الرسالة
الوعظية
حجة الإسلام أبو
حامد الغزالي رضي الله عنه
لقد بلغني على لسان من أثق به سيرة الشيخ الإمام الزاهد – حرس الله توفيقه
وسمره في مهم دينه – ما قوّى رغبتي في مؤاخاته في الله رجاء لما وعد به عباده
المتحابين. وهذه الأخوة لا تستدعي مشاهدة الأشخاص وقرب الأبدان، وإنما تستدعي قرب
القلوب وتعارف الأرواح، وهي جنود مجندة، فإذا تعارفت ائتلفت. وها أنا عاقد معه
الأخوة في الله تعالى ومقترحٌ عليه أن لا يخليني عن دعوات في أوقات خلوته. وأن
يسأل الله تعالى أن يريني الحق حقا ويرزقني اتباعه، وأن يريني الباطل باطلا ويرزقني
اجتنابه. ثم قرع سمعي أنه التمس مني كلاما في معرض النصح والوعظ، وقولا وجيزا فيما
يجب على المكلّف اعتقاده من قواعد العقائد.
وعظ
النفس
أما الوعظ، فلست أرى نفسي أهلا له، لأن الوعظ زكاة نصابها الاتعاظ. ومن لا
نصاب له كيف يخرج الزكاة. وفاقد النور كيف يستنير به غيره! (ومتى يستقيم الظل
والعود أعوج). وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم: "عظ
نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس .. وإلا فاستحي مني". وقال نبينا صلى الله عليه
وسلم: "تركت فيكم واعظين: ناطق، وصامت". فالناطق هو القرآن والصامت هو
الموت وفيهما كفاية لكل متعظ، ومن لا يتعظ بهما فكيف يعظ غيره.
ولقد وعظت بهما نفسي فصَدَقَتْ وقبلت قولا وعقلا، وأبت وتمردت تحقيقا
وفعلا. فقلت لنفسي: أما أنت مصدقة أن القرآن هو الواعظ الناطق، وأنه الناصح
الصادق، فإنه كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
فقال: نعم. قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا
يُبْخَسُونَ. (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15- 16).
فقد وعدك الله تعالى بالنار على إرادة الدنيا، وكل ما لا يصحبك بعد الموت
فهو من الدنيا، فهل تنزهت عن إرادة الدنيا أو حبها؟ ولو أن طبيبا نصرانيا وعدك
بالموت أو المرض على تناولك ألذ الشهوات لتحاشيتها واتّقيتها. أكان النصراني عند
أصدق من الله تعالى؟ فإن كان ذلك فما أكفرك! أو كان المرض أشد عندك من النار، فإن
كان ذلك، فما أجهلك! فصدقت ثم ما انتفعت بل أصررت على الميل إلى العاجلة واستمررت.
ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ الصامت فقلت: قد أخبر الناطق عن الصامت إذ
قال تعالى: {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة: 8). وقلت لها: هبي أنك ملت إلى العاجلة، أفلست
مصدقة بأن الموت لا محالة آتيك وقاطعٌ عليك كل ما أنت متمسكة به، وسالب منك كل ما
أنت راغبة فيه وكل ما هو آت قريب. والبعيد ما ليس بآت. وقد قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا
أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (الشعراء:205- 207). أفأنت مخرجة هذا
عن جميع ما أنت فيه؟
والحر الحكيم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج منها. واللائم يتمسك بها إلى أن
يخرج من الدنيا خائبا خاسرا متحسرا. فقالت: صدقت. فكان ذلك منها قولا لا تحصيل
وراءه. إذ لم تجتهد قط في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة. ولم تجتهد قط
في رضاء الله تعالى كاجتهادها في رضاها، بل كاجتهادها في طلب الخلق. ولم تستح قط
من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق. ولم تشمّر للاستعداد للآخرة كتشميرها
للصيف. فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تفرغ من جميع ما تحتاج إليه من آلاته
مع أن الموت ربما يختطفها، والشتاء لا يدركها، والآخرة على يقين لا يتصور أن يختطف
منها. وقلت لها: ألا تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على
الحر؟ قالت: نعم. قلت: فاعص الله بقدر صبرك على النار، واستعدي للآخرة بقدر بائك
فيها. فقالت: هذا هو الواجب، الذي لا يرخ في تركه إلا الأحمق. ثم استمرت على
سجيتها فوجدتني كما قال بعض الحكماء: "إن في الناس من يموت نصفه ولا ينزجر
نصفه الآخر". وما أراني إلا منهم. ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة
بوعظ الموت والقرآن، رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها
وتصديقها. فإن ذلك من العجائب العظيمة. فطال عليه تفتيشي، حتى وقفت على سببه. وها
أنا مؤنس وإياه بالحذر منه. فهو الداء العضال، وهو السبب الداعي إلى الغرور
والإهمال. وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب. فإنه لو أخبره صادق
في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت إلى أسبوع أو أشهر لاستقام على الطريق
المستقيم. ولترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه مما يتعاطاه لله تعالى ومغرور فيه
فضلا عما يعلم أنه ليس لله تعالى.
فانكشف تحقيقا أن من أصبح وهو يأمل أن يمسي، أو أمسى وهو يأمل أن يصبح، لم
يخل من الفتور والتسويف. ولم يقدر إلا على سير ضعيف. فأوصه ونفسي بما أوصى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "صلّ صلاة مودِّع". وقد أوتي جوامع
الكَلم، وفصل الخطاب. ولا ينتفع بوعظ إلا به. فمن غلب على قلبه في كل صلاة أنها
آخر صلاته حضر معه قلبه في الصلاة وتيسر له الاستعداد بعد الصلاة. ومن عجز عن ذلك
فلا يزال في غفلة دائمة وغرور مستمر وتسويف متتابع، إلا أن يدركه الموت، فتدركه
حسرة الفوت. وأنا مقترح عليه أن لا يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني
طالب لها، وقاصر عنها. وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا بها. وأن يحذر من مواقع
الغرور. فإذا وعَدَتْ النفس بذلك طالبها بموثق غليظ من الله تعالى، فإن خداع النفس
لا يقف عليه إلا الأكياس.
وأما أقل ما يجب اعتقاده على المكلّف، فهو ما يترجمه قوله: "لا إله
إلا الله، محمد رسول الله". ثم إذا صدّق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله
تعالى، فإنه حيّ، قادرٌ، عالمٌ، متكلمٌ، مريدٌ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،
وليس عليه بحثٌ عن حقيقة هذه الصفات. وأن الكلام والعلم وغيرهما، قديم أو حادث، بل
لو لم تخطر هذه المسألة حتى مات مؤمنا وليس عليه تعلم الأدلة التي حررها
المتكلمون. بل كلما حصل في قلبه التصديق بالحق بمجرد الإيمان من غير دليل وبرهان
فهو مؤمن. ولم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك. وعلى هذا الاعتقاد
المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق إلا من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه
المسائل، مقدم الكلام وحدوثه ومعنى الاستواء والنزول وغيره، فإن لم يأخذ ذلك قلبه
وبقي مشغولا بعبادته وعمله فلا حرج عليه. وإن أخذ ذلك بقلبه فأقل الواجبات عليه ما
اعتقده السلف، فيعتقد في القرآن القدم. كما قال السلف: القرآن كلام الله غير
مخلوق. ويعتقد أن الاستواء حق، والسؤال عنه مع الاستغناء بدعة، والكيفية فيه
مجهولة. فيؤمن بجميع ما جاء به الشرع إيمانا مجملا، من غير بحث عن الحقيقة
والكيفية. فإن لم ينفعه ذلك وغلب على قلبه الإشكال والشك، فإن أمكن إزالة شكه
وإشكاله بكلام قريب من الإفهام، وإن لم يكن قويا عند المتكلمين ولا مرضيا عندهم،
فذلك كاف، ولا حاجة به إلى تحقيق الدليل. بل الأولى أن يزال إشكاله من غير برهان
حقيقة الدليل. فإن الدليل لا يتم إلا بدرك السلوك الجواب عنه. ومهما ذكرت الشبهة
فلا يبعد أن ينكر بقلبه ويكل فهمه عن درك جوابه، إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب دقيقا
لا يحتمله عقله، ولهذا زجر السلف عن البحث والتفتيش عن الكلام، وإنما زجروا عنه
لضعفاء العوام.
وأما المشتغلون بدرك الحقائق فلهم خوض غمره الإشكال ومنع الكلام للعوام،
يجري مجرى من الصبيان من شاطىء نهر دجلة خوفا من الغرق. ورخصة الأقوياء فيه تضاهي
رخصة الماهر في صنعة السباحة، إلا أنها هنا موضع غرور ومزلة قدم. وهو أن كل ضعيف
فيه عقل – راض من الله تعالى في كمال عقله – يظن بنفسه أنه يقدر على إدراك الحقائق
كلها وأنه من جملة الأقوياء، فربما يخوضون فيغرقون في بحر الجهات، حيث لا يشعرون.
فالصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو
اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما نزله الله تعالى،
وأخبر به رسوله، من غير بحث وتفتيش عن الأدلة. بل الاشتغال بالتقوى عليه شغل شاغل،
إذ قال صلى الله عليه وسلم حيث رأى أصحابه يخوضون بعد أن غضب حتى احمرت وجنتاه:
"أبهذا أمرتم، تضربون كتاب الله بعضه ببعض! انظروا ما أمركم الله به،
فافعلوا، وما نهاكم عنه فانتهوا". فهذا تنبيه على المنهج الحق، واستيفاء ذلك
شرحناه في كتاب "قواعد العقائد"، فيطلب منه. والسلام.
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق