طرح السقط ونظم اللقط
للإمام
الحافظ جلال الدين السيوطي
بسم الله
الرحمن الرحيم
وبقه
ثقتي
الحمد لله وكفى, وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال العلماء: من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جمع له كل ما
أوتيه الأنبياء من معجزات وفضائل, ولم يجمع ذلك لغيره, بل اختص كل
بنوع.
وقالوا أيضا: ما أوتي أحد من الأنبياء فضيلة, إلا وأوتي صلى الله عليه
وسلم مثلها, وزيادة لم يؤتها غيره.
ولهذا قال الشيخ بدر الدين ابن حبيب في كتاب: "النجم الثاقب في اشرف
المناقب":
ولم يعط أحد من الأنبياء فضيلة مستفادة, إلا وقد أعطاه مثلها
وزيادة.
وعددوا لذلك أمثلة كثيرة.
منها: أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة, وبعث هو إلى الناس عامة. وزيد أن
بعث إلى الجن بالإجماع, وإلى الملائكة في أحد القولين.
ومنها: أن كتابه مشتمل على ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل والزبور, وفضل
بالمفضل.
عد هذه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في كتابه: "بدآءة السول فيما سنح
من تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم" أخذا من الحديث.
ومنها: أنه أوتي الخلّة كما أوتيه موسى عليه السلام, وزيد عليه الرؤية ، فجمع
له بين الكلام والرؤية معا.
ومنها: أنه جمع له بين النبوة والسلطان، عدّ هذه الغزالي في: "الإحياء". وكان
في بني إسرائيل وسائر الأنبياء يكون النّبيّ وحده، والسلطان
وحده.
ومنها: أن الأنبياء كان منهم من يصلي إلى الكعبة, ومنهم من يصلي إلى بيت
المقدس. فجمع له القبلتان, فصلى إلى الكعبة أولا, ثم وجه إلى بيت المقدس بالمدينة,
ثم وجه إلى الكعبة آخرا.
ومنها: أن كل نبي كانت له صلاة, فالصبح صلاة آدم, والظهر صلاة داود, والعصر
لسليمان, والمغرب ليعقوب, والعشاء ليونس, فجمع الخمس له.
هكذا قاله الرافعي في "شرح المسند" وتبعه الإسنوي في "شرح المنهاج" لكن
الثابت في الأحاديث الصحيحة أن العشاء خصيصة لم يصلها أحد قبل هذه
الأمة.
فعلى هذا, يكون جمعت له الصلوات الأربع التي كانت متفرقة في الأنبياء,
وزاد عليهم بصلاة العشاء.
وأمثلة ذلك كثيرة, وما ذكرناه أنموذج يكتفى به لما نحن
بصدده.
فصل
قلت في كتابي : "أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب صلى الله عليه وسلم" ما
نصه: "وجمعت له الشريعة والحقيقة, ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما, بدليل قصة موسى مع
الخضر وقوله: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه, وأنت على علم لا ينبغي لي أن
اعلمه".
فسأل سائل عن وجه الخصيصة في هذا, وذكر أن معترضا اعترض هذا الكلام
وقال: انه يقتضي أن من الأنبياء من لم يكن يعرف علم الحقيقة. وفي ذلك من المحذور ما
لا يخفى, فان الواحد من الأولياء يعرف علم الشريعة والحقيقة معا, فما ظنك
بالأنبياء؟
قلت للسائل: مثل هذا لا يسمى اعتراضا عند أئمة العلم والتصنيف, وإنما
يسمى: سوء فهم, فان الإفهام السقيمة يحدث منها خواطر رديئة, فلا يعد مثل ذلك
اعتراضا, وإنما هو داء جهل يحتاج في برئه إلى طبيب, وذلك الطبيب هو الموقف والمدرس
والمقرر لمعاني ألفاظ الكتاب, ولو كان كل من استشكل شيئا من عبارة كتاب بحسب سوء
فهمه وسقم نظره, عد ذلك اعتراضا, لكانت غالب كتب الناس وعباراتهم معترضة من هذه
الحثيثة.
ولهذا قال الرافعي في خطبه "الشرح الكبير": وربما يلتبس على المبتدئين
والمتبلدين, أمور من الكتاب, ويطمعون في اشتمال هذا الشرح على ما يشفيهم ولا يظفرون
به, فيعلمون أن السبب فيه: أن تلك المواضع لا تستحق شرحا يودع بطون الأوراق, والصور
في إفهامهم. فدواؤهم الرجوع إلى من يوقفهم على ما يطلبون". هذا لفظ
الرافعي.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب: "الفرقة": لو سكت من لا يعلم, قل
الخلاف.
وقال الحافظ جمال الدين المزي في كتابه: "تهذيب الكمال": لو سكت من لا
يدري, لاستراح وأراح, وقل الخطأ وكثر الصواب". انتهى.
فالأولى بذوي العقول السليمة والأذهان القومية والإفهام المستقيمة,
الأعراض عن سقط أولي السقط, ومغالطات أهل الهذيانات والغلط, وصرفهم إلى من بينه
وبينهم مشابهة, ممن في قلبه مرض أو فساد, أو نزعة عرق إلى التبديل والتحريف
والعناد.
فصل
فان قلت: المقصود إيضاح معنى العبارة, ليفهمها من له غرض في الفائدة من
أهل الدين والتقى.
قلت: نعم, المقصود من هذه الخصيصة: انه صلى الله عليه وسلم إذن له أن
يحكم بالشريعة والحقيقة معا, ويعمل بمقتضى كل منهما, خصيصة له تفرد بها عن سائر
الخلق.
أما الأولياء من أمته, فليس لهم العمل بالحقيقة ولا الحكم بمتقضاها
بإجماع المسلمين, وإنما يعملون بالشريعة فقط.
قال القرطبي: "أجمع العلماء عن بكرة أبيهم, انه لا يجوز للحاكم أن يقتل
بعلمه".
وقال الحافظ ابن دحية: "اختص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان له قتل
من اتهمه بالزنا من غير بينة, ولا يجوز ذلك لغيره" انتهى.
ولو رفع إلينا ولي قتل غلاما أبواه مؤمنان واحتج على ذلك بأنه كشف له
أنه طبع كافرا, لقتلناه قصاصا بحكم الشرع بالإجماع. لأنه صلى الله عليه وسلم لم
يأذن لأحد من أمته أن يحكم بالحقيقة في قتل ولا غيره.
ولو أراد أحد من أرباب الكشف أن يقتدي بإمام وبينه حائل في غير المسجد
يمنع صحة الإقتداء, لحكمنا ببطلانه صلاته, ولم نعرج على ما يقع له من الكشف الذي
ترفع فيه الجدران, وتزال فيه الحجب, لأن الأولياء وغيرهم مكلفون بالعمل
بالشرع.
وقد نص أهل الحقيقة, على انه لا يعمل بالحقيقة, وإنما هلي علم لا عمل,
فلم يكن لأحد من الأولياء في ذلك مساواة بالنبي صلى الله عليه وسلم معاذ
الله.
وأما الأنبياء السابقون, فمنهم من بعثه الله تعالى ليحكم بالشريعة فقط ويعمل بها, كموسى
عليه السلام, ولم يؤذن له أن يحكم بالحقيقة ولا يعمل بها, وان
علمها.
ومنهم من بعث ليحكم بالحقيقة فقط ويعمل بها, كالخضر عليه السلام, ولم
يؤذن له أن يحكم بالشريعة, وان علمها.
يبعث الله من أنبيائه من يشاء بما يشاء, كما يبعث هذا النبي بشريعة,
وهذا النبي بشريعة أخرى تضادها, كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.
سورة المائدة.
ولهذا أبيح في ملة غيرنا أشياء حرمت في ملتنا,
وبالعكس.
وكم من حكم وجب في ملة أخرى, وما نحن فيه من ذلك.
فان أذن الله لنبي أن يحكم بالشريعة دون الحقيقة, وانه لا يقتل إلا
بالغا ثبت كفره باعتراف أو بينة, ولا يقتل صبيا بإطلاعه على انه طبع كافرا. أو إذن
لنبي آخر أن يقتل بالطريق الثاني دون الأول, فأي محذور من
ذلك؟.
ولهذا ما أنكر موسى عليه السلام على الخضر إلا عملا وحكما, وهو القتل
وما ذكر, ولم ينكر عليه علما, وأجابه الخضر عن إنكاره بقوله: {وما فعلته عن أمري}
سورة الكهف. فما ذكر إلا الفعل دون العلم.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فانه أذن له أن يحكم بهذا أو بهذا,
خصوصية اختص بها من بين سائر الخلق, وفضيلة آتاه الله تعالى إياها. وسيأتي ذكر
الأحاديث الدالة على ذلك.
وهذا التقرير الذي قررناه من أن المراد: الحكم والعمل, هو الذي شرح به
الشيخ سراج الدين البلقيني الحديث, وقول الخضر لموسى: إني على علم من علم الله
علمنيه, لا ينبغي لك أن تعلمه, وأنت على علم علمكه الله لا ينبغي لي أن اعلمه. فقال
ما نصه:
"هذا قد يشكل, فان العلم المذكور في الجهتين كيف لا ينبغي
علمه؟.
قال: وجواب هذا: حمل العلم على تنفيذه, والمعنى: لا ينبغي لك أن تعلمه
لتعمل به, لأن العمل به مناف لمقتضى الشرع, ولا ينبغي لي أن اعلمه فأعمل بمقتضاه,
لأنه مناف لمقتضى الحقيقة.
قال: فعلى هذا لا يجوز للولي التابع للنبي صلى الله عليه وسلم إذا اطلع
على حقيقة, أن ينفذ ذلك بمقتضى الحقيقة, وإنما عليه أن ينفذ الحكم الظاهر",
انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي في "تفسيره": "ما فعله الخضر من قتل الغلام
لكونه طبع كافرا, فهو مخصوص بذلك. لأن المعلوم من الشريعة, انه لا يجوز قتل صغير,
ولا سيما بين أبوين مؤمنين.
قال: ولو فرضنا أن بعض الأولياء أطلعه الله على حال صبي كما أطلع الخضر,
لم يجز قتله على ما اقتضته الشريعة, وإن كان قد ورد عن ابن عباس لما كتب نجدة
الحروري إليه يسأله عن قتل الصبيان, فكتب إليه ابن عباس: "إن كنت الخضر يعرف المؤمن
من الكافر, فاقتلهم".
فإنما قصد ابن عباس بذلك دفع محاجة نجدة وإحالته على شيء لا يمكن, وقطع
طمعه عن الاحتجاج بقضية الخضر. وليس مقصوده انه إن حصل ذلك, يجوز القتل. فهذا مما
لا تقتضيه الشريعة, لأن الكفر ليس بناجز الآن, بل فيما بعد. فكيف يقتل بسبب لم
يحصل, والقطع بان المولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان
حقيقي.
وإنما محمل قضية الخضر على أن ذلك كان شرعا له مستقلا, عند من يرى أن
الخضر نبي", انتهى كلام السبكي.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له في ذلك ليحوز كل فضيلة أوتيها
نبي من الأنبياء. أشار إلى ذلك الإمام بدر الدين ابن الصاحب في "تذكرته", ووجدت في
الأحاديث شواهد لذلك.
فأخرج ابن أبى شيبة, وأبو يعلى, والبزار في "مسانيدهم", والبيهقي في
"دلائل النبوة" عن انس قال:
ذكروا رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا قوته في الجهاد,
واجتهاده في العبادة, فإذا هم بالرجل مقبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني
لأرى في وجهه سفعة من الشيطان", فلما دنا سلم ثم ذهب فاختط مسجدا ووقف يصلي. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يقوم إليه فيقتله؟" فقام أبو بكر فانطلق, فوجده
يصلي فرجع, فقال: وجدته يصلي, فهبت أن اقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيكم يقوم إليه فيقتله"؟, فقام عمر فصنع كما صنع أبو بكر, فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أيكم يقوم إليه فيقتله"؟, فقال علي: أنا, قال صلى الله عليه وسلم: "إن
أدركته" فذهب فوجده قد انصرف, فرجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أول
قرن خرج من أمتي, لو قتلته ما اختلف اثنان بعده من أمتي". فهذا من الحكم بالحقيقة,
لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ما يؤول إليه أمره آخرا, ولم يكن إذا ذاك بدا من
المحذور, ولهذا توقف فيه أبو بكر وعمر في
قتله.
ومثل هذا, ما أخرجه الحاكم في: "المستدرك" وصححه عن الحارث بن حاطب: أن
رجلا سرق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي به, فقال: "اقتلوه", فقالوا:
انه سرق, فقال: "فاقطعوه". ثم سرق أيضا فقطع, ثم سرق على عهد أبى بكر فقطع, ثم سرق
فقطع حتى قطعت قوائمه, ثم سرق الخامسة. فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم اعلم بهذا حيث أمر بقتله, اذهبوا به فاقتلوه, فقتلوه. فأمره صلى الله عليه
وسلم بقتل هذا السارق أولا من الحكم بالحقيقة, ولهذا راجعه الصحابة وقالوا: إنما
سرق, أي: وحد السارق في الشريعة إنما هو القطع لا القتل. ولكنه صلى الله عليه وسلم
اطلع على حقيقة هذا الرجل, وانه يستحق القتل في الباطن, فأمر به. ولهذا أنفذ أبو
بكر أمره صلى الله عليه وسلم لما سرق الخامسة, وإلا فالسارق لا يقتل في الشريعة, لا
في الخامسة ولا في غيرها, كما نقل الخطابي الإجماع على ذلك.
ومن حكمه صلى الله عليه وسلم بالشريعة والحقيقة معا: قوله في الولد
المدعى: "هو لك يا عبد بن زمعة, الولد للفراش, وللعاهر الحجر. واحتجبي منه يا
سودة". فلم تره قط. فحكم بالولد للفراش على ما هو الشرع, وأمر سودة أخته بالاحتجاب
منه عملا بالحقيقة, لاطلاعه على باطن الأمر, ونسبته من عتبة وأبيه, وانقطاعه عن
زمعة وسودة.
ولو اختلف الآن في ولد وقضي به للفراش, لم تحتجب منه أخته, وان كان
الشبه بالآخر ظاهرا.
ومن حكمه صلى الله عليه وسلم بالحقيقة: ما أخرجه الطبراني في "معجمه" عن
زيد بن ثابت قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا الأعرابي سرق هذا
البعير, فرغا البعير ساعة وأنصت له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للرجل:
"انصرف عنه, فان البعير شهد عليك انك كاذب".
وفي "مستدرك" الحاكم من حديث ابن عمر قال: شُكِيَ أعرابي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم أنه سرق ناقة, فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالكرامة, أن
هذا ما سرقني, ولا ملكني أحد سواه. وقد وردت أحاديث مرفوعة وموقوفة, أن إبراهيم
عليه السلام لما أُرِيَ ملكوت السماوات والأرض, أراد أن يعمل بمقتضى الحقيقة فنهاه
الله عن ذلك.
فصل
فان قلت: فهلّا كانت العبارة: "وجمع له بين الحكم بالشريعة والحقيقة,
ولم يكن للأنبياء إلا الحكم بأحدهما".
فكان يستراح من هذا الحكم الفاسد.
قلت: ذلك لوجوه.
أحدها: أن الكتاب مبنيٌ على الإيجاز والاختصار, ولهذا لما سقت الحديث لم
أورده بكمال لفظه, بل حذفت منه ألفاظا طلبا للإيجاز.
والثاني: أن الكلام يعطي بجوهره, ومنطوقه أن المراد: الحكم, لا العلم, لأنه سيق
لبيان ما بعث به صلى الله عليه وسلم, وانه كما كانت بعثته صلى الله عليه وسلم عامة
من حيث المبعوث إليهم, فكذلك هي عامة من حيث المبعوث به. فبعث ليعمل ويحكم بالشريعة
والحقيقة معا, فكان ذلك مأخوذا من منطوق اللفظ وجوهره.
الثالث: أن (اللام) تعطي ذلك حيث عبر بها, ولم يعبر بـ (في) فان العلم انسب بـ
(في) من (اللام), لأنه كالمظروف وصاحبه كالظرف له, وإباحة العمل والحكم تشبه
التمليكات, فكانت (باللام) انسب. ولهذا يقال: لفلان العمل بكذا, وليس له العمل
بكذا, أو له الحكم بكذا, وليس له الحكم بكذا. ولا يقال: لفلان العلم بكذا, أو ليس
له العلم بكذا. ولهذا استشكل لفظ الحديث, فان العلم المذكور في الجهتين ليس مما لا
يبتغى علمه حتى احتيج إلى تأويله بالتنفيذ, كما تقدم في كلام
البلقيني.
الرابع: أن الجملة المعطوف عليها ترشد إلى ذلك, وهي قول: "وجمع بين القبلتين
والهجرتين". فان المقصود فيهما الجمع من حيث العمل بلا ريب, لا من حيث العلم, فكذلك
المعطوف.
الخامس: أن لفظ: العلم: لم يذكر في هذه الجملة, وما كان الاعتراض متأت إلا لو
قيل ـ والعياذ بالله ـ ولم يكن الأنبياء يعلمون إلا أحدهما. ومعاذ الله أن يقال ذلك
أو يخطر بالبال. فليت شعري ما الذي سوغ لهذا المعترض أن يعترض على لفظ لا وجود له
في العبارة. فان زعم انه قدره حتى اعترض عليه, فما الذي سوغ له تقدير اللفظ الفاسد.
وهلا قدر اللفظ المناسب الذي يتعين تقديره.
السادس: أن قولي: "بدليل قصة موسى مع الخضر", يرشد إلى ذلك, فان موسى عليه
السلام لم ينكر على الخضر العلم, وإنما أنكر العمل والحكم بمقتضاه, لأن خلاف
الشريعة, فأخبره أن الله أمره أن يفعل ذلك ويحكم بمقتضاه.
السابع: ذكري في "الخصائص الكبرى" حديث المصلي الذي أمر بقتله, وحديث السارق
الذي أمر بقتله مستشهدا بهما على ذلك, يرشد إلى أن المقصود الحكم والعمل, لا العلم.
و"الخصائص الصغرى" مختصرة من "الكبرى" فما كان في "الصغرى" وجيزا يدق فهمه على
البليد, يطلب شرحه وبيانه من "الكبرى".
الثامن: أن العقل والنقل يرشدان إلى أن المقصود: الحكم والعمل, لا العلم, لأن
من المستحيل أن يخطر ببال عاقل أن من الأنبياء من لم يحصل له علم الحقيقة, كيف
والوحي يأتيهم صباحا ومساء, وقد اطلع عليها من هو دونهم
بكثير.
وأشد من ذلك استحالة: أن يخطر ببال أحد, أن من الأنبياء من لم يحصل له
علم الشريعة. هذا لا يخطر ببال مسلم, ولا كتابي. فلما كان ذلك من المستحيلات, كان
العقل مرشدا إلى أن المراد الحكم دون غيره, فقد يأذن الله لنبي أن يحكم بهذا, ولم
يأذن له بالحكم بالآخر مع علمه بالأمرين. كما وقع ذلك لإبراهيم عليه السلام حيث
أراه الله ملكوت السماوات والأرض, وجلّى له الأمر سره وعلانيته, فلم يخف عليه شيء
من أعمال الخلائق. فلما أراد أن يعمل بمقتضى ذلك, نهاه الله عز وجل عنه, كذا ورد في
الحديث. على أن السبكي سّمى الحقيقة المأذون لنبيها في الحكم بها شريعة, حيث قال:
"محمل قضية الخضر على أن ذلك كان شرعا له مستقلا". وحينئذ فيقال في الخصوصية: أن
النبي صلى الله عليه وسلم أذن له أن يحكم بالشريعتين الظاهرة والباطنة, المبعوث بكل
واحدة منهما طائفة من الأنبياء, فجمعا له تشريفا وتعظيما لمنصبه الشريف, وتكون
الشريعة الباطنة هي المعبر عنها في عباراتهم بـ "الحقيقة".
التاسع: أن صيغة: "ما كان لزيد كذا, أو لم يكن له كذا" صيغة منع من التصرف
والتنفيذ, والمنع من التصرف بالشيء إنما يكون بعد العلم به. وأما قبل العلم به, فلا
يتأتى المنع. ولهذا لم ينع إبراهيم عليه السلام من التصرف بالحقيقة, إلا بعد تجلي
الأمر له وإطلاعه عليه. فلفظ الكتاب بجوهره يعطي علم الأنبياء بالأمرين, وأنهم
منعوا من التصرف بهما معها, وأذن لهم في التصرف بأحدهما فقط, إما هذا وإما
هذا.
العاشر: أن صيغة "لم يكن للأنبياء" صيغة منع ونفي إباحة. وهي مختصة بالأفعال
لان الإباحة وضدها من متعلقات الأفعال, لا الذوات ولا الصفات, كما تقرر في أصول
الفقه. فاللفظ يعطي بمنطوقه: أنهم منعوا من التصرف بالأمرين معا عملا وحكما
وتنفيذا, وأبيح لهم التصرف بأحدهما فقط. وليس في اللفظ ما يدل على العلم البتة, لان
العلم من الصفات التي لا يتعلق بها منع ولا إباحة. وكل من شد أطرفا من مبادىء أصول
الفقه يعرف ذلك.
الحادي عشر: وهو أدق الوجوه, أن العبارة سيقت مبهمة على نسق إبهام الحديث لتكون
جارية على كل قول قاله عالم في تفسير الحديث, وصالحة له ومحتملة. وان كان المقصود
الأرجح عندنا ما قدمناه من أن المراد الحكم, وكلامنا في "الخصائص الكبرى" مبنى
عليه. لكن من دأب العلماء الراسخين أن يأتوا في تصانيفهم بالجملة المأخوذة من حديث
على نسق الحديث تبركا به, وتأدبا معه. وأكثر الناس فعلا لذلك, الشيخ أبو إسحاق
الشيرازي في "التنبيه" كقوله: "فإن كان قام من النوم, كره أن يغمسها, وذلك لا يختص
بالقائم من النوم". قالوا: تبرك الشيخ بلفظ الحديث, ووقع له ذلك في عدة أماكن,
فكذلك اقتديت به وبأمثاله, وجئت بالعبارة من غير تصريح بلفظ الحكم وان كان هو
المراد, جريا على نسق الحديث تبركا وتأدبا, وليحتمل جميع التأويلات المقولة في
الحديث, وسنشير إليها.
فصل
فظهر بهذا التقرير: أن معنى التركيب: "وجمعت له في البعثة الشريعة
والحقيقة" أي: بعث بهما معا ليعمل بكل منهما, ويحكم بمقتضاه. ولم يكن للأنبياء في
البعثة إلا أحدهما, أي لم يبعث أحد بهما معا, بل منهم من بعث بالشريعة يعمل بها
ويحكم. ومنهم من بعث بالحقيقة يعمل بها ويحكم, مع علمهم أجمعين بالشريعة والحقيقة
معا, ولا يلزم من عدم البعثة بشيء عدم العلم به, كما انه لا يلزم من العلم بالشيء
البعثة به.
فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم عالما بجميع الشرائع السابقة ولم يبعث
بكثير منها, كقتل النفس في التوبة, وفقء العين من النظر إلى المحرم, ووجوب ربع
المال من الزكاة, وقرض موضع النجاسة من البدن والثوب, وتحريم كل ذي ظفر ونحوه,
وإباحة التصوير في أشياء أخر.
فان قلت: قد يفهم من كونه بعث بالشريعة والحقيقة معا, أن ذلك مستمر في
أمته.
قلت: لا بل بعثته بالشريعة هي المستمرة في أمته, وبعثته بالحقيقة خاصة
في نفسه, كوجوب الضحى والأضحى, وتحريم الشعر والكتابة, وإباحة نكاح أكثر من أربع
نسوة, إلى غير ذلك.
تنبيه: إن كان المعترض فهم أن المراد بالحقيقة في كلامي علم التصوف
المذكور في الكتب الذي يقول المترجمون في بعض من برع فيه: كان من علماء الحقيقة,
وكان من العلماء الجامعين بين الشريعة والحقيقة.
فهذا انسب الأشياء به أن يعد في زمرة المجانين. وان كان فهم أن المراد
به الكشوفات التي تقع للأولياء ويطلعون فيها على بعض المغيبات وأسرار الملكوت, فلا
أحد من الأولياء يساوي في ذلك أحدا من الأنبياء, معاذ الله.
وقد قال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله: "الأنبياء يطالعون بحقائق
الأمور, والأولياء يطالعون بمثالها".
وفي "كفاية المعتقد" لليافعي قال بعضهم: "اليقين": اسم, ورسم, وعلم,
وعين, وحق. فالاسم والرسم للعوام, والعلم علم اليقين للأولياء, وعين اليقين لخواص
الأولياء, وحق اليقين للأنبياء, وحقيقة حق اليقين اختص بها نبينا صلى الله عليه
وسلم.
فصل
وفي الحديث تأويل ثان, وهو أن المنفي في الجانبين علم الجميع, وعلى ذلك
مشى حافظ العصر أبو الفضل بن حجر العسقلاني في "شرح البخاري" فقال: قوله: " لا
ينبغي لك أن تعلمه". أي جميعه, وكذا قوله: "لا ينبغي لي أن اعلمه" أي
جميعه.
قال: و"تقدير ذلك متعين, لان الخضر كان يعرف من الحكم الظاهر ما لا غنى
بالمكلف عنه. وموسى كان يعرف من الحكم الباطن ما يأتيه بطريق
الوحي.
وقال القرطبي في "شرح مسلم": "قوله: "أن لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم
منك" أي بأحكام وقائع مفصلة, وحكم نوازل معينة, لا مطلقا. بدليل قول الخضر لموسى:
"انك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا, وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه
أنت".
قال: "وعلى هذا, فيصدق على كل واحد منهما انه اعلم من الآخر بالنسبة إلى
ما يعلمه كل واحد منهما, ولا يعلمه الآخر".
قال الحافظ ابن حجر: وفي رواية النسائي: "إن عبدا من عبادي آتيته من
العلم, ما لم أوتك". انتهى.
فان قلت: فعلى هذا التأويل, هل تثبت الخصوصية للنبي صلى الله عليه
وسلم؟
قلت: يمكن, ولكني لم اقصده بالعبارة. ووجهه أن يقال: أن خص بان جمع له
كل الشريعة وكل الحقيقة, وغيره من الأنبياء إنما يجمع له كل الشريعة وبعض الحقيقة,
أو كل الحقيقة وبعض الشريعة. ولم يجمع جميع هذه, وجميع هذه, إلا له صلى الله عليه
وسلم.
ولكن, إنما سقت الكلام لتقرير الخصوصية المصدر بذكرها, وهو الحكم
بالأمرين معا والتنفيذ بهما. ولم أسقه لبيان العلم, بدليل بسط ذلك في : "المعجزات
الكبرى" وإيراد حديث المصلي والسارق, شاهدان على ذلك.
خاتمة
ولو خطر ببالي أن في الناس من هو بهذا الفهم السيئ واللّدد, لكنت عبرت
بقولي: "وجمع له بين القبلتين والهجرتين, وبين الحكم بالشريعة والحقيقة", وأسقطت
إيراد الحديث فكان كل أحد يفهم المقصود ويتضح له المراد, ولا يلتبس على الغبي
والبليد, والجاهل والعنيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق