقتل. فدل
على أن أبا بكر لم يفعل ذلك باجتهاد, بل بنص في هذا الرجل
بخصوصه.
الحديث الثالث:
قال أبو داود في "سننه" والنسائي معها: أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبيد
بن عقيل الهلالي, حدثنا جدي, حدثنا مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير, عن محمد
بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال:
"جيء بسارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: "اقتلوه" فقالوا: يا رسول الله إنما سرق, قال: "اقطعوه" فقطع, ثم جيء به
الثانية, فقال: "اقتلوه" فقالوا: يا رسول الله إنما سرق, قال: "اقطعوه". ثم أتي به
الثالثة, فقال: "اقتلوه", قالوا: يا رسول الله إنما سرق,
فقال: "اقطعوه". ثم أتي به الرابعة, قال" اقتلوه" قالوا:
يا رسول الله إنما سرق, فقال: "اقطعوه", ثم أتي به الخامسة, فقال:
"اقتلوه".
قال جابر: فانطلقنا به إلى مربد النعم, فرميناه بالحجارة فقتلناه ثم
ألقيناه في بئر, ثم رمينا عليه بالحجارة.
هكذا أخرجه أبو داود وسكت عليه, فهو عنده صالح صحيح يحتج به, أو حسن كما
هو مقرر في علوم الحديث.
وقال النسائي: مصعب بن ثابت, ليس بالقوي في
الحديث.
وقال الذهبي في "الميزان": "قال الزبير: كان مصعب بن ثابت من أعبد أهل
زمانه. قيل: كان يصوم الدهر, ويصلي في اليوم والليلة ألف
ركعة, حتى يبس من العبادة".
قلت: الحديث السابق يعضده, ولم ينفرد مصعب برواية هذا الحديث عن محمد بن
المنكدر, بل تابعه عليه هشام بن عروة عنه, وهشام من رجال
"الصحيحين".
وقد أخرجه الدارقطني في "سننه": حدثنا الحسن بن احمد بن سعيد الرهاوي,
حدثنا العباس بن عبيد الله بن يحيى الرهاوي, حدثنا محمد بن يزيد بن سنان, حدثنا
أبي, حدثنا هشام بن عروة, عن محمد بن المنكدر, عن جابر, به.
وأخرجه الدارقطني أيضا عن ابن الصواف, حدثنا محمد ابن عثمان, حدثنا عمي
القاسم, حدثنا عائذ بن حبيب.
وأخرجه أيضا عن أبي بكر الأبهري حدثنا محمد بن خريم, حدثنا هشام بن
عمار, حدثنا سعيد بن يحيى, كلاهما عن هشام بن عروة به, نحوه.
محمد بن يزيد بن سنان, قال النسائي: ليس
بالقوي. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: كان رجلا
صالحا.
وعائذ بن حبيب قال الذهبي في "المغني": شيعي له مناكير. غير أن انضمام
الطرق بعضها إلى بعض يفيد قوة, وكأن هذا هو الذي أوجب لأبي داود السكوت
عليه.
فاعلم, أن مصعبا ليس بالواهي, بل هو لين
الحديث. فإذا انضم إليه رواية مثله, حكم لحديث بالحسن,
فإذا انضم إليه متابع ثالث ورابع, وشاهد صحيح من رواية صحابي آخر, فلا شك في
ارتقائه إلى درجة الصحة.
فلهذا احتج به أبو داود, خصوصا والطريق الأخير رواته كلهم ثقات لا مطعن
فيهم. فان سعيد بن يحيى ذكره ابن حبان في "الثقات". فثبتت صحة حديث جابر كحديث
الحارث رضي الله عنهما, والله
الحمد.
قال الخطابي في "معالم السنن" في شرح هذا الحديث: "لا اعلم أحدا من الفقهاء
يبيح دم السارق, وإن تكررت منه السرقة.
فيحتمل أن يكون هذا معلوما من أمره انه سيعود إلى سوء فعله, ولا ينتهي عنه حتى
تنتهي حياته. ويحتمل أن يكون إنما ذلك بوحي من الله, أو اطلاع منه على ما سيكون.
فيكون معنى الحديث خاصا فيه". انتهى.
وهذا الذي قاله الخطابي, هو عين ما نحن فيه.
الحديث الرابع:
قال أبو بكر بن أبى شيبة في "مسنده": حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا موسى
بن عبيدة, حدثنا هود بن عطاء اليماني, عن أنس قال:
كان فينا شاب ذو عبادة وزهد واجتهاد, فسميناه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم يعرفه, ووصفناه بصفته فلم يعرفه. فبينا نحن كذلك
إذ اقبل الرجل, فقلنا: يا رسول الله, هو هذا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى
في وجهة سفعة من الشيطان".
فجاء فسلم, فقال له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجعلت في نفسك: أن
ليس في القوم خير منك؟ فقال: اللهم نعم. ثم ذهب فدخل المسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منه يقتل الرجل؟" فقال أبو بكر: أنا, فدخل فإذا هو قائم يصلي. فقال: أقتل رجلا يصلي, وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ضرب المصلين؟
فقال رسول الله: "من يقتل الرجل؟" فقال عمر: أنا يا رسول الله. فدخل
المسجد فإذا هو ساجد, فقال مثل أبى بكر وزاد: لأرجعن, فقد رجع من هو خير
مني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه يا عمر" فذكر
له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقتل الرجل؟" فقال علي: أنا يا
رسول الله, فقال: "أنت تقتله إن وجدته". فدخل المسجد
فوجده قد خرج.
فقال عليه الصلاة والسلام: "أما والله لو قتلته, لكان أولهم وآخرهم, وما
اختلف في أمتي اثنان".
أخرجه ابن المديني في "مسند الصديق": عن زيد بن الحباب, به. وقال: هود
بن عطاء لا يحفظ عنه غير هذا الحديث.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" من طريق موسى, به. وموسى وشيخه فيهما لين, ولكن للحديث طرق متعددة تقتضي
ثبوته.
طريق ثان عن انس: قال أبو يعلى في "مسنده": حدثنا أبو خيثمة, حدثنا عمر
بن يونس, حدثنا عكرمة هو ابن عمار, عن يزيد الرقاشي قال: حدثني انس,
قال:
كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يغزو معنا, فإذا رجع وحط عن
راحلته, عمد إلى المسجد فجعل يصلي فيه فيطيل الصلاة, حتى جعل بعض أصحاب رسول الله
يرون أن له فضلا.
فمر يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في أصحابه, فقال له بعض
أصحابه: يا نبي الله, هذا ذاك الرجل, فإما أرسل إليه, وإما جاء هو من قبل نفسه.
فلما رآه رسول الله مقبلا قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, إن بين عينيه
لسفعة من الشيطان".
فلما وقف على المجلس, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقلت في نفسك
حين وقفت على المجلس: ليس في القوم خير مني؟" قال: نعم, ثم انصرف. فأتى ناحية من المسجد, فخط خطا برجله, ثم صف كعبيه, ثم قام
يصلي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :أيكم يقوم إلى هذا فيقتله"؟ فقام
أبو بكر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلت
الرجل"؟ قال: وجدته يصلي, فهبته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يقوم إلى هذا فيقتله"؟ قال عمر: أنا, وأخذ السيف فوجده قائما يصلي, فرجع. فقال: رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أقتلت الرجل"؟ قال: يا
نبي الله, وجدته يصلي, فهبته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يقوم إلى هذا يقتله"؟ قال
علي: أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت له
إن أدركته". فذهب علي فلم يجده.
فرجع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلت
الرجل؟" قال: لم أدر أين سلك من الأرض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا أول قرن خرج من
أمتي, لو قتلته ما اختلف في أمتي اثنان. إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين
فرقة, وإن هذه الأمة ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة, كلها في النار إلا فرقة واحدة".
قال: يا رسول الله, من تلك الفرقة؟ قال: "الجماعة".
طريق آخر عن الرقاشي, عن انس, قال البيهقي في "دلائل النبوة": أنبأنا
أبو عبد الله الحافظ, وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل, قالا: حدثنا أبو العابس
محمد بن يعقوب, حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا بشر بن بكر, عن الأوزاعي قال: حدثني
الرقاشي, عن انس بن مالك, قال:
ذكروا رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فذكروا قوته في الجهاد واجتهاده في
العبادة, فإذا هم بالرجل مقبل, قالوا: هذا الذي كنا نذكر. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, إني لأرى في وجهه سفعة من الشيطان". ثم اقبل فسلم
عليهم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل حدثت نفسك". وفي رواية أبى سعيد:
"هل حدثتك نفسك: بأن ليس في القوم أحد خير منك"؟ قال: نعم.
ثم ذهب فاختط مسجدا وصف قدميه يصلي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من يقوم إليه فيقتله"؟ قال أبو بكر: أنا, فانطلق إليه
فوجده قائما يصلي. فقال يا رسول الله,
وجدته قائما يصلي, فهبته أن اقتله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال عمر: أنا, فانطلق إليه فصنع كما صنع أبو
بكر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يقوم فيقتله"؟ فقال علي: أنا, قال عليه السلام: " أنت له لن أدركته". فذهب فوجده قد انصرف, فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:" هذا أول قرن خرج من أمتي, لو قتلته ما اختلف اثنان بعده من
أمتي".
ثم قال صلى الله عليه وسلم:" إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين
فرقة, وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة. كلها في النار إلا فرقة واحدة".قال
يزيد الرقاشي: هي الجماعة.
طريق آخر عن يزيد الرقاشي مرسلا. قال عبد الرزاق في " المصنف", عن معمر,
قال: سمعت يزيد الرقاشي يقول: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه, أشرف
عليه رجل وأثنوا عليه خيرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن في وجهه سفعة من
الشيطان".
فجاء فسلم , فقال له النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام :" أحدثت نفسك
آنفا: أنه ليس في القوم رجل أفضل منك؟" قال: نعم, ثم تولى
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أفيكم رجل يضرب عنقه"؟ فقال أبو بكر: أنا, فقام فرجع. فقال رضي الله عنه: انتهيت
إليه فوجدته قد خط عليه خطا وهو يصلي فيه, فلم تتابعني نفسي على
قتله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من يقتله"؟ فقال علي: أنا يا رسول الله,
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت". فقام ثم رجع,
فقال : والذي نفسي بيده, لو وجدته لجئتك
برأسه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هذا أول قرن من الشيطان طلع في أمتي, أما
إنكم لو قتلتموه ما اختلف فيكم رجلان. إن بني إسرائيل اختلفوا على إحدى أو ثنتين
وسبعين فرقة, وإنكم ستختلفون مثلهم أو
أكثر. ليس منها صواب إلا واحدة". قيل : يا رسول الله, وما هذه الواحدة؟, قال: "
الجماعة, وأخراها في النار".
طريق آخر عن أنس. قال المحاملي في " أماليه" :حدثنا أحمد بن محمد بن
يحيى بن سعيد, حدثنا عباد بن جويرية, حدثنا الأوزاعي, حدثنا قتادة, عن أنس رضي الله
عنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل, فذكر من قوته في الجهاد
واجتهاده في العبادة, ثم أن الرجل أشرف عليهم فقيل, يا رسول الله, هذا الرجل الذي
كان نذكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي
نفسي بيده إني لأرى في وجهه شنعا من الشيطان". فأقبل الرجل فسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هل حدثت نفسك حين أشرفت
علينا: إنه ليس في القوم خير منك"؟ قال: نعم. ثم مضى
الرجل فاختطّ مسجدا, وصف قدميه يصلي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيكم يقوم
إليه يقتله"؟ فقال أبو بكر:أنا. فانطلق أبو بكر فوجده قائما يصلي فهاب أن يقتله, فرجع إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم:" ما صنعت"؟ . فقال: يا رسول الله, رأيته قائما يصلي فهبت أن لأقتله. فقال:" اجلس
".
ثم قال:" أيكم يقوم إليه فيقتله"؟ قال عمر: أنا. فانطلق عمر فوجده قائما يصلي,
فهاب أن يقتله. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له صلى الله عليه
وسلم:" ما صنعت"؟ قال: يا رسول الله, رأيته قائما يصلي,
فهبت أن أقتله. قال: "اجلس".
ثم قال : "أيكم يقوم إليه فيقتله"؟ قال علي : أنا. فقال صلى الله عليه وسلم:" أنت له إن أدركته". فانطلق علي فوجده
قد انصرف, فرجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما صنعت"؟ قال: يا رسول الله
, وجدته قد انصرف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن
هذا أول قرن خرج في أمتي, لو قتلته ما اختلف اثنان بعده. أن بني إسرائيل افترقت على
إحدى وسبعين فرقة, وتفترق أمتي على ثنتين وسبعين فرقة, كلها في النار إلا واحدة".
قال قتادة: هي الجماعة.
طرق آخر عن أنس رضي الله عنه. قال أبو يعلى في" مسنده": حدثنا محمد بن
بكار, حدثنا أبو معشر, عن يعقوب بن زيد بن طلحة, عن زيد بن أسلم, عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال:
ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم له نكاية في العدو واجتهاد, فقال:"
لا أعرف هذا". قالوا: بلى, نعته كذا وكذا. قال :" لا أعرفه". فبين نحن كذلك, إذ طلع
الرجل فقالوا: هو هذا يا رسول الله, قال:" ما كنت أعرف هذا, هو أول قرن رأيته في
أمتي, إن فيه لسفعة من الشيطان".
فلما دنا الرجل, سلم فردوا عليه السلام. فقال له
صلى الله عليه وسلم:" أنشدك بالله, هل حدثت نفسك حين طلعت علينا: أن ليس في القوم
أحد لأفضل منك"؟ قال : اللهم نعم. فدخل المسجد, فصلى.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:" قم فأقتله", فدخل أبو بكر فوجده
قائما يصلي. فقال أبو بكر في نفسه: إن للصلاة حرمة وحقا, ولو أني استأمرت رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فجاء إليه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أقتلته"؟ قال: لا, رأيته قائما يصلى, ورأيت للصلاة حرمة وحقا. وأن شئت أن أقتله, قتلته.
قال عليه السلام: "لست بصاحبه. اذهب أنت يا
عمر, فاقتله". فدخل عمر المسجد فإذا هو ساجد. فانتظره طويلا, ثم قال عمر في نفسه:
إن للسجود حقا, فلو أني استأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد استأمره من هو
خير مني. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"أقتلته؟" قال: لا, رأيته ساجدا, ورأيت للسجود حقا. وإن شئت أن أقتله, قتلته. فقال
عليه السلام: "لست بصاحبه. قم يا علي أنت صاحبه إن
وجدته", فدخل فوجده خارجا من المسجد.فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"أقتلته؟" فقال: لا. قال عليه
السلام: "لو قتل ما اختلف رجلان من أمتي حتى الدجال".
طريق آخر عن أنس رضي الله عنه. قال البزار في "مسنده" حدثنا إبراهيم بن
عبد الله الكوفي, حدثنا عبد الله بن شريك, حدثنا أبي, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن
أنس بن مالك قال:
كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل حسن السّمْت ذكروا من
أمره أمرا حسنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": إني لأرى في وجهه سفعة من
النار".
فلما انتهى فسلم, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بالله أظنه, هل قلت في
نفسك: ترى في نفسك أنك أفضل القوم"؟ قال: نعم.
فلما ذهب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد طلع قرن, هذا وأصحابه
منهم".
قال أبو بكر: أفلا أقتله يا رسول الله؟ قال
عليه السلام:" بلى". فانطلق أبو بكر, فوجده في المسجد يصلي. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني وجدته يصلي,
فلم أستطع أن أقتله. قال عمر: أفلا أقتله؟ قال عليه
السلام:" بلى". فانطلق عمر, فوجده في المسجد يصلي راكعا,
فرجع فقال: إني وجدته يصلي فلم أستطع أن لأقتله.
قال علي: أفلا أقتله يا رسول الله؟ قال عليه
السلام": بلى.أنت تقتله إن وجدته". فانطلق علي فلم
يجده.
طريق آخر لهذا لحديث من رواية جابر.قال أبو بكر بن أبي شيبة, وأحمد بن
منيع معا في "مسنديهما" حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا العوام بن حوشب, حدثنا طلحة بن
نافع أبو سفيان, عن جابر قال:
مر رجل على رسول الله, فقالوا فيه وأثنوا
عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقتله؟" قال أبو بكر : أنا. فنطلق
فوجده قائما يصلي قد خط على نفسه خطة. فرجع أبو بكر ولم
يقتله, لما رآه على تلك الحال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقتله؟" قال عمر: أنا. فذهب فرآه في خطته قائما يصلي,
فرجع ولم يقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقتله؟" فقال علي: أنا. قال عليه السلام: "أنت, ولا أراك تدركه". فانطلق فوجده قد ذهب.
أخرجه أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يزيد بن هارون
بهذا.
وهذا الإسناد صحيح على شرط مسلم, فإن يزيد بن هارون, والعوام بن حوسب من
رجال "الصحيحين". وأبو سفيان طلحة بن نافع من رجال مسلم. فلو لم يكن لهذا الحديث إلا هذا الإسناد وحده؛ لكان كافيا في
ثبوته وصحته.
طريق آخر لهذا الحديث من رواية لأبي بكرة. قال الإمام أحمد بن حنبل في "
مسنده" حدثنا رَوْح, حدثنا عثمان الشحام, حدثنا مسلم بن أبي بكرة, عن
أبيه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" من يقتل هذا؟", فقام رجل فحسر عن
يديه فاخترط سيفه وهزّه, ثم قال: يا نبي الله, بأبي أنت وأمي, كيف أقتل رجلا ساجدا
يشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدا عبده ورسوله؟.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من يقتل هذا؟"
فقال رجل: أنا. فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزّه حتى
أرعدت يده. فقال: يا نبي الله كيف أقتل رجلا ساجدا يشهد
أن لا أله إلا الله, وأن محمدا عبده ورسوله؟.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, لو قتلتموه لكان أول
فتنة وآخرها".
هذا الإسناد أيضا صحيح على شرط مسلم, فإن روحا من رجال "الصحيحين",
وعثمان الشحام ومسلم بن أبي بكرة, كلاهما من رجال مسلم. وسياق هذه القصة فيه مغايرة
لسياق حديث أنس وجابر.
فلعلها قصة أخرى وقعت لرجل آخر, فيكون حديث أبي بكرة حديثا خامسا من الأحاديث التي استندنا إليها.
الحديث السادس:
قال ابن سعد في "الطبقات": أنبأنا محمد بن عمر الواقدي عن شيوخه.
قالوا:
كان سويد بن الصامت, قد قتل أبا مجذر بن ذياد في وقعة التقيا فيها في
الجاهلية, فظفر المجذر بسويد فقتله, وذلك قبل الإسلام. فلما قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة, اسلم الحارث بن سويد ومجذر بن ذياد وشهدا بدرا. فجعل الحارث
يطلب مجذرا ليقتله بأبيه, فلا يقدر عليه.
فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة, أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه.
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد, أتاه جبريل عليه السلام
فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن ذياد غيلة, وأمره أن
يقتله.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء في ذلك اليوم في يوم حار فدخل
مسجد قباء, فصلى فيه وسمعت به الأنصار. فجاءت تسلم عليه, وأنكروا إتيانه في تلك
الساعة وفي ذلك اليوم, حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورّسة.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عويم بن ساعدة. فقال: "قدم
الحارث بن سويد إلى باب المسجد, فاضرب عنقه بمجذر بن ذياد, فانه قتله
غيلة".
فقال الحارث: قد والله قتلته, وما كان قتلي رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا
فيه, ولكن حمية من الشيطان, وأمر وكلت فيه إلى نفسي, وإني أتوب فيه إلى الله ورسوله
وأستغفره مما عملت, وأخرج ديته, وأصوم شهرين متتابعين, وأعتق رقبة. حتى إذا استوعب
كلامه, قال: "قدمه يا عويم فاضرب عنقه بمجذر بن ذياد". فقدمه فضرب
عنقه.
فقال حسان بن ثابت فيه
شعرا:
يا حر في سنة من نوم أولكم *** أم كنت ويحك مغترا
بجبريل
أم كنت يا ابن ذياد حين تقتله *** بغرة في فضاء الأرض
مجهول
قال ابن الأثير: اتفق أهل النقل على أن الحارث بن سويد, هو الذي قتل
المجذر بن ذياد, فقتله النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الاتفاق الذي نقله ابن الأثير, يقتضي الحكم بصحة الحديث, وإن لم يكن
إسناده على شرط الصحة, كما تقرر في علم الحديث. وذكره ابن عبد البر في "التمهيد" وغيره.
وهذا الحكم المذكور فيه من الحكم بمقتضى الحقيقة والإطلاع على الباطن, لأنه
لم يقع فيه دعوى من الوارث, ولا طلب منه القصاص, ولا قبول الدية, ولا تأخير لبلوغ
من كان من الورثة صغيرا.
وكل هذه الأمور من مقتضيات الشريعة, وركب النبي صلى الله عليه وسلم وجاء
بنفسه لتنفيذ الحكم, وما فعل ذلك في سائر الوقائع التي حكم فيها بالقصاص. بل كان
يجلس في بيته أو في مسجده حتى يأتيه الوارث ويدعي ويثبت القتل, ويطلب القصاص,
ويرغبه النبي صلى الله عليه وسلم في العفو, كما ورد في الحديث: "ما رفع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم قصاص, إلا أمر فيه بالعفو".
وقد نقل البلقيني في حواشي "الروضة" عن ابن المنذر, والطبري, أنهما
استدلا على انه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالعلم بحديث "خذي من ماله بالمعروف,
ما يكفيك ويكفي بنيك".
ووجه ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم حكم لها من غير أن يطالبها بالبينة على
الزوجية.
فان قيل: إنما قتله من غير دعوى الوارث ولا طلبه, ولا مما ذكرت, ألانه جاءه
الوحي بذلك.
قلت: نعم, وهو نفس المدعى. فان معنى الحكم
بالحقيقة, أن يوحى إليه بحقيقة الحال وباطن الأمر, ويؤمر بتنفيذ ذلك من غير توقف
على وجود الشرائط التي تعتبر في الشريعة.
هذا معنى الحكم بالحقيقة, لا معنى له غيره, وما قتل الخضر الغلام إلا
بوحي أوحاه الله إليه, وأطلعه على انه طبع كافرا, وأمره أن يقتله في الحال من قبل
أن يوجد الشرطان المعتبران في الشريعة, وهما: البلوغ, ومباشرة الكفر. ولهذا قال: {وما فعلته عن أمري} أي: ما فعلته إلا بوحي من الله,
وأمره لي بذلك.
قال أبو حيان في "تفسيره": " الجمهور على أن الخضر نبي, وكان علمه معرفة
بواطن أوحيت إليه, وعلم موسى الحكم بالظاهر".
حديث آخر. قال الإمام احمد بن حنبل: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا عبد
الملك أبو جعفر, عن أبى نضرة, عن سعد بن الأطول:
أن أخاه مات وترك ثلاث مئة درهم وترك عيالا, فأردت أن أنفقها على عياله,
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاك محبوس بدينه, فاقض عنه". فقال: يا رسول
الله, قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة. فقال: "أعطها, فإنها محقة". أخرجه ابن ماجه.
قال الحافظ زين الدين العراقي في كتاب "قرة العين بالمسرة بوفاء الدين":
هذا حديث حسن. انتهى.
وهذا من الحكم بالباطن, فان ظاهر الشريعة في مثل هذا, انه لا بد من البينة
ومن اليمين أيضا وجوبا, لأنها دعوى على ميت, خصوصا والورثة صغار, ومع ذلك حكم
بالأداء بدو نهما, لإطلاعه على الباطن.
قصة أخرى. قال النووي في "الأذكار": وأما لعن زان, أو مصور, أو سارق, أو آكل ربا,
فظاهر الأحاديث انه ليس بحرام. وأشار الغزالي إلى تحريمه, إلا في حق من علمنا انه
مات على الكفر, كأبي لهب, وأبي جهل, وفرعون, وهامان, وقارون,
وأشباههم.
قال: لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله
تعالى, وما ندري ما يختم به لهذا الفاسق أو الكافر. قال:
وأما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعيانهم, فيجوز انه علم بموتهم على
كفرهم.
قصة أخرى: قال عبد الرزاق في "المصنف" عن ابن جريج قال: اخبرني عكرمة بن خالد أن
أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث اخبره: أن امرأة جاءت امرأة فقالت: أن فلانة تستعيرك حليا, وهي
كاذبة. فأعارتها إياه, فمكثت (أياما) لا ترى حليها,
(فجاءت التي كذبت على فيها فسألتها حليها) فقالت: ما استعرت منك حليا. فرجعت إلى
الأخرى فسألتها حليها, فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئا, فجاءت النبي صلى الله
عليه وسلم فدعاها, فقال: والذي بعثك بالحق نبيا, ما استعرت منها شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فخذوه من تحت فراشها".
فأخذوا, وأمر بها فقطعت.
هذا مرسل صحيح الإسناد, وورد أيضا من مرسل سعيد بن المسيب, فصار صحيحا
على مذهب الشافعي وغيره.
قال عبدالرزاق عن ابن جريج قال: اخبرني يحيى بن سعيد انه سمع سعيد بن المسيب رضي الله عنه
يقول:
أتي النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة (في بيت عظيم من بيوت قريش) قد أتت
ناسا فقالت: إن آل فلان يستعيرونكم كذا وكذا, فأعاروها. ثم أتوا أولئك فأنكروا أن
يكونوا استعاروهم, وأنكرت هي أن تكون استعارتهم, فقطعها النبي صلى الله عليه
وسلم.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج, عن ابن المنكدر قال: آوتها امرأة أسيد بن
حضير, فجاء أسيد فلامها وقال: لا أضع ثوبي حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء,
فذكر ذلك له, فقال: "رحمتها, رحمها الله".
قصة أخرى. قال احمد في "مسنده": حدثنا اسود بن عامر, حدثنا شريك, عن عطاء بن
السائب, عن أبى يحيى الأعرج, عن ابن عباس قال:
اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فوقعت اليمين على أحدهما, فحلف
بالله الذي لا اله إلا هو, ماله عنده شيء, فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: انه كاذب, أن له عنده حقه. فأمره أن يعطيه
حقه.
وقال البيهقي في "سننه": أنبأنا أبو منصور عبد القاهر بن طاهر الإمام, أنبأنا أبو عمرو بن نجيد,
أنبأنا أبو مسلم, حدثنا الأنصاري, حدثنا أشعث, عن الحسن:
أن رجلا فقد ناقة له وادعاها على رجل, فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: هذا اخذ ناقتي. فقال: لا والله الذي لا اله إلا هو, ما أخذتها. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد
أخذتها, فردها عليه", فردها عليه.
وقال عبد الرزاق في "المصنف": عن ابن جريج قال: حدثت عن محمد بن كعب
القرظي. أن رجلا سرق ناقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء صاحبها فقال:
يا رسول الله, إن فلانا سرق ناقتي, فجئته فأبى أن يردها (إلي). فأرسل إليه النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: "أردد إلى هذا ناقته". فقال:
والذي لا اله إلا هو ما أخذتها, وما هي عندي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اذهب", فلما قفى جاءه جبريل عليه السلام فأخبره انه قد كذب, فإنها عنده, فأرسل
إليه, فليردها". فردها.
قصة أخرى. قال الطبراني في "الكبير" حدثنا الحسين ابن إسحاق, حدثنا فروة بن عبد
الله بن سلمة الأنصاري, حدثني هارون بن يحيى الحاطبي, حدثنا زكريا بن إسماعيل ابن يعقوب بن إسماعيل بن
زيد بن ثابت, عن أبيه إسماعيل, عن عمه سليمان بن زيد بن ثابت
قال:
قال زيد بن ثابت: غدونا يوما غدوة من الغدوات مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى كنا في مجمع طرق المدينة, فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعيره حتى وقف
على النبي صلى الله عليه وسلم ونحن حوله, فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته, فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فكيف أصبحت" (قال) ورغا البعير,
وجاء رجل كأنه حرسي, فقال الحرسي: يا رسول الله, هذا الأعرابي سرق البعير. فرغا البعير ساعة وحن, فأنصت له رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسمع رغاءه وحنينه.
فلما هدأ البعير, اقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الحرسي فقال:
"انصرف عنه, فان البعير شهد عليك انك كاذب".
فانصرف الحرسي, وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي فقال: "أي
شيء قلت حين جئتني"؟ قال: قلت بأبي أنت وأمي: اللهم صل
على محمد حتى لا تبقى صلاة. اللهم وبارك على محمد حتى لا
تبقى بركة. اللهم وسلم على محمد حتى لا يبقى سلام. اللهم
وارحم محمدا حتى لا تبقى رحمة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل أبداها لي والبعير ينطق
بعذره, وإن الملائكة قد سدوا الأفق".
وقال الحاكم في "المستدرك": حدثني أبو محمد الحسن ابن إبراهيم الأسلمي الفارسي من اصل كتابه, حدثنا
جعفر ابن درستويه, حدثنا اليمان بن سعيد المصيصي, حدثنا يحيى ابن عبد الله المصري,
حدثنا عبدا لرزاق عن معمر, عن الزهري, عن سالم, عن عبدا لله بن عمر
قال:
كنا جلوسا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل أعرابي جهوري بدوي
يماني على ناقة حمراء فأناخ بباب المسجد, فدخل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم,
ثم قعد.
فلما قضى نحبه قالوا: يا رسول الله, أن الناقة التي تحت الأعرابي سرقة,
ثم قال: "أثم بينة"؟ قالوا: نعم يا رسول الله, قال: "يا
علي, خذ حق الله من الأعرابي أن قامت عليه البينة, وان لم تقم, فرده
إلي".
فأطرق الأعرابي ساعة. فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: "قم يا أعرابي لأمر الله, وإلا فأدل بحجتك". فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالكرامة يا رسول الله,
أن هذا ما سرقني, ولا ملكني أحد سواه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أعرابي بالذي انطقها بعذرك, ما الذي
قلت؟" قال: قلت: اللهم انك لست برب استحدثناك, ولا معك اله أعانك على خلقنا, ولا
معك رب فنشك في ربوبيتك, أنت ربنا كما نقول, وفوق ما يقول القائلون. أسألك أن تصلي
على محمد, وان تبرئني ببراءتي.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالكرامة يا أعرابي, لقد
رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك, فأكثر الصلاة
علي".
قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات, ويحيى ابن عبد الله المصري
هذا, لست اعرفه بعدالة ولا بجرح.
وقال الديلمي في "مسند الفردوس": أنبأنا غانم بن محمد, أنبأنا الحسين بن فرساه, أنبأنا الطبراني في
"الدعاء", حدثنا محمد بن حموس بن نصري القطان الهمداني, حدثنا عمر بن حفص الاوصابي
الحمصي, حدثنا سعيد بن موسى الازدي الثوري, عن عمرو بن دينار, عن نافع, عن ابن عمر
رضي الله عنهما قال:
جاؤوا برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا عليه انه سرق ناقة لهم,
فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع.
فولى الرجل وهو يقول: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلاتك شيء,
وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء, وسلم على محمد حتى لا يبقى من السلام
شيء.
فتكلم الجمل فقال: يا محمد, انه بريء من
سرقتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يأتيني بالرجل", فابتدره سبعون من أهل
المسجد فجاؤوا به إلى النبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا هذا ما قلت
آنفا وأنت مدبر" فأخبره بما قال.
فقال النبيى صلى الله عليه وسلم
"لذلك نظرت إلى الملائكة يخترقون سكك المدينة, كادوا يحولون بيني وبينك", ثم
قال له: "لتردن على الصراط ووجهك اضوأ من القمر ليلة البدر".
تنبيه: بلغني أن قائلا قال: أن كونه صلى الله عليه وسلم خص بأن يحكم بالظاهر
والباطن معا, وسائر الأنبياء إنما يحكمون بأحدهما, يورث نقصا في حق الأنبياء معاذ
الله.
وهذا من أعجب العجب, فان النبي صلى الله عليه وسلم اخبر في الأحاديث الصحيحة
انه أعطي خصالا لم يعطها أحد من الأنبياء قبله.
فهل يقول أحد من المسلمين: أن هذا يورث نقصا في حق سائر الأنبياء, معاذ
الله.
وقد وردت النصوص والنقول بان النبيى صلى الله عليه وسلم جمع له بين أمور
لم تجتمع لنبي قبله.
منها: انه شرع له في قتل العمد التخيير بين القصاص والدية, ولم يكن في شرع
موسى عليه السلام إلا القصاص فقط, ولم يكن في شرع عيسى عليه السلام إلا الدية
فقط.
ونظير حكمه بالأمرين عموم بعثته, فانه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس
كافة, والى الجن بالإجماع, وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة.
فهل يقول مسلم: أن ذلك نقص في حق سائر الأنبياء, معاذ
الله.
وقد أبيح له صلى الله عليه وسلم الصلاة في جميع بقاع الأرض, ولم يبح لسائر
الأنبياء الصلاة إلا في البيع والكنائس.
فهل يقول مسلم: أن هذا التعميم الذي خص به نبينا صلى الله عليه وسلم يورث
نقصا في حق سائر الأنبياء؟ معاذ الله.
وقد قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}.
وكل مسلم يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء على
الإطلاق, وذلك لا يورث نقصا في حق أحد منهم صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين.
وهذا الاعتراض ما كان يحتاج إلى الجواب, إلا أني أجبت عنه خشية أن يسمعه
جاهل فيؤديه ذلك إلى إنكار خصائص النبيى صلى الله عليه وسلم التي فضل بها على سائر
الأنبياء, توهما من أن ذلك يورث نقصا فيهم, ويكذب ما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم
به من انه أعطي خصالا لم يعطها نبي قبله, وانه فضل على الأنبياء بكذا وكذا خصلة,
فيقع والعياذ بالله في الكفر والزندقة.
نعوذ بالله من ذلك, ونسأل الله السلامة والعافية, وحسن
الخاتمة.
وقد تم الكتاب بعون الله الكريم الوهاب, والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات, وصلوات الله وسلامه على سيد السادات ومعدن السعادات, وحسبنا الله ونعم
الله الوكيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وصلى الله على سيدنا ومولانا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم. آمين يا رب العالمين, آمين
آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق