بسم الله الرحمن الرحيم
النظام الخاص لأهل الاختصاص
للغوث الكبير سيد أهل الطريقة والحقيقة
سيدنا ومولانا أحمد الرفاعي الكبير
قدس الله سره ورضي الله عنه
512 – 578
هجرية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تمجيداََ لذاته
المستحقة الحمد،
والصلاة والسلام على نبيه
ورسوله الكريم محمد، صاحب لواء الحمد،
وعلى آله وأصحابه الثابتين
على العهد، والموفين بالوعد،
**********************
أما
بعد:
أي
سادة! ذرات الحادثات محكومة لسلطان الخالقية، ومنها العالم الإنساني، فهو مرؤوس
مقدور لذلك السلطان الرباني، وهو في قبضته، وكل فرد منه مملوكٌ لبارئه، عبدٌ له
سبحانه وتعالى، حرٌّ بالنسبة إلى غير الباري تعالت قدرته، والناس في مرتبة
المملوكية ومنزلة العبدية له سبحانه سواء، فكلما صحت نسبة العبد إلى سيده - جلت
عظمته - ارتفع في مقام عبديته عن إخوانه في نوعه وعلا عليهم، حتى إذا صار له من
السلطان الإلهي معنى ترأس به، لا بنفسه على غيره، وسعة أمر رياسته هي بنسبة المعنى
الحاصل له من قدس بارئه جلّ وعلا، هؤلاء المرسلون في النبيين أعلا منهم مرتبة، وأوسع
رياسة، هؤلاء أولو العزم من المرسلين، أرفع مقاما، وأعم أمرا، هذا سيد أولي العزم
نبينا البر الرحيم صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، فهو في أولي العزم أعظم
مكانة، وأشمل دعوة، وأوسع دائرة، وأتم حكما، وأبلغ حجة، وأمنع سلطانا، لما حصل له
من جليل المعنى القدسي فوق غيره من إخوانه النبيين والمرسلين، صلوات الله عليه
وعليهم أجمعين.
وعلى
هذا، فالأمر النافذ القائم المحكّم في عوالم الإنسان، هو الأمر الإلهي، والقائمون
به بالتقليد الرباني: الأنبياء والمرسلون، وعنهم العلماء بالله حكماء الدين، الذين
هم ورثة الأنبياء، وزمامه بيد نائب النبوة في كل عهد وزمن، به يصول ويجول، ويفعل
ويقول، وتخضع له الفحول، وله الرياسة العامة في مقام النيابة المحضة الجامعة، وبعده
فالقوم أرباب البصائر، المندرجون في ذيل العلم بحال النبوة، وسر الخلق، وحكم
الخالقية، فلهم كل بنسبة حصته - رياسة على من دونه من إخوانه، يعلّمهم يزكيهم، يرفق
بهم لتعليمهم، يغلظ عليهم لتأديبهم، يسوقهم إلى بساط العلم وحضرة الفهم، لينقذهم
من وهدة الجهل، من أسر الانحطاط عن هذا السر، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، من
ظلمات سفل الطبع، ودناءة الهمة، وقصر النظر، وسقم الغاية، إلى نور شرف الطبع، وعلو
الهمة، وصحة النظر، وجليل الغاية، فيقوم اعوجاجهم، ويصلح احديدابهم، وتذهب طمّة
فشلهم، وتنطمس ثورة ذلتهم، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
لا
تزعم أي أخا الحجاب أن أخاك الإنسان الآخر عبَدَك بدريهماتك، بوقتك، بحظك، بشأنك، بما
أنت فيه من أمرك، هو فوق ذلك، وأنت دون ذلك!
كل
من ساواك بتركيب الهيكل، أو ماثلك بالصورة والنسق، فهو أخوك بجنسيتك، شريكك
بآدميتك، لا هو مملوكك، ولا أنت مالكه.
وكل
من خالفك بتركيبك، فهو ملحق بجنسه حقر أو عظم، وأنت ملحق بجنسك، فاعرف حدك، ولا
تبق وحدك.
حاجتك
مُلزِمة لك، وحاكمة عليك بالانضمام إلى أبناء جنسك، والاستئناس بهم، وقاضية على
طبعك بالأدب مع صنوف أجناس الأشياء، ومن ذوات أرواح وجمادات بارزات ومطويات، علويات
وسفليات؛
فاجمع
رأيك على العلم بالله، لتعلو في مرتبة آدميتك بين جنسك، ولتزكو في نفسك، ولا تكن
قليل العِبرة، خامل الهمة، قصير النظر.
أنظر
حكم ربك، سر بروحك، سَيِّرْ همتك في ملكه سبحانه، اعتبر بمصنوعاته، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الأبْصَارِ} سورة الحشر.
استَرَقَّ
أمرُه أقواما؛ هم لولا أن استرقَّهم أمرُه أحرارْ، خالفوه فأوقعهم في وهدة الرِّق؛
استعبدهم عصيانهم، أذلهم طغيانهم. فخذ بهمتك العلية طريق الاستسلام له محجة (جادة
الطريق) وسر إليه أمينا من غيره، لا تقل: قدره أوقفني عن السير إليه! هذا من
بَطالتك، من كسل عزمك، وفتور عزيمتك!
اجعل
القضاء والقدر صفَّاً، وابعث معهما: قلبك ويقينك واعتقادك واجعل العقل والتدبير
صفّاً وابعث معهما: رأيك، وحزمك، وأملك بربك واعتمادك، وأقِم بين الصفين حرب العمل،
وكن أنت في صف العقل والتدبير المؤيد بحُسن الظن بالله، وبصدق الاعتماد عليه
سبحانه، فإذا انكشف غبار ذلك الحرب عن غلبة لك في أمرك، فقد أثمر غصن أمَلِكَ بربك،
وحسن ظنك به، وصدق اعتمادك عليه، ففزت بمطلوبك؛ وإن انكشف الغبار عن مغلوبية لك في
شأنك، فقد انكشف لك غطاء القدر، وأنت حينئذ معذور، وسعيك مشكور، وعملك عند الله
تعالى وخاصةِ عباده مبرور.
الله
الله بك، أوصيك بك أيها العاقل! فإنك خزانة من خزائن الرحمن، عظيم عند من صوَّرك
إن عظَّمت ذاتك وعرفتَ شرفها؛ قد امتازك ربك بالعقل، ورفع به درجتك على من هو دونك،
وأعطاك لساناً يقذف درر الحكمة إلى سامعيه، فيختلب بها قلوبهم، ويَشْغَل ألبابهم، ويعقد
هممهم، ويوقفهم عند حدودهم، ويجمعهم على صعيد القصد، فلا تستصغر شرف الكلام، وتهمل
مرتبته التي هي أعلى المراتب المتدلية من العلا، تدنياً إلى العالم الأدنى.
هذه:
(أ.ب.ت.ث.ج.ح.خ.د.ذ.ر.ز.س.ش.ص.ض.ط.ظ.ع.غ.ف.ق.ك.ل.م.ن.ه.و.لا.ي)
هي
حروف التهجي، ورابطة نظم الكلام، وكتاب الله المنزل على آدم عليه السلام، والكلام
سيف الله الذي يجمع به ويُفرِّق، ويُبغِّض به ويحبِّبْ، ويفعل به العجائب، تَصلح
به القلوب، ترتبط به الأسرار، تلين بسببه الخواطر، تحصل الأُلفة والمودَّة، تُشَقُّ
به العصا، تنحدر من موجته سيول الفتن، تنطلق بسَيَّال محدره عوائث غُثاءِ المحن، تنشط
بهمة أساليبه الهمم، ترتفع بنهضته العزائم إلى حضرة القرب، تنحدر بجاذبته المواهب
إلى حظيرة القلب، وراءه السيف المصلت، إذ هو مخبأ في طيه يُلْقَى هو أولاً، ويقوم
له السيف ثانياً، فهو من آلاته، من مواده، يعمل له ليرجع النظم إِليه.
كلمة
يقولها القائل، وهو كافر زنديق، فيقف بها في صف المؤمنين الموقنين!
وكلمة
يقولها القائل، وهو مؤمن وثيق، فيقف بها في صف الكافرين الجاحدين!
ببيعتك
أيها اللبيب على اسم ربك، بعهدك على طريق نبيك، تتصدر في محاضر القدس، هي كلمة
قلتها، ووقفت عندها، فدخلت في القوم الذين ألزمهم: {كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا
أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}.
الكلام
الذي ينطق به لسانك، ويأتي بمركَّبه فمك، آية قلبك، خزانة سرك، مجموع شرائف عينيتك،
مواد صفاتك، نظم كليات ذاتك، أفرغت كُلّك فيه، بعد أن خرج من فيك، كتب عنك، بل
كتبك على الرقاع، نقل عنك، بل نقلك إلى الأسماع، أطافك في الأفواه والصحاف، أقامك
في المجالس والدواوين، أثبتك في العيون والقلوب.
كن
شريف الكلمة، شريف الهمة، أخا الحكمة، لا تمط نقاب الحكمة بالوهم، وتعمل كالفيلسوف
الذي جرد الحكمة عن شرفها، إذ كساها باسم الفلسفة غير كسوتها!
أجل،
كُن حكيماً وانطق بالحكمة، وإياك والتفلسف فإن منه طرق وهم تدفع إلى غير سبيل
الصواب، لتُوسع لطائف الخيال، في مجالات التنفيذ والتطرق، بما لا يقف به العقل، طلباً
لزبدة المطلب، والقصدُ على ما هو عليه حسنٌ؛ ولكن جرد كلام الفيلسوف للسامع من
كلمة الحق باطل نفس المتكلم، قصد بالمجرد عن الحكمة؛ وجردَ كلام من ظن به الخير من
كلمة الباطل حق حسن الظن، فربطه حسن الظن بهذرته؛ فيا ليت الفيلسوف طمس باطل نفسه،
ولزم الحكمة فقام لها، وقال بها، ونفع الناس؛ وليت من ظن به الخير، مَحَقَ باطله
فأخذ بحبل الحكمة، وغسل صحيفة سره من زوره وبهتانه، وتمسك بأذيال الحكماء، فانتفع
بهم، ونفع بعلمهم الناس.
ومن
العجائب فقد يفجر الرجل بنفسه، ويصون سر الحكمة! فيؤيد الله به أمره، ويُعِزُّ به
جنده. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة خيبر (قم يا بلال فأذن، أن: لا
يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر). ماذا يفعل العاقل بحلس
البيت، من القوم الذين انتفخت أوداجهم بالدعوى، ولا أثر لهم في الدين؟!
قال
جابر رضي الله عنه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية: (أنتم
خير أهل الأرض) وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة، يريد
بالشجرة: الشجرةَ التي بايعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحتها، المعنية
بقول الله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فانظر أيها الأخ اللبيب! كيف صحت الخيرية، لألف وأربعمائة رجل
إذ ذاك، دون أهل الأرض شرقها وغربها؟ هل كان ذلك إلا لأنهم تجردوا بأنفسهم
وأموالهم لإعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه؟ وعلى ذلك بايعوا رسوله صلى الله تعالى
عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وهل
الدين إلا كلمة صادقة وهمة عالية؟ تَسقط
همة الرجل الماجد الكريم على كل شريفة، وتسقط همة الخِبِّ الدنيء على كل ساقطة، ورَبُّ
الشبهة يتطرق الشبهة، والخيِّرُ لا يظن إلا خيرا، ولا تثِبُ به همته إلا إلى
المعالي، وعلو الهمة من الإيمان، والساقط الوضيع يريد الترفع بهمته، فتغلِبُهُ
نفسه، فَتَرَفّعُ بنزعها، وتتداعى همته ساقطة بطبعها، ويرى لخباله بمرآة خياله
أنَّ ترفع نفسه بنزغها عن الهمة! ثكلته أمه! ما فرَّقَ بين الوقاحة والرجاحة؟ هل
تستوي الظلمات والنور؟
الهمة
ترفع العبد إلى مقام السر والنجوى. همة العارف بربه، الحكيمِ بنوره، أرفع من العرش،
هات - أي أسير الدعوى - طور همتك، وقسه على أطوار أهل الهمم، واحكم إن كنتَ من
المؤمنين، إن كنت من الصادقين. إسْحَقْ برحى الحكمة دقيق شعير مُخيِّلتك، لينسِف
عنك دقيقا تسفوه الرياح، وإذاً فاستنق لطبعك بُرَّاََ نقيا من زرع الحكماء، أعيان
السلف، وُرَّاث نبيِّ الهدى صلى الله عليه وآله وسلم.
قال
عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام: (يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: هل
فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان
فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح، ثم
يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقال: نعم،
فيُفتح).
هذا
التحكم سر الوراثة المحمدية، وسنته صلى الله عليه وآله وسلم قائمة، وحكمته دائمة، فلا
تكن أيها الأخ الصالح محروما من غنيمة سنته، ممنوعا بِهَمِّ واهمتك عن مائدة حكمته،
فأنت إن أحييت سنة من سننه، أو بثثت حكمة من حكمه، فالفوز لك والبشرى المستمرة، لأنك
صرت من حزبه، ودخلت في عداد خير أهل الأرض خاصته، وكنت معه غدا وهو يقول من حديث:
(رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها).
رابط
في سبيل الله بمالك، بنفسك، بعلمك، بعملك، بحكمتك، بهمتك.
الشريف
من بني فاطمة عليها السلام وقيَّده الشرع لإعلان علو الهمة له عن أكل الصدقة.
قال
النبي عليه الصلاة والسلام لأحد سبطيه الكريمين: (أما علمت أنَّ آل محمد لا يأكلون
الصدقة).
وأهل
الحضرة الإلهية يعملون بعمل آل محمد، ويحثون الناس على العمل بعملهم، تترفع هممهم
عن البطالة والكسل، ترفعهم النخوة والغارة الفعالة والمروءة المحمدية إلى شق غبار
الأكوان، وخوض معامع الوجودات، كل ذلك لله ولرسوله ولإعلاء كلمة الله في ملك الله،
بِحِكَمٍ قاهرة، وهمم زاهرة، جمعت بين أمري الدنيا والآخرة، وكذلك الموفقون
والمقربون والمحبون، وأولئك هم المفلحون، بل وأولياء الله المقبولون: {أَلا إِنَّ
أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62}}سورة يونس
أخذ
الله العهد على روح أحيمد العبد اللاش أن لا تقف عند سفاسف الأمور، ألا من علت في
الله همته، علت عند الله مرتبته، ومن وقف مع غرضه، ما عوفي من مرضه! ومن لم يصرع
صنوف الحادثات بكفِّ الطرْف عنها ارتياحا لموجدها وانبساطا به فهو عن حلاوة
الإيمان وعن مذاق شراب الهمة بمعزل.
ولا
يخطَفنَّك حَثِّي لك على عُلوِّ الهمة: أن تهمل العلم بحال الضعاف والفقراء، وحرفهم
وصنائعهم، وما هم عليه من عاداتهم وأمور معاشهم، فإن العلم بذلك والعمل به، والتحقق
بكله، والوقوف على سره والترقي فيه إلى ما لا غاية له، إلا الشرع: إنما هو من علو
الهمة، ومن بوارق أسرار النبوة.
هؤلاء
الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام كلهم رعوا الغنم ومنهم نبينا سيد العرب
والعجم، لتطرق طرائق الأمم، والعلم بأحوال طوائفهم، وللاقتدار على سياسة عوالمهم، وللتدرب
بالرفق ومسالكه، حتى بشأن الحيوانات غير الناطقة، بل وللتسلق إلى نسج خِدر الهمة، بالرفق
العام في حق كل بارز وطامس عيني وغيبي، ليكون ذلك السيّد: رحمةً عامَّةً على خلق
الله، وبحراً فياضاً عذباً هنيئاً مريئاً يسح على ملك الله، وهذا طريق الورّاث، الذين
أثابهم الله الفتح، وأوصلهم بحبال الرُّسُل، وجعلهم نواباً عنهم، وجمع عليهم أمرهم،
وحققهم بالتخلق بأخلاق دُرّة قلادة المرسلين، وأكرمهم على رب العالمين، سيدنا محمد
النبي الأمين، عليه وعليهم صلوات الملك البَرّ المعين، وهنالك يقدر على إيضاح ما
يلزم للخلق في أمر معادهم ومعاشهم، ويكون كالغيث، أين وقع نفع، والله وليُّ
المتقين، وإليه يرجع الأمر، ومنه العون والنصر، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
شرف
العقل بالإنصاف، وإلاّ فهو مغلوب لما تبرزه له النفس من غرارة الهوى، وشرف الفهم
بالإذعان، وإلاّ فهو محكوم لطارق الرأي، والدامغُ لباطل الحرص، والأمل حدُّ الحق، ومن
أخذه باطله فتجاوز به حد الحق فهو غدّار! وأُمُّ هذه الآمال الكاذبة: سبحةُ خاطر، تجر
الفكر إلى استحضار لذة تطيب لها النفس، وتفرح بها الشهوة، وتقف عندها العزيمة!
فهنالك يقود الفكرُ العزم فيخوض معامع الأغراض!
لو
طرق طارق العزم باب السماء - ولم تكن له آية علم إلهي، تجمع به قوما على الله
فتنفعهم في دينهم ودنياهم - فليس بشيء، ومن لم يغر على المحبوب فلا يرضى أن يسلك
ذمُّه في أُذُنه فليس بمحب، ولا الصديق إذا لم يغر على صديقه حتى لا يرضى أن يسلك
ذمُّه فليس بصديق!
والنخوة
سلم العبد إلى سدرة منتهى المجد وفيها من ثورة الغيرة لله أُسٌّ كريم، والاستقامة
وصف لا يشتمل عليه إلاّ رداء كل عظيم، والعارف المحض يستقل الدنيا، فلا يراها إلا
دون شراك نعله، ويستعظم الأشياء لموجدها فلا يرى إهمال شيء ردا بذلك الشيء إلى
أصله؛
هات،
اجمع يا حكيم بين هاتين، وأنت إذاً الرجل العظيم، شُفْ بباصرة علمك سيرة نبيك الأمين
وآله الطاهرين، وأصحابه الهداة المرضيين، فتحوا البلاد، وصانوا العباد، ومهّدوا
السُّبُل، وأفاضوا العدل ونظٍّموا الأمور، وأحكموا حكمة سياسة الأمم، وهم أزهد
الناس بالدنيا وأعراضها، وأبعدُهم عنها وعن أغراضها.
سِر
بين الحائطين: حائط العمل، وحائط التسليم، ورُحْ إلى عالَمِ جمعك بفرقك، ولا تجمع
بين حَدَثك وقِدَم ربك، فإنك إن فعلت ذلك انخرطت في الضالين!
اجمع
بفِرْقك بين علمك وأمره، بين عملك ورضاه، بين طلبك وكرمه، وأنت حينئذ من الصالحين.
لا
تنم على حِلْس حالك، غير مترفع إلى حالٍ فوقه، فإن من تساوى يوماه فهو مغبون!
ما
أطيب السير في الله إلى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كن
في موعظتك حكيماً: {وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} واعمل بعلمك إذا كفاك
للعمل، ولا تقف في العلم عند غاية، فإن غايته فوق عمرك، أُطلبوا العِلمَ من المهد
إلى اللحد {أعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
ارفع
نظرك إلى المعالي بدينك، إلى المعالي بنبِيَّك، إلى المعالي بربِّك، لا تَضَعْ
عزيز نظرك على تراب الضعة فتربُض على كل قتب، تلك سيمة البطالين، وتدرَّعْ بدرك
علم الصحابة، وانتسق بنسق حال الآل الكرام، عليهم جميعاً الرضوان والسلام، وهنالك
لا يطغيك حال، ولا يُزيغك شان، وصُف نفسك - وإن بَعُدَ المدى عليك - بصفِّهم يدخلك
فيهم تحققك بأحوالهم، ويحققك بهم تخلقك بأخلاقهم: (مَنْ غَشَّنَا لَيْسَ مِنَّا)
وعلى هذا، فمن لم يغشنا فهو منَّا، قَرُبَ المدى أو بَعُدَ، هذا في الأمرين، وعلى
الحالين.
شارقةُ
فجر النور المحمدي طالعة لا تغيب أبداً، إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها، وهو
خير الوارثين، فمن كلف نفسَه خدمة ذلك الجناب بإحياء سنته وإعلاء أمره فقد فاز وله
أجر مائة شهيد، يؤيد ما أقول قوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ تَمَسَّكَ
بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسادِ أُمَّتِي فَلَهُ أَجْرُ مائَةُ شَهيد).
قيل
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟
فقال
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه
وماله) قالوا: ثم من؟ قال: (مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره).
أفهمت
أيها الأخ الصالح! وأدركت أن نبيك سر سرارة الأزل، ونور باصرة الأبد صلى الله عليه
وآله وسلم، فرَّق الناس، فقسمهم إلى ثلاثة أقسام:
1-
رجل نافع يجاهد في الله بنفسه وبماله - 2 - ورجل يتقي الله ويعتزل الناس لكي لا
يضرهم- 3 - ورجل إن لم يكن أحد الرجلين، فهو - حمانا الله وإياك مضر، وهو هالك!
هذا ما تضمنه كلام صاحب جوامع الكلم، وأفضل الثلاثة: المجاهد في سبيل الله بنفسه
وماله.
تهادت
عيس همم الموفقين إلى طلب الحق بالجهاد في سبيله، وإن ذلك لعلى طرق وأقسام: منه
جهاد باللسان، ومنه جهاد باليد، ومنه جهاد بالمال، ومنه جهاد بالعزم، ومنه جهاد
بالعزيمة، وكلها تؤول إلى الله، يشملها قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا} وأشرفهم الجامعون.
وإن
نظر السلطة ليحكم على الطباع من طرق شتى: حق، وباطل، ووهم، وغير ذلك، فلا تكن
بعملك أسير قيد نظر السلطة، متى حضر عملت، ومتى غاب بطلت! تلك شائبة الرياء، شائبة
الأمل، شائبة الخوف، اطرحها عنك بعزمك، واخلعها متجرداً إلى ربك.
ما
أدنى همة من قيده النظر بعمله، وأفلتته غيبته عن العمل؟ أي شنشنة في الهمة الرفيعة؟
وأي نغمة لها في آذان الحادثات، ومدارج ترقي السر في عوالم الغيب والحضور، تترفع
بنسبة ما يفاض لها من نور العقل؟ والتوفيق بيد الله تعالى.
حار
أهل الأبصار والبصائر بما وراء هذه الستائر، والحيرة عجز حاكم على كل ذي عقل
بالإيمان المحض والوقوف على جادة السلامة: {وما قدروا الله حق قدره}وهذا كتابه
تعالى الحجة القائمة، والمعجزة الدائمة، وفيه جميع الحكم، خفيها وجليها، كليها
وجزئيها؛ عرفها العارف فرأى من آيات ربه الكبرى، ولهذا السر الأعظم قال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه).
آيات
بينات، وكلمات جامعات، وأسرار إلهيات، وعلوم ربانيات، طويت في منشور هذا الكتاب
القويم، والكلام القديم: {إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} (21 – الزُمَر) هنالك
جنود الله الجوالة، بحور الله السيالة، سحائب الله الهطالة، سيوف الله الفعالة.
{الم
{1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن
قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن
رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5}}
خُذ
أنموذج القدرة، وحال العلم، وشأن الحكم، وسلطان الأمر، من هذا الكتاب الكريم، الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يثقل على من قيَّده طبعه، وغلبه هواه، وقهرته
نفسه فأوهمته أنه فوق جنسه! إياك ونزغ الشيطان فإنه يسول لك، ويوهمك أنك فوق غيرك!
اتق الله بالآدميين، قال ربك سبحانه لأشرفهم وأعظمهم: {قل إنما أنا بشر مثلكم}-
وضرب له خدر الفوقية بسلطان-: {يوحى إلي}.
والوحي
به خُتِم، وبعده انقطع، والمثلية في كلنا قائمة باقية معنا، لا تُخْتَم ولا تنقطع
ما دام الآدميون.
ها
هو {في أي صورة ما شاء ركبك} خذ حصة الأدب، وسهم العبرة من تركيبك، ركبك من أجزاء
نوعك الكثيرة المقطعة المركبة، فأقامك كما أنت، فصن أجزاءك من خبث اختيارك.
لا
تعط أذنك طريق السير إلى سماع الكذب والزور وفحش الكلام، ولا تبعث عينك إلى النظر
بما لا يحل، ولا تجعلها تستحسن الفانيات، فتسوق طبعك إلى حسد هذا، واستعظام هذا، واستكثار
هذا.
ولا
تسير رجلك فيما لا يرضى ربك، ولا تنطق لسانك إلا بخير، ولا تمد يدك إلا إلى خالقك
فيما يؤول إلى مراضيه، وصن بطنك وظهرك وما سترت عن كل ما يوقعك في وهدة السؤال
والخزي.
واشكر
الله على السراء والضراء، واذكره في الشدة والرخاء، وكن معه في الصحة والمرض، في
بابه في السقم والعافية، ولا يدفعنك المرض والسقم عن الربوض ببابه سبحانه، فإن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
(مثل
المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء،
والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء).
فابهج
بالوصف الدال على إيمانك، وافرح بربك وبما يجيء منه، إيمانا به، وركونا إليه، وارض
عنه في كل أحوالك، فإن العاقل غالب رضاه على سخطه في كل أموره، والأحمق غالب سخطه
على رضاه في كل أموره! وكذلك فالرفيق المتعتب المتسخط لا يرافق، والرفيق الراضي
الحمول لا يفارق.
والنفس
يطيب لها كل حال يأخذ بها إلى الهدأة وجمع الحال، وحضور الهمة كيف كانت، ويصعب
عليها كل حال يجرها إلى الاستفزاز بطارق التسخط، ويوردها حوض شتات جمعها، ويغلب
حضورها.
وانتصِبْ
لمعاشرة الآدميين على قدمي الصبر، فالبدن له رأس واحد، فلا تجمع رأيك على أن تجعل
كل عضو في البدن رأساً، وقل لمن لم يتحقق بنسبة خلقه في حكم الرأسية: كن ذنباً ولا
تكن رأساً، فإن الضربة أول ما تقع في الرأس، وارفع هِمّة من تنزل بخموله عن حق
خلقه، كأن خُلِق يداً فوقف رِجلاً، أو خُلِقَ رجلاً فاندلس وركاً، ولا ترى لك
الخيرية على غيرك بعلمك، بعملك، فإن ذلك من التجري على الموجد جلَّتْ عظمتُه، قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة، فسددوا
وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا
فلعله أن يستعتب.
والعتبى
التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي: أن يطلب العبد رضاء ربه
بالتوبة، والرجوع إليه، وهو أكرم الأكرمين.
ولتكن
أيها الأخ الصالح: كثير الأدب مع خلق الله تعالى، كثير الرحمة والشفقة على والديك
أمك وأبيك وَصُولاً لرحمك، متودداً لجيرانك، ذا حنو عليهم، رؤوفا بالمؤمنين، متحققاً
بشأنهم بأخلاق نبيك عليه الصلاة والسلام فهو: {حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}
وكذلك: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}.
وإذا
أدخل عهد الله في آلك من ليس منهم، فارحمه كرحمتك لآلك، عملاً بحال معلمك الذي زرع
الخير في قلوب المسلمين صلى الله عليه وعلى آله.
قال
أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يأخذني فيقعدني
على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني
أرحمهما)
ولتكن
باراً بجارك، فقد قال المصطفى عليه وعلى آله أكمل صلوات الله وأجل تسليماته: (ما
زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
ولتعرف
لولي الله حقه بالكف عنه فيما زاد عن حق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم:
(إن
الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء
أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله
التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا
فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
فخذ
من هذا الحديث القدسي العلم بالولي، واعرف حقه، ولا تحط من قدره، ولا تغْلُ به، وابتغ
الخير بسببه، واتبعه، وأنب إلى الله كما أناب، وأكثر من قراءة القرآن وقت انشقاق
الفجر، فإن في ذلك الوقت معنى من معاني حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي
الله عن ابن رواحة الصحابي الجليل فإنه قال يمدح سيد الممدوحين نبينا الأمين صلى
عليه رب العالمين:
أتانا رسول الله
يتلو كتابه *** إذا انشق معروفٌ من الفجر ساطعُ
أرانا الهدى بعد العمى
فقلوبنا *** به موقناتٌ أن ما قال: واقعُ
يبيت يجافي جنبه عن
فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ
واركع
ركعتي الفجر، فقد قالت عائشة الصديقة رضي الله عنها:
(لم
يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شيءٍ من النوافل أشد منه تعاهداً على ركعتي
الفجر).
واحرص
على فرائض الله، وأدِّ حق نبيك الكريم بالمحافظة على سننه، وعَظِّمْ ما عظَّمَ
الله تعالى، وكن شديداً في الله قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (29 سورة
الفتح)
وانفُضْ
يديك من كل عارض دون الحق، ولا تَمِلْ إلى كل مُعْوَج، واسلك الطريق المستقيم، وكُلَّ
طريق رأيت فيه العويصاء التي تنكرها فدعه، وانهج الطريق الذي تعرفه، وحكِّم في كل
قول وعمل شريعة نبيِّك السيد العظيمِ القدر صلى الله عليه وآله وسلم وإذا قلت فلا
تقل إلا خيراً، وإذا فعلت فلا تفعل إلا حقاً، وإذا صحبتَ فلا تصحب إلا خيِّراً، وإذا
قمت وقعدت فلا تكن إلا نزيهاً نظيفاً.
ولا
تعبد الله على حرف! أُعبدْ ربَّك ولا تشرك به شيئاً، واجعل مَحَجتك قول نبيِّك
الذي هو أولى لك من نفسك، وإذا ابتليت فامدُد يد الرجا إلى بارئك، واصبر لحكم ربك،
ولا تيأس من رَوْحه ف{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ} 87 سورة يوسف.
وانتظر
فرج الله فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (انتظار أُمَّتِي فَرَجَ الله
عِبَادَةٌ) وقال عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام (إنَّ لله في كُلِّ طَرْفَةِ
عَيْنٍ مائَةَ أَلْفِ فَرَجٍ قَريب).
وتعرَّضْ
لنفحات ربك في كل طرفة، وعظِّم الأشياء بِمُظْهِرها سبحانه، ما أعظم أسرارَ الله
المطوية في عوالم خلقه؟ أَلِفَ الأممُ تعظيم عظمائهم! وأَلِفَ كلُّ أمة التشوف إلى
حال عظماء الأمة الأخرى، فإذا رأوهم - وإن كانوا فوق عظمائهم أولي قوة، وأولي بأس
شديد - حطت بهم أعينهم عن مراتبهم، ورأوهم دون ما هم، فتراهم يستعظمون ما لهم، ويحطون
على عاداتهم، يتعجبون من كثرتهم، ويسخرون منهم للباسهم! وما ذلك إلا لقصر النظر عن
استجماع شؤون الناس، واستكناه حكم حالهم، وحكمة عاداتهم، وشأن بلادهم وما هم عليه،
ولِتَمَكُّن حال عظماء تلك الأمة وشأنها من قلوب الأمة، ولانطباع النفوس على تلك
العادات والمشارب، والأمر كذلك في العقائد والمذاهب، والعاقل الحكيم لا يرى هذا
ولا يقول به، وإنما يستكنه الحق فيقف عنده، يُحَسِّن ما حسَّنه الشرع لاستجماعه
أشرفَ المحاسن، ويُقَبِّح ما قبحه الشرع لنزاهته عن القبائح، ويضع كل شيء بميزان
الحكمة، فإن رجح استرجحه، وإن خف استخفه، وهو في الأمرين على منصة الأدب، لا يهتك
ستر الله المنسدل على مخلوقاته، ويقول الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم، فكن أنت
ذلك الرجل الحكيم الكريم، وإذا مسَّك من شيطانك نَزْغ، فقاد طبعك إلى التجاوز
والتعالي، أو إلى البغي والعناد والمكابرة، أو مدَّ لك في خاطرك بساط الحسد فظلمت،
وأوقعت الأشياء في غير مواقعها، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واذكر ربك وبذكره
اذكر الموت، فهو باب المصير إليه، والرجوع إلى حضرة أمره، والسبيل إلى الوقوف بين
يديه، وتذكر هنالك سؤاله لك عن كل شيء، ولا تنسى مضمون سر قوله تعالى: {إِنَّ الله
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء1] وطُفْ بقلبك في كل حضرة، وخذ ما صفا، ودع
الكدر، وليكن عملك صالحاً ليُرْفَع إليه سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} واجمع الناس عليه، لا عليك! خذهم
إليه، لا إليك، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
قِف
- هي دار عِبرة - أيها الولد اعتبر بها، اعتبر بها وسر بكل ما فيها إلى الله، وإياك
أن يشغلك بارز منها عن ربك، وإياك والبطالة، ما أقبح الصوفي البطال! يدَّعي الزهد
وعينه في المال، ويده ممدودة للسؤال!
ليس
من الهمة أن يرى الرجل آخذاً، بل الهمة أن يرى الرجل نفسه مُعطياً، سِفْل اليد
أصعب من قطعها، احترف بما تصل إليه قُوَّتُك، ويبلغه إمكانك، أدنى حِرفَة من
الأعمال والصنائع - فيها لو فقهت - أشرفُ صفةٍ درج عليها أهل الهمم، وهي الترفع عن
نوال زيد وعمرو، ركوناً إلى كرم الله سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: (إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ تَعِباً في طَلَبِ الْحَلالِ).
انسجوا
وشْيَ صنعاء وبَزَّ فارس وخَزَّ إشبيلية بين سَوارِي أروقتكم بهذه القرية، واجمعوا
بين صنائع العرب والفرس والروم، وتصدَّقوا من كسبكم عل إخوانكم حلالاً طيباً، وآسُوا
وكلوا مما رزقكم الله قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. الطيبات لله، إذا اكتسبت
من حلال وأُهلِكت في حلال.
قال
سيد أهل الهمم صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ
الْمُحْتَرِفَ).
أكرهُ
ما تراه العين: رجلٌ عليه سيما الزاهدين، وهمته همة السائلين! من طأطأ للنوال، ورضي
بالسؤال فهو أخس طبعا من عَجَزة النساء! لا أقول هذا لأنفر القلوب من السائلين، أدُّوا
ما عليكم من حقوق الرحمة بخلق الله، والتصدق على الفقراء لوجه الله، هذا ما وجب
عليكم، ولا ينزغنكم الشيطان فتشمئز منهم نفوسكم: فتُهينوهم، وتروهم بعين الاحتقار!
هذا إذاً يكون من تسويل إبليس ودسائسه! ولكن أقول هذا، لأرفع همم إخواني طلاب الحق
عن البَطالة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ الله يَكْرَهُ
الْعَبْدَ الْبَطَّالَ).
رأيت
خالي وسيدي الشيخ منصور - سُح على قبره هَطَّالُ الرحمة - وقد ردَّ هدايا بعض
الفقراء، فقلت له في ذلك؟.
فقال:
فيها شيء مجتمع من السؤال، ولو كان عن خالص طريق أبلجَ لقبِلته، يريد أن ذلك الشيء
لو لم يكن مشوه الوجه بالسؤال، وكان من حلال طيب، كنت أقبله، عملاً بالسنة
المحمدية، فإنه عليه الصلاة والسلام ردَّ الصدقة، وقَبِلَ الهدية.
هذا
طريق القوم، بلى إن القوم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
قال
الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله وعطر قبره - لولده عبد الله بعد أن صحب العارف
أبا حمزة البغدادي الصوفي، طيب الله مضجعه:
يا
ولدي! عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فإنهم زادوا علينا بكثرة العمل، والمراقبة، والخشية،
والزهد، وعلو الهمة، رحمه الله ما أكثره إنصافاً! قد وصف القوم بما هم أهله، وهذه
الصفات التي يحبها الله تعالى من عباده.
قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى كريمٌ يحبُّ الكرم، ويُحِبُّ
معالي الأخلاق، ويكره سفسافها). وقال وهو الصادق الأمين: (اِزْهَدْ فِي الدنيا
يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). وليس الزهد أن تختط لك كوّة في
الجبل، وتلبس الخشن، وتأكل الخشن، وإنما الزهد: أن تنفض يديك من الدنيا، فلا
ترفعها إلى قلبك ولو ملكتها بحذافيرها! وإن علامة الزهد قولَ الحق، لأن كلبَ
الدنيا يخاف على جيفته فيسكتُ عن قول الحق، ويوافق أهل الباطل! والزاهدُ بها لا يخاف
على شيء منها، فيقول الحق، وينصر الله الحقَّ بأهل الحق، ومتى أغضت الأمةُ على
الباطل وتركوه على حاله، فقد نادَوْا على أنفسهم بالخِزْي والشتات!
قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِذَا رأَيْتَ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ
أَنْ تَقُولَ: إِنَّكَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ).
وبرواية
أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لَنْ
تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ فِيهَا لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ
غَيْرَ مُتَعْتَعْ) وهل يؤخذ إلاَّ إذا قال قوم الحق وانتصروا له؟ هذه سُنَّة الله
في عباده.
حكيم
ضاء قلبه بقابسة نور النبوة، يفعل ما لا يفعله العسكر الجرار: (وَمَن لَّمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} وكلمةٌ تُفَتِّقُ رتقاً، وتُحيي
حقّاً، وترفع جدراناً، وتشيد بنياناً، والأمر كذلك، الجهل ظلمة، والعلم نور، وإلى
الله تصير الأمور.
اجمَعوا
- أي إخواني - قلوبكم على محبة بعضكم، على أولياء أموركم، اصبروا على أمرائكم، لا
تخرجوا على سلطانكم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كره من أميره
شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهلية). وبرواية عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على
السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعُسْرنا ويسرنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا
ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراٍ بَواحاً، عندكم من الله فيه برهان). هذه
أوامر نبيكم الصادقِ الأمين، حبيبِ ربِِّ العالمين، فيها لكم هدى وبركة، وأمن
وأمان، تمسكوا بها وَلن تضلوا أبداً.
عاملوا
أهلكم ونسائكم وأولادكم وموالَيكم: بالرفق واللين، ولا تُغْلِظوا عليهم إلا فيما
يؤول إلى دين الله، احفظوا لهم نظام مروءاتهم، فإن المروءة من الإيمان، سيروا
بأهلكم في حكم معيشتكم السيرة الوسطى، لا ضيق مُضجر، ولا وسع مُبطر، قفوا بين
الحالين، نحن الأمة الوسط، اجمعوا أمركم في معاشكم عن أن تبسطوا الأياديَ فتنكفَّ
بالضيق، اجعلوا على مقياسكم وطاءكم وغطاءكم، اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم، خذوا عن
الشَّرَه وحب الثوب والمائدة جانباً، استغنوا عن الكُلِّ بالجزء، علموا أولادكم
وعيالكم الأدبَ الديني، اطبعوا فيهم لوازم المروءة، قيِّدوا ألسنتهم إلا عن كلام
شريف، قيِّدوا ذَهابهم وإيابهم إلا إلى محضر شريف.
يروى
عن عليٍّ الكرار أمير المؤمنين عليه السلام شِعرٌ، منه:
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ
*** إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وَلِلشَّيْءِ عَلَى
الشَّيْءِ *** مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ
والمرء بقرينه يُعرف شأن تمكينه، فقارنوا المهذَّبين
أهل القلوب الطاهرة، والأخلاقِ الشريفة، لا تنظروا لفقرهم وذلهم ومسكنتهم بنظر الاحتقار،
فكم لله من سيف مغمد في قِراب رثِّ خَلِق.
إني أُسَرُّ بأربعة أشياء إذا نزلت بأصحاب، وأفرح لهم
بها، وأسأل الله تعالى لهم الصبر عليها: الجوع، والعُرْيُ، والذلة، والمسكنة، وهذه
شعار الفقراء، ولكن كيف هي لو عرفتم جوع في شبع؟ وعري في اكتساء؟ وذِلة في عزة؟
ومسكنة في مُكْنَة؟ جائع، وضيفانه شباع! عار، وقُصَّاده كساة! ذليل، وأتباعه أعزاء،
مسكين، وموالوه مكينون! كذلك عمر بن الخطاب الفاروق الجليل، وأمثاله، رضي الله
عنهم، عليٌّ المرتضى عليه السلام جاع بعد أن كنس بيت المال في الله، مسكينُ الله
في محرابه، وهو أسد الله يوم الحراب ذليل لأمر الله، وهو الليث الغالب.
شرفُ
الأكاسرة في إخلاص الزاهدين، مكنة القياصرة في مسكنة الخاشعين، وإذا كانت ذلةَ
قلبٍ للرب المعز، وتجرد وجودٍ للموجد الحق، وإجاعةَ كبِدٍ للمشبع الكريم، ومسكنةَ
حالٍ للقدير النصير، الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فما هي إلا طرازُ حالٍ فيه
أنموذج عن شأن النبيين والمرسلين، عليهم صلوات رب العالمين، والصبر عليها منحة من
منح الله تعالت أسماؤه وجل ثناؤه.
قال
بعضهم: عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أزهد من أويس القرني عليه رضوان الله
ورحمته، لأن عمر جاءته فهرب منها وتركها، وأويس لم تأته، ولكنه زهد فما طلبها.
اللهم نسألك علماً بك، وإيماناً بما جاء من عندك، وتوكلاً عليك، وانتصاراً لك.
أي
سادة! الطرق إلى الله تعالى عدد أنفاس الخلائق، وإني لم أر اقرب وأوضح، وأيسر
وأصلح، وأرجى من طريق الذُّل والانكسار والخضوع والافتقار.
إذا
أراد [الله] العبد لأمر هيأه له، وهيأه للأمر الذي أراده له، وما وصل المقربون إلى
محل الكشف والمشاهدة: إلا بترك الاختيار، وكثرة التواضع والانكسار وطاعة الملك
الجبار: ولقمة الحرام تحجب الدعوة أن تستجاب.
والفتوة
كل الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوان، وأن لا يرى الرجل له فضلا على غيره؛ والتصوف: تهذيب
أخلاق، وشرف طباع، وعلو همة، فمن حسنت أخلاقه، وشرفت طباعه، وعلت همته، فهو الصوفي،
وإلا فلا.
والإخوان
أغصان تضمهم شجرة، وهي المرشد، ومن شذ عنهم فقد انقطع.
إذا
اجتمعتم على الطعام تناصفوا، وتواسوا فيما بينكم، ولا يقصد أحدكم أن يغلب الآخر، فإن
الغالب في ذلك مغلوب! وإن المؤثر ممدوح مثاب محبوب، وإن الأكل دليل على شرف الهمة
وعكسه، وأخو الشرَه لا يكون شريف الهمة، وإنما يكون حريصاً نَهِماً، فعليه أن لا
يُظهر عيبَه في كل ما يظهر منه للناس، وأن يطهر ساحة قلبه من كل عيب له لا يطلع
عليه إلا الله، من لم يكن له داعية من نفسه لم تنفعه داعية غيره. (أعبد الله كأنك
تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
للتصوف
خصال محمودة، أولها تجريد التوحيد، ثم الإيثار، ثم إيثار الإيثار، ثم حسن العِشرة،
ثم فهم السماع، ثم ترك الاختيار، ثم سرعة الوَجْد، ثم الكشف عن الخواطر، ثم كثرة
الصمت إلا فيما يؤول إلى الله، ثم ترك رؤيا الاكتساب، ثم تحريم ادخار ما يكتسبه.
وعلامة
الفقير الصادق في جميع الحركات: التقلل من المباحات، والصمم عن كثير من المسموعات،
وأن لا يطلب المعدوم حتى يبذل المجهود والموجود، وانقطاع الحيلة، حتى لا يرى في
أحواله وشدته ورخائه وتقلبه: غير خالقه ومكوِّنه، وإن الفقير متى نظر إلى ما يلبَس،
التبس عليه أمره! ومتى ما رأى الخلق من دونه ظهرت عيوبه! الفقير ابن وقته، يرى
كُلَّ نَفَسٍ من أنفاسه أعزَّ من الكبريت الأحمر، يودع لكل ساعة ما يصلح لها، ولا
يضيع شيئاً، وعليه أن يخزُنَ لسانه عن نطقه، ولا يطلقه في غير حقه، فإذا نطق ينطق
بعلم، وإذا صمت يصمت بحلم، ولا يعجل بالجواب، ولا يهجم على الخطاب وإذا رأى مَنْ
هو أعلمُ منه: أنصت لاستماع الفائدة، يحذر من الخطأ، ويحترز من الغلط والزلل، ولا
يتكلم فيما لا يعلم، ولا يناظر فيما لا يفهم.
وأول
ما ينبغي للإنسان أن يأمر نفسه بالمعروف، فإن ائتمرت يأمر الناس، وينهى نفسه عن
المنكر، فإن انتهت ينهى الناس، وإلا فيصير هدفاً لسهام قول الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتاً
عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ 3} سورة الصف.
ولقوله
تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} 44 سورة
البقرة.
إذا
طابت أنفسكم للحكمة، فارفعوا بها خواطركم إلى حكمة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم،
وإلى كلام ربِّكم جلَّ وعلا، فإن طابت خواطركم بحكمة النبي عليه الصلاة والسلام، وتنورت
بكلام الله، فهي على هدى، وإن لم تطب بالحكمة النبوية وتشرف بنور القرآن، فهي
ضجيعة الشيطان! فتوبوا، واستغفروا، وأقلعوا، بالإنابة إلى ربكم، فرُبَّ علم ثمرته
جهل، ورُبَّ جهلٍ ثمرته علم، كل علم أنتج دعوى التفوق به فثمرته جهل بحت!
الله
تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً 85} سورة الإسراء
يمكن
أن تكون:
أعلم
من أخيك بنحوك، وهو أعلم منك بصبره؛
أعلم
منه بفقهك، وهو أعلم منك بعمله؛
أعلم
منه بفلسفتك، وهو أعلم منك بطريق حكمته؛
أعلم
منه بخلافك، وهو أعلم منك بحقيقته؛
أعلم
منه بلغتك، وهو أعلم منك بخُلُقه؛
أعلم
منه بتفسيرك، وهو أعلم منك بذوقه؛
أعلم
منه بحديثك، وهو أعلم منك بصدقه؛
أعلم
منه ببيانك، وهو أعلم منك بحاله؛
أعلم
منه بشِعْرِكَ، وهو أعلم منك بإخلاصه.
الفنون
النوعية في العصابة الإنسانية لا تتناهى، والفنون العلمية متناهية بالنسبة للمدون،
فمتى قابلت المدون بالنوعي، رأيت أنك لو بلغت الغاية في كل مدون، أنت قاصر فيما لا
يحصى من النوعي، هذا نوع الإنسان، قال فيه ربك سبحانه: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ} جاء في الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم: (رُبَّ
حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ).
توسع
إذا حققت، وحقق إذا دققت، ولا تكن في سيرك إلى ربك كحمار الرحى غايته مبتداه! اقطع
عقبات الوجود بعلمك، بفهمك، بعقلك، بنظرك، باستدلالك.
سفَّه
قوم طريقَ الاعتبار لغلبة الطبع! فانحجبوا بظلمات الهوى وكثافة الضلال، وسفهوا أهل
النظر الصحيح جهلاً منهم! أولئك: {هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} (البقرة
(13}.
بادر
- أي أُخَيّْ - إلى ما لا بُدَّ له، وتَرَفَّعْ إلى فضلٍ تُذكر به في محافل قومك، ويُثْنَى
عليك به في الملأ الأعلى عند ربِّك، لتصير حميد السيرة في الملأينِ، ممدوح الخصال
في العالَمَيْنِ.
الرجل
من تظهر آثاره بعده، اجهد أن تبقي الأثر بعد العين، واجعله طيباً مرضياً، الحق
مكوَّر تحت الضلوع، توقن به أنفس الحاسدين، وتعترف به قلوب الجاحدين، وحسبك أن
تَقِرَّ لحقك أنفس حسادك ولو انعقدت عن النطق به ألسنتهم، وأن تعترف به لك قلوب
جاحديك ولو صرفهم عن التفوُّه به جحودهم، هذا شرف الحق فليفتخر المحق، وليبهج أهل
الحق.
رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة عيد الفطر وقد ملأ نوره عوالم الله تعالى
كلَّها، فقلت: الصلاة والسلام عليك يا روح العوالم، يا رسول الله! فقال صلى الله
عليه وآله وسلم: وعليك السلام فقلت: يا حبيبي علمني أشرف العلوم، فقال: (هو الوقوف
عند الحق: {وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} وحسبك).
اللهم
صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ونبيك ورسولك، سيد أهل الحق، الناصر الحق بالحق، محمد
أكرم عبيدك، وأشرف عبادك، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم
أرشدنا به للحق، واجعلنا ببركته من خاصة أهل الحق:
{رَبَّنَا
آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}.
يا
أهل دوائر الحق في حضرات الحق! قولوا الحق أين كنتم، وحيث وجدتم، امحقوا الباطل
بحقكم، افتحوا مُقَلْ الآدميين بميل الحق، ليتنبهوا من سِنَةِ غفلاتهم بكم قال
الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله}.
والنبي
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لئن يَهْدِيَ الله بكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ
لَكَ مِنْ حُمْر النّعم).
يا
فقيه، لا تصر مغلوباً لفقهك، فيغلب عقلَكَ، فتعلو وتطيش وتحرِّف، اِجعَلْك وفقهك
وكلَّ ما بلغه علمُك للحق، صر منصفاً لتنفع الناس وتنفع نفسك، طهر قلبك بذكر ربك، املأه
بالخوف منه تعالى ليصلح؛ إن القلب إذا صلحَ: صار مهبط الأسرار والأنوار والملائكة؛
وإذا فسد: صار مهبط الظُلَم والشياطين؛ وإذا صلحَ أخبرك عما أمامك وورائك، ونبهك
عن أمور لم تكن لتعلمها بشيء دونه؛ وإذا فسد حدَّثَك بأباطيل يغيب معها الرشد، وينتفي
السعد، فيا طوبى لمن أصلح الله قلبه.
أشرِكِ
الخلقَ كلَّهم في منفعتك، فإن أحب الخلق إلى الله أنفعهم للخلق، وصِرْ مادة نفع، فكل
من لم ينفع في الدنيا، لم ينفع في الآخرة!
صحح
اليقين بإشارات الصالحين، وزكِّ نفسك بفقهك، فإن النفس على ثلاثة أضرب:
نفس
أمارة بالسوء: وهي نفس الجاهلين والعاصين.
ونفس
لوَّامة: وهي نفس المؤمن، تسره حسنته، وتسوؤه سيئته.
ونفس
مطمئنة: وهي نفس الموقنين العارفين المنقطعين إليه، فإن من عرف الله حق معرفته، قطعه
إليه بكليته.
قل
لأرباب الغفلة: مجالسنا مجالس الأحزان والمآتم، لأن الفقير لا يزال متأسفاً على ما
فاته من الفضائل، يرجو الحقَّ ويخافه، فإن سمع شيئاً يشير إلى المفاصلة خاف، وإن
سمع شيئاً يشير إلى المواصلة رجا، وإن دعي أجاب، وإن سمع ردّاً بَكَى وهَاب، تسير
به الفطنة في هذه المجالس لاقتناص شوارد الحكمة، حتى يصير من أهلها؛ قال الله
تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً}. سورة البقرة (269)
أفيضوا
نفعكم على الخلق كلهم، فإن المؤمن كله: بركة، ورحمة، ونفع، أينما كان، تعاونوا على
مصالح دينكم ودنياكم، يد الله مع الجماعة، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى
الْبرِّ وَالتَّقْوَى}. سورة المائدة (2)
وإياكم
والتعاون على ظلم الخلق وشهوات النفوس، قال الله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. سورة المائدة (2) شرف الأمة بالتعاون على مصلحة الدنيا
والدين.
التجربة
السارية بحكم الوضع الأصلي في النوع الآدمي تقول: هلك المتفرقون! اعرفوا حق
العصائب الزكية في الأمة، حَطَّهم الزمان أوْ رفعهم، أضعفهم أو أقواهم. لذوي
البيوتات في قلوب العامة سلاسل تهزها بحال ما يصل إليها.
لا
تهدموا شرفات بيوت مجدكم بخسة الطباع، وسوء الحال! فإنَّ أولَ بانٍ للمجد رتَّب
عليكم حقوقاً: أعزها حفظ مجده من بعده، لا تقصر هممكم عن أن يتصدر كل واحد منكم
فيبنيَ مجداً ثانياً فوق المجد الأول، هذا سيد أهل المجد، وأمجدُهم وأعظمهم عند
الله والناس، مولانا ووسيلتنا إلى ربنا، وسيدنا محمد رسول الهدى صلى الله عليه
وآله وسلم، بنى للمسلمين بيتَ مجدٍ إلهي - ديني ودنيوي - جمع بين شَرِفَيِ المادة
والمعنى، ووفق بين عزمي الآخرة والأولى، فانظروا كيف تَخلفوه في حفظ مجد هذا الدين
المتين، والكتاب المبين، ابذلوا لإعلاء كلمة مجده الرباني المحمدي: الأموال
والأنفس، قفوا عند حده، لا تنحطوا عن هذه الرتبة السعيدة، فإن الانحطاط عنها
مخالفة، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. سورة النور (63)
إذا
رأيتم المنتصر لنبيِّه فانصروه، وأعزوا كلمته، فإنَّ في ذلك من النفع في دينكم
ودنياكم ما يقصر عنه وصف الواصف، ويَكِلُّ عنه لسان المُعَبِّر.
ما
أحطَّ همةَ مَنْ عارَض رجلاً يسعى لإصلاح شأن الدِّين منتصراً للنبيِّ الأمين صلى
الله عليه وآله وسلم، أفًّ له، لا عقل له، قامت هذه الحجة على كل آدمي، ووجب عليه الانتصار
لكلمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لوْ فَقِهَ: عَلِمَ أنه هو الذي شاد
منار العدل، وأوضح المَحَجَّة، وأقام الحُجَّة، وأوقع الطمأنينة في القلوب، وكفَّ
بشرعه الكريم أيديَ الناس عن الناس، ومهَّد بنيان الأمن والإيمان، وقاتل لله على
كلمة الله، ليذيع سر عدل الله في ملك الله، وليُفْرِغَ حكمَ أمان الله في خلق الله،
وهو الذي ساوى بشرعه بين الأمير والمأمور، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والصغير
والكبير، والشريف والمشروف، وكلهم عنده في الله سواء.
وهو
الذي هدم قواعد البغي، ومحق أساس الجُوْر، وبدَّد أركان الظُّلْم، وبسط بساط
الراحة والبركة، وصان الحقَّ وحمى أهله، وأقعد الناس على صعيد واحد، وأرتعهم في
بحبوحة الأمان من طوارق وعَثَاء النفوس الباغية، والطباع المتسلطة العادية، ودلَّ
على الله، وأرشد إلى الله، وهذَّب الأخلاق، وذكَّر بالله، وربط القلوب بحبل الله، وعقدها
على محبة الله، وفتك وأحسن، وقطع ووصل، وكلُّ فعاله لله، إعزازاً لدين الله، وإنقاذاً
لخلق الله من وهدة العيوب القاطعة عن الله، فهو أمين الله على خلق الله في بلاد
الله إلى أن يُحْشَر الخلقُ إلى الله، والأمر يومئذ لله، فمن أراد الله به خيراً
فقَّهَهُ في الدِّين، ودلَّه على هذا الطريق الأمين، فهجر المكابرة والعِناد، وتمسك
بحبل الهدى والسَّداد، وأخذ كلمة الحق باباً، فدخل بها منها إلى حضرة أمان الله، مؤمناً
بالله، وبكتاب الله، وبكل ما جاء من عند الله، إلى سيدنا محمد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
أيُّ
شريعة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام - وهم إخوانه - جاءت بمثل شريعته؟ وأيُّ
طريقة للمرسلين - وهم عياله - وفَّتْ بمثل طريقته؟ امتازهم الله على الناس فأعزهم
بالنبوة والرسالة، وامتازه الله على جميعهم فأيده الله مع النبوة والرسالة بالحكمة
والبيان، وعلو الهمة، وشدة العزم، قيل له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ} علماً أزلياً بأنَّ حُكْم قابلية ذاته يقدم بصبرهم كلهم، فالعارف من
كان عاقلاً، والعاقل من كان حكيماً، والحكيم من كان مسلماً؛ وإلا، فالعارف إذا لم
يكن عاقلاً فهو مُوَسْوَس، والعاقل إذا لم يكن حكيماً فهو مخلِّط، والحكيم إذا لم
يكن مسلما فهو واهم.
الإسلام
روح الحكمة قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ}.
أتى
الإسلام بالبرهان القاطع، والحكم الصادع، فعقد العقول على الحق بالحق، وأوقفها أن
تجمع شأنها على ما لا حقيقة له من قول وعمل، يُحيط العقل، ولكن هاتِ العقل الكامل
وأَحِطْ به الإسلام، وخذه على مفكرتك، وتدبره بعدُ بعين فقهك وبصيرتك تجده نوراً
في قلبك، وحالاً في عزمك، وبركة في سِرِّك، وطمأنينة في خاطرك، وقوة في عزيمتك، ورياضة
في طبعك، وعصمة في أمرك، وبياناً في لسانك، وشرفاً في صفاتك، وعزاَ في طَوْرك، ومجداً
في سلوكك، وزيادة في نخوتك، وحِصناً في معيشتك، وركناً في همتك، وأماناً في آخرتك،
ورِبحاً في دنياك.
وإذا
لم يفقه عقلك من الإسلام - بعد أن يُعْمِل الإحاطة به - هذه الأسرار الباهرة، فاتَّهِم
عقلك، فإنه ما أحاط به ولا فهم ولا فهم فقهه، ولا وصل إلى سِرِّه!
قامت
لربي به الحجة قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(78 الحج) أخذت به قابليات الطباع حظوظها في دائرة لا تعد، والحكمة لا تنحرف عن
الصواب قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} صفت مناهله، وطابت
مشاربه.
عجبا
للجاهل يكتسي بكسوة العُيَّاق، فيرى الآخر مكتسياً بكسوة التجار فيسقطُ من عينه، وذاك
يرى الآخر مكتسياً بكسوة الجند فيسقط من عينه، وذاك يرى الآخر مكتسياً بكسوة
الفقراء فيسقط من عينه! وهلم جرّاً.
يا
من عقل عقله بعِقالِ الكَساوي المجردة، خذ الحكمة أين وجدتها، ولا تنظر إلى مصدرها،
انطمِسْ عن المصدر، وخذها، ومن أي محل صدرت فلتصدر، هي القصد، وفيها المطلوب، ولا
تُتبع الحبل الدلوَ، أوقف الأمور عند حدودها، نَقِّ نظرك حتى يرى الحِكَم، وينصرف
عن مصادرها ومواردها.
كن
عالماً بما لَكَ وما عليك، وأرجع نظرك إليك، تفكر بعوالم الله تعالى، عالم الماء، في
كل جرعةٍ منه من العوالم العجائب! عالم الهواء، في كل شمة منه من العوالم الغرائب!
نشر
الباري المقيم أسرار ربوبيته الباهرة وعظمته القاهرة، وعجائب سلطنته القادرة في كل
شيء وقال لك: اعتبر أيها الإنسان بنص: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارَ} فإن
أدركت حكم العبرة في الفكرة، ووصلت إلى سرها المطوي، وعالمها المخفي، ووقفت عن
الغفلة، وسرت مع الحَذاقة، وجمعتَ عليك حالك، فقد فُزْتَ فوزاً عظيماً: {وَالله
وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} {الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ}.
هذا
نظام خاص لأهل الاختصاص، يهدي الله به من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد
لله في الأول والآخر، والباطن والظاهر، له الحكم، وإليه ترجعون.
نقلا عن موقع
بتنسيق دار الإيمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق