شعلة نار
للإمام
الحافظ جلال الدين السيوطي
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى, وسلام على عباده الذين اصطفى.
معنى قولي: "وجمعت له الشريعة والحقيقة" أي:
الحكم بالظاهر والباطن معا, فالمراد بالشريعة: الحكم بالظاهر, وبالحقيقة: الحكم بالباطن كقتل من استحق القتل
باطنا من غير ثبوت ما يوجب ذلك عليه باعتراف وبينة, وثبوت ذلك له صلى الله عليه
وسلم ثابت معروف. أما حكمه بالظاهر, فواضح, وأما حكمه
بالباطن, فنص عليه غير واحد من العلماء, ووردت أحاديث تشهد له
بذلك.
قال القرطبي: اجمع العلماء عن بكرة أبيهم, انه لا يجوز لحاكم أن يقتل
بعلمه, إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ ابن دحية: اختص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان له قتل
من اتهمه بالزنا من غير بينة, ولا يجوز ذلك لغيره.
ومن الأحاديث الدالة على حكمه بالحقيقة:
حديث انس رضي الله عنه قال: ذكروا رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا
قوته في الجهاد, واجتهاده في العبادة, فإذا هم بالرجل مقبلا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى في وجهه سعفة من
الشيطان", فلما دنى, سلم ووقف يصلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقوم
إليه فيقتله؟", الحديث.
وحديث الحارث بن حاطب رضي الله عنه أن رجلا سرق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فأتي بيه فقال: "اقتلوه", فقالوا: إنما سرق, قال: "فاقطعوه". ثم سرق أيضا, فقطع, ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه فقطع,
ثم سرق, فقطع الخامسة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حيث أمر بقتله, اذهبوا به فاقتلوه,
فقتلوه.
ومن حكمه صلى الله عليه وسلم بالشريعة والحقيقة
معا:
قوله في الولد المدعى: "هو لك يا عبد بن زمعة, الولد للفراش, وللعاهر
الحجر, واحتجبي منه يا سودة", فلم تره سودة قط. حكم بالولد للفراش على ظاهر الشرع,
وأمر سودة أخته بالاحتجاب منه, عملا بالحقيقة لإطلاعه على باطن الأمر, وأنها ليست
بأخته في الباطن.
وأما سائر الأنبياء صلوات الله عليهم, فمنهم - وهو الغالب - من بعث للحكم
بالظاهر فقط دون الباطن وإن علمه, كموسى عليه السلام. ولهذا أنكر على الخضر قتله
الغلام, لأن مقتضى الشرع أن لا يقتل إلا بالغ ثبت كفره باعتراف أو بينة, ولم ينكر
عليه علمه به. وأجابه الخضر عن إنكاره بقوله: {وما فعلته
عن أمري}, فذكر الفعل دون العلم.
ولهذا أيضا ورد أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات والأرض,
وتجلى له ما فيهما من الحقائق واطلع على البواطن, أراد أن يعمل بمقتضى الحقيقة,
فنهاه الله تعالى عن ذلك. وذلك لأنه بعث ليحكم بالظاهر
فقط ولا يحكم بالباطن, وان اطلع عليه ورآه عيانا.
ومنهم من بعث ليحكم بالباطن فقط دون الظاهر, وان علمه كالخضر. ولهذا قال
لموسى عليه السلام كما ثبت في حديث "الصحيحين": "إني على علم من علم الله علمنيه
الله تعالى لا ينبغي لك أن تعلمه" أي: لا يصلح لك أن تنفذه وتحكم به, لأنك لم تبعث
لتحكم به وان علمته, إنما بعثت لتحكم بالظاهر. "وأنت على علم من الله علمكه الله لا
ينبغي لي أن اعلمه" أي: لا يصلح لي أن أنفذه وأحكم بمقتضاه, لأني لم أبعث لأحكم به
وان علمته, إنما بعثت لأحكم بالباطن.
هكذا شرح الحديث على هذا التقرير شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني, ولا
بد منه, لأنه لا يخطر بالبال أن الخضر لم يكن يعلم أن الشريعة: إن لا تقتل إلا
بالغا ثبت كفره, هذا محال. بل كان يعلم ذلك قطعا, وإنما مقصوده انه لا ينبغي له
تنفيذ هذا الأمر والحكم بمقتضاه, لأنه لم يبعث به.
ولهذا قال في الجانبين: لا ينبغي لك أن تعلمه ولا ينبغي لي أن اعلمه, أي
لا يليق ولا يسوغ ولا يجوز, لعدم الإذن في ذلك, ولم يقل: لا تعلمه ولا
اعلمه.
وهذا هو الذي ارشد العلماء إلى تأويل الحديث بما ذكر, وحمل الأمر لله على
التنفيذ والحكم والعمل بمقتضاه.
فالجملة المذكورة في صدر الكلام, هي التي دل عليها مضمون الحديث, والمعنى
المقصود منها هو المعنى المقصود منه بعينه, لا شيء غيره.
يرشد إلى ذلك: قولي: "بدليل قصة موسى مع الخضر" إلى آخره. فان الدليل لا
بد أن يتطابق مع المدلول مع ضميمة أنه جيء في الكلام بحرف "اللام" الدال على الملك
والاختصاص, وذلك مناسب للحكم, ولم يؤت بحرف الظرف كـ "في" و"عند" الذي هو مناسب
للمظروفات كـ "العلم". ومع ضميمة أن الجملة معطوفة على جمل قصد منها الأعمال
والأحكام دون العلم.
فمن سرى إلى ذهنه أن معنى الكلام: جمع له علم الشريعة وعلم الحقيقة دون
سائر الأنبياء, فقد ضل ضلالا بعيدا, وأبدى عن جهل كبير:
أولا: بمتون الأحاديث.
وثانيا: بمنقولات العلماء في المسألة.
وثالثا: بتقريرهم كلام الخضر وتأويله على أحسن
وجه.
ورابعا: بالفقه.
وخامسا: بأصوله.
وسادسا: بأصول الدين.
وسابعا: بالعربية, والفرق بين معاني الأدوات ومدلولات
الألفاظ.
وثامنا: بعلوم البلاغة التي بها يعرف أسرار
التراكيب.
وتاسعا: بمصطلح المصنفين في العبارات,
والتعاطف وترتيب الكلام بعضه على بعض.
وعاشرا: بالتصوف, فانه لو كان محققا فيه, لعلم أن المراد هنا بالشريعة:
الحكم بالظاهر, وبالحقيقة: الحكم بالباطن, دون العلمين المسمين بهذا الاسم اصطلاحا
حادثا, ودون العلم الذي هو وصف حادث قائم بالذات خصوصا, ولم يقع في العبارة لفظة
علم البتة.
فمن أين أتى بهذا اللفظ, حتى اعترض عليه, ومن سوغ له تقديره في الكلام من
عند نفسه حتى رتب عليه ما رتب.
ولكن كيف يستكثر هذا العلم بل الفهم السيئ, والجهل البين على من لو سئل
مسألة في دين الله من باب الاستنجاء فما فوقه, لم يحسن
جوابها.
وكثير من الناس يظن أن كل من مارس كتب التصوف وقرأ شيئا منها وكتب وعلق, يسمى
صوفيا, وليس كذلك. ولكن لا يستحق هذا الاسم حتى يلج الجمل
في سم الخياط.
إنما التصوف علم الحال, لا علم المقال, وهو أن يتخلق بمحاسن الأخلاق التي
وردت بها السنن النبوية.
ولهذا قالوا: التصوف ارتكاب كل خلق سني, وترك كل خلق
دني.
وقال بعض الأئمة: التصوف علم مركب من الحديث وأصول الدين. فمن تضلع بالأحاديث النبوية وعمل بها, وكان اعتقاده صحيحا على
مذهب أهل السنة والجماعة, كان صوفيا.
ومن تضلع بعلم الحديث دون علم أصول الدين, كان محدثا. ومن تضلع بعلم أصول الدين دون
الحديث, كان أصوليا, أو متكلما, ولا يسمى واحد منهما صوفيا.
فإذا جمع الأمرين فتضلع بالحديث وعمل به وبالأصول, وصح معتقده, كان هو
الصوفي.
ولهذا قال بعض المتقدمين: لا يتم للإنسان هذا الطريق حتى يقدم على ذلك حفظ
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلم ما يجب اعتقاده على طريق أهل
السنة.
وكثير من يدعي الآن التصوف, لو سئل عن السنة في تطهير غائطه وبوله لم
يعرفها, فضلا عن أن يعرف جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عباداته
وعاداته, وأكله وشربه, ولبسه وحركته, وسكونه ويقظته, ونومه وجلوسه, وقيامه ومشيه,
ومعاشرته لأهله, إلى غير ذلك.
إلا ترى أن الجنيد كيف امتنع من أكل البطيخ لأنه لم يثبت عنده كيفية
أكله صلى الله عليه وسلم له, وإن ثبت أصل أكله.
وقد سأل حفاظ عصره عن كيفية أكله له, فقالوا: لم يثبت في ذلك
شيء.
ولقد اجتمع بي رجل فسألني عن شيء, فقلت له: حتى تكمل في السنة أولا. فقال:
قد كلمت في السنة.
فقلت له: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس؟ فلم يعرف ذلك, فبينت
له غلطه في نفسه.
ومن شأن الصوفية الخلص, أن لا يضيعوا شيئا من السنن مطلقا, ولا يتعاونون
بتركها, سواء علموا وجه الحكمة في ذلك, أم لم يعلموا, فان ذلك يكون سببا لمزيد
علمهم, وكلما فعل الإنسان سنة, رماه الله إلى فعل سنة أخرى لم يكن يعمل بها قبل
ذلك.
كما قالوا: الحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة. والسيئة بعد السيئة عقوبة
السيئة. ولقد أقمت سنين لا ادري وجه الحكمة في نهيه صلى
الله عليه وسلم عن أكل التمر وجعل النوى على الطبق, فببركة امتثال هذه السنة أوقعني
الله على وجه الحكمة في ذلك منقولا في كلام بعض أئمة الحديث.
ثم اعلموا أيها الناس, أن الصوفية قسمان:
أحدهما: صوفية السنة كالجنيد وأتباعه, وهؤلاء هم الخلص الذين هم صفوة الله من
خلقه, افنوا عمرهم في تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها, فصاروا
صفوة الصفوة.
والقسم الثاني: متصوفة الفلاسفة, وأصلهم كفار يونان, فإنهم كانوا أهل حكمة وعقل,
فأخذوا في التزهد والتريض, ثم بعث الله تعالى موسى عليه السلام في زمانهم, فدعاهم
إلى شريعته, فأبوا واستكبروا وقالوا له: نحن في غنية عما عندك, فانا نقول بما تقول
به, ونزيد عما جئت به, إنا لا نرى ذبح الحيوان شفقة عليه, وأنت تراه, فاستنكفوا عن
اتباعه. فأضلهم الله تعالى وركبهم إبليس, فجرهم في رياضتهم تلك إلى الاعتقادات
الفاسدة كقولهم: بقدم الروح, وبقدم العالم, وبالهيولى, وبالوحدة
المطلقة.
فلما جاء الإسلام ونبعت فرقة الصوفية الخلص, أراد جماعة أن يتشبهوا بهم,
فعز عليهم تتبع الأحاديث والآثار, وشق عليهم مقاساة المواظبة على فعل السنن
والمحافظة عليها, فعمدوا إلى طريقة متصوفة الفلاسفة لأنها اقل عملا, وأدنى كلفة.
ورأس هذه الطائفة ابن سينا الفيلسوف الذي قال فيه ابن الصلاح في "فتاويه": "إنه لم
يكن عالما, وإنما كان شيطانا من شياطين الأنس".
فمهد طريق الفلاسفة, وقررها ودعا الناس إليها, فتبعه من تبعه في عصره ومن
بعده. ومن ثم انتدب الأئمة وصنفوا كتبا بينوا فيها التفرقة بين صوفية السنة الخلص,
وبين متصوفة الفلاسفة الضالة, وأوضحوا حال كل من الفريقين إيضاحا بينا, وأثنوا على
الأولين وحثوا على أتباعهم, وذموا الآخرين, وحذروا من الاغترار بضلالهم, ولم يزل
الأئمة ينتدبون للتنبيه على ذلك سلفا وخلفا.
وأما هذا الزمان, فكثير ممن يدعي التصوف فيه ليس عنده من شروطه شيء, ولا
أتقن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عرفها, فضلا عن أن يعمل بها. وإنما يعمد
إلى كتب صنفها هؤلاء وهؤلاء, فيأخذ منها ما اختاره
ويقرره.
ولهذا ترى الواحد منهم عليه ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض لأنه لم تشرق
عليه أنوار السنة, ولا صفا باطنه حتى يستنير ظاهره, فترى الجاهل منهم يدندن حول
الوحدة المطلقة وحول قدم الروح, ونحو ذلك, والسامعون لهم ثلاثة
رجال:
رجل عامي: جاهل حسن الظن بالصالحين, سمع كلاما ظن انه خير, فصادف قلبا خاليا
فتمكنا, فرسخ ذلك في قلبه وصار يقاتل عليه بالسيف. وإذا أرشده مرشد إلى ترك اعتقاد ذلك, قال: هذا يحط على
الصالحين.
ورجل فقيه: يعلم أن هذه المقالات تخالف الشريعة, غير انه ليس بواسع الدائرة, فما
يسعه إلا أن يزعق من رأسه بما لا يعيه حتى يملأ الدنيا عياطا, ويكفر كل صوفي, ويسيء
الظن بكل صالح. ولو أمكنه أن يخرج عليهم بالسيف لفعل, وهو
معذور, فان الفقيه لا يطيق أن يسمع ما يخالف الشرع, فضلا عن أن يوافق على انه رتبة
عالية. غير انه ليس معذورا في إطلاقه سوء الظن بجميع
الصوفية, فان الناس ليس كلهم سواء.
والرجل الثالث: رجل متضلع بجميع العلوم واسع الدائرة, طويل الباع راسخ القدم, يعرف
الأمور وأصولها وفروعها, ويعرف طرق الناس المختلفة وأهوائهم المشتبهة, وكل مقالة من
أين جاءت.
فهذا يتثبت في كل أمره, ويحكم على كل إنسان بما يستحقه. فإذا جاءه رجل يدعي انه صوفي, نظر إليه أولا والى سمته والى
حركته وسكونه, والى كلامه وسكوته. فان رآه سالكا في سمته وهديه سبيل السنة, متحركا
في موضع الحركة, ساكنا موضع السكون, متكلما في موضع الكلام, ساكتا في موضع السكوت,
يضع الأمور مواضعها, ويوقع الأشياء مواقعها, خاض معه وفتش على ما عنده, فإذا رآه
بصفة الكمال أكرمه وعظمه, وأوصله محله.
وإن رآه تاركا للسنة, خاض معه في السؤال عن السنن, لينظر أتركها عن جهل بها
أو عن علم, فان رآه جاهلا بها, أرشده إلى تعلمها, وإن رآه عالما بها, عنفه في
التخلف عنها, ونظر هل يقبل منه النصيحة أو تشق عليه.
ثم يفتش على معتقده, فان رآه يميل إلى معتقد متصوفة الفلاسفة, نصحه وأرشده
وبين له بطلان ما هو عليه وضلاله, فان قبله, فبها ونعمت. وإن رآه رجلا جاهلا بالسنة
جاهلا بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وآثار أصحابه, جاهلا بأحكام
الشريعة, متشبعا بما لم يعط, غرضه إقامة نار موسى وتار خوشى, وشهرة كاذبة, ودعوى
باطلة, وأن يصير له في الناس ذكر بعد سفالة, وشهرة بعد خمالة, أدرجه في حيز أولي
السقط, وأدخله في زمرة القرود
والقطط.
وما للمرء خير في حياة *** إذا ما عد من سقط المتاع
انتهى وكمل بحمد الله وحسن توفيقه, وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق